سورية... دوّامة القتل والفساد!

سورية... دوّامة القتل والفساد!

20 مايو 2018
+ الخط -
الغربة التي كنا نسمع عنها يوماً، والتي كانت مجرد حلم وردي راود أحلام الشباب، منذ الصغر، بهدف العمل والكسب المادي، تحوّلت اليوم إلى واقع معيش، وصارت تؤرّق أيامهم وتمضي بهم بعيداً إلى حيث الديار والأهل والأحبّة، واستذكار كل ما هو جميل في حياتهم!

لن نقول إنهم عاشوا تلك الأيام التي قضوها بقسوة، لا أبداً، بل إنها ما زالت تظلّلهم بناسها، وبإفرازاتها المستفيضة بالفرح، وتعد من أجمل الأيام التي عاشها اللاجئون السوريون وغيرهم، في بلاد النعيم، فكانت أفضل بكثير مما كان متخيّلاً، ما استدعى كثيرين منهم للبقاء فيها، والاندماج في مجتمعاتها.

إنَّ أفضال البلاد التي أوت نزوحهم وتشرّدهم وهيامهم كثيرة ولا يمكن أن ينسوها أو يتناسوها يوماً. زرعت فيهم بهجة الحياة، وقدمت، مجتمعةً، الشيء الكثير لكل من وطئت قدمه أرضها.

الخدمات كانت تفوق التصوّر، فضلاً عن الاحترام والود، وكثيراً ما كنا نتأمّل أن يتوافر ذلك للكثير من أهلنا في سورية وشعبها الطيّب البسيط الذي يُباد اليوم، بدم بارد، وينتزع من أرضه عنوةً، من قبل قيادة مجرمة، لا ضمير يؤنّبها، ولا ضير في أن تزيد الفتك بشعبها، وتقتل ما تريد وبدون أي رادع.


فالقتل هو معيار الحياة الذي تنشد. وها هي المدن والبلدات، وحتى القرى السورية، صارت تُدك بآلة القتل والدمار ولم تثن أناسها عن البقاء متشبّثين بأرضهم رغم مرارة الحياة وعفونتها، ما دفع أمةً بكاملها إلى النزوح والغربة مرغمة.

الإجرام، الذي أماط اللثام عن أسرة حاقدة لا تعترف بالإنسان. وكل ما يهمها هو الحصاد. الفوز بأيّ شيء باستثناء الإبقاء على الإنسان مجرداً من إنسانيته.

في البلاد التي احتضنت شبابنا الفارّين من هول ما حدث، للأسف، وما قدمته لكل الناس الذين دفعوا الغالي والنفيس لينجوا بأرواحهم مجتازين بذلك البحر بكل عنفوانه وجبروته، واختزل كثيراً من حياة أهلنا الذين كانوا ضحايا الدوّامة التي أنهكته وأدمته في مقتل.

وفي المقابل، نجد أنَّ كثيرين ودّعوا المدن السورية للحاق بركب الدول الأوروبية هرباً من المخاض العسير الذي تعيشه مدنهم وقراهم وشوارعهم الآمنة. هكذا شاءت الأقدار أن تفعل فعلتها. وفي هذا يتساءل كثيرون:
هل هم مقتنعون بهذه النتيجة؟! وهل أوروبا تختلف عن بقية الأماكن الأخرى، وبماذا تختلف؟ وما هو وجه الاختلاف بينها وبين بلدهم الأم؟ وهل هم راضون بكل هذه المعطيات؟ وبعد كل الذي حدث، وإن حصلوا على جنسية أية دولة أوروبية، أو حتى جنسية الولايات المتحدة الأميركية، العملاق الاقتصادي الضخم، هل ينسيهم هذا حبهم وولاءهم لبلدهم؟!

وهل هم مقتنعون بالغربة أصلاً، والبعد عن الأهل والأحبّة والديار، وجلسات الحارة الساخنة، بأحاديثها المفرحة، وسلام المارّة، بما يحمله من تحية مفعمة بالحب لذلك الشيخ، ولتلك العمّة، وذاك الطفل؟

لا أظن أنَّ الحصول على جنسية أي بلد يمكنه أن يلفظهم عن بلدهم ويبعدهم عنه. ذاك البلد العظيم الذي ترك في قلبهم غصّة، وغصّة لها عنوانها العريض.

وعلى الرغم مما هم فيه اليوم، من بهرجة الإقامة، والتفاخر بها من قبل الغالبية من المغتربين الذين سبق أن حصلوا عليها، وممن ينتظرون دورهم، والأحاديث الجانبية التي لا ينفك مجلس محلي في الرَّقة وفي غيرها عن الخوض فيها، على الرغم من الخراب الذي أصابها، أو في غيرها من المدن السورية، والحديث الرئيس الذي يصف واقع المغتربين وأحوالهم، وواقع معيشتهم بعد أن عانوا ما عانوا من حرمان وفقر مدقع، وتكبّدهم مشاق السفر، فضلاً عن ضياع وقت طويل لأجل الوصول إلى الوجهة التي يرغبون فيها، سواء إلى ألمانيا، هولندا، النمسا، فرنسا، أو إلى السويد، بريطانيا، الدنمارك، فنلندا، وغيرها كثير من الدول الأوربية، فضلاً  عن الأموال التي خصصت من أجل السفر إلى هذه الدول، وتعرّض المغامرين للموت المحقّق، وفوق ذلك المعاناة التي تمخّضت عنها تلك المغامرة الخاسرة، علاوة على تأمين المبالغ الضخمة التي صرفت حيالها.

هي مغامرة خاسرة، وبكل الأحوال، بالإضافة إلى ما صرف لقاء الوصول إلى هذه الدول من مبالغ مالية فاقت آلاف اليورو من العملة الصعبة للشخص الواحد، فضلاً عن المعاناة التي تجاوزت الأشهر الستة، قضوها بين الغابات والعواصف، والرياح والأمطار، ومخاطر البحر والموت الزؤام.

وأكثر ما استغربه أنَّ كثيراً من المهاجرين، بصورةٍ خاصة من لجأ إلى البلاد الأوروبية، لا حديث يراود ذاكرته، في هذه الأيام، إلّا العودة إلى الوطن، والرغبة في تجسيد ذلك، متناسياً الواقع المرير الذي يعيشه أهلنا هناك، وحال الحرب الدائرة التي أتت على كل شيء.

ما مبرّر ذلك كله ما دام يعرف حقيقة ما يحدث؟
إنها مجرد ترّهات يُشعرنا بها ذاك الذي يكثر الحديث، ويذرف الدموع ويتباكى على وطن دمّر واغتصب ونهب، ذاك الذي أرّقت الغربة مضجعه، بذريعة أن الحياة لا يمكن لها أن تستمر بعيدةً عن الوطن.

هكذا يدَّعون في العلن وأمام الناس، وهم في الحقيقة بعيدون كل البعد عن اللحاق بالوطن والعودة إليه لأنهم لا يملكون مقوّمات العودة والعيش في وطن تهاوى وذل وفقد، وفي الوقت الذي لم يعد الوطن يقوى على ما يُقدمه لأبنائه، فلماذا إذن كل هذا العويل والصراخ الذي لا يُغني ولا يسمن من جوع.

هذه النداءات، التي تنطق بها الألسن قبل القلوب؛ إنها مجرد رؤية ساذجة يُراد منها تضليل الآخرين، واستذكار الماضي بكل جدبه ومنغصاته.

الباب ما زال مفتوحاً لمن يرغب في العودة إلى سورية ــ الوطن، فأي عودة ينشد هؤلاء المغالون، في ظل واقع خدمي متردٍ، هشٍ، ملول، تغيب فيه مقوّمات العيش، وأشياء كثيرة يصعب تذكرها.

تفضلوا.. البلد ينادي أبناءه للعيش، بكل حرية، في دوامة من القتل والفساد، والخيانة والكذب والحاجة، وغياب أبسط مقوّمات الحياة الكريمة، فضلاً عن الفقر المدقع، والغلاء الفاحش، وصور مأساوية ما أنزل الله بها من سلطان.
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.