نداء حبّ لقلب مرتبك

نداء حبّ لقلب مرتبك

02 مايو 2018
+ الخط -

في ذلك اليوم هاف ورق الشجر بخفة، والزقاق البرليني اكتسى حلةً باريسية، بدا الأمر كما لو أنه مشهد من فيلم رومانسي قديم، كأن قلبها قد باح لها بملامح الحارة القديمة قبل أن تصل فاختارت "بيريه" فرنسية حمراء، فستاناً أسود اللون ومعطفاً بلون اللؤلؤ.

بينما كانت تسير بحثا عن بيت صديقها وتحدث نفسها عن الاحتمالات التي تنتظرها. جلس على كرسيه المفضل في زاوية غرفته أو ربما قوقعته. لم يتمكن من إسناد ظهره إلى الكرسي، أشعل سيجارة وأخذ يدخن والسيجارة الأولى لما تنطفئ بعد.

كان قلقا، فبعد أن أمضى وقتا طويلا مريرا في وحدته، وظن أن القلب قد شاخ، رآها ولم يتمكن وهو الذي أتقن الهرب من كل نداء للحب أن يبتعد هذه المرة، كان لا بد من محاولة لعب دور العاشق من جديد، فوقف أمام المرآة يتمنى لو كانت الملابس كلها بلون واحد، فلا يحتار أيها يختار.


في سنوات غربته الأولى، ظنّ أنه أصبح مجنوناً في كل مرة أطال فيها الحديث مع نفسه بصوت مرتفع، بعد حين إما أنه نسي أو أنه تصالح مع ظنونه فلم يكتف بالتحدث وطرح الأسئلة بصوت مرتفع فحسب، وإنما صار يخوض في جدل حقيقي يتخيل فيه عدة أشخاص يتبادلون وجهات النظر، وقد يصل بهم الأمر لشتم بعضهم بعضاً والاعتذار في اليوم التالي، اكتشف عدة شخوص في نفسه وتضاربت الأصوات في جسده، أنهكته تلك الحقيقة فاستسلم لصمت طويل حتى صار صوته غريبا عنه، صار من الصعب عليه مجاراة الآخرين في أحاديثهم، وأشد كسلاً من أن يحارب ليثبت وجهة نظره، يهرب من نقاش يراه عقيماً فيقول "لكل شأنه" ويدّعي عدم المعرفه لا لشيء بل لأن لا قِبَلَ له على الكلام.

كلما التقيا، شعر أن الصمت مصيدة تسجن كلماته ولا تحررها، يمعن النظر في تفاصيل ابتسامتها ويهمس للضجيج في داخله أن يهدأ، يعانقها، يرمي رأسه على كتفها ويتمنى لو أن الزمن يتوقف عند هذه اللحظة، لكنه في كل مرة يقول "كوني بخير" يتأمل خطاها حتى تغيب تماماً، ويشعر أنها ككل الأشياء في حياته، تتسرب من كفّيه كما الرمال.

قبل سنوات، كان يتكلّم ولا يعرف كيف تعلم الكلام، كان يتكلّم لإيمانه بأن الكلمة قادرة على تغيير مسار الأشياء، دوّن في دفتره الخاص عن رغبته في تعلّم لغات جديدة كما لو أن لغة واحدة لا تكفيه ليخبر العالم بكل ما لديه.

اليوم يلتفت إلى صورة والدته التي كانت معلّقة على الحائط خلف الكرسي قائلاً: "أعلم اليوم يا أمي كيف تعلمت الكلام، كنت أتأمل كيف تنطقين الحروف وكيف تتغير نبرة صوتك ما بين بحّة الحاء، تنهيدة الهاء، وامتداد الألف.. لو أنك تتكلمين فأقلدك ولا أتلعثم أو يتوه مني الكلام".

قبل سنوات كان فضولياً يكثر من الأسئلة وينتظر أن تتحول إجابة من حوله إلى حقيقة، فكلهم قالو له: "بتكبر وبتفهم". اليوم يقول: "كبرت ولم أفهم بعد كيف يمكن لهذا العالم أن يكون على هذا القدر من الاختلال، كيف يمكن أن نستمر في البحث عن الحب والسلام دون أن نبدو كمن يسير لا شيء أمامه إلّا السراب، كيف يمكن أن نستعيد اليقين بعد كل خذلان، ربما أحتاج أن أشرب كأس الماء الذي رددت جدتي على حوافه الكثير من الأدعية التي لا أفهم، أن أصدق أن الخطوط المرتسمة في باطن يدي لا تشير إلى طريق مسدودة، أن أصدق أن ما يفصــل بيني وبين غدي هو رشفة أخيرة من فنجان قهوة صباحي، أن أثق ثقة الورقة بالأرض لا بالشجرة، أو ربما أن يصبح الكون قبعة أخبئ فيها نفسي، وأن يطول حينها الشتاء.." هو الذي اختبئ في قبعته، وهي التي رفعتها عن عينيه وأرغمته على رؤية النور من جديد.

جرس الباب ينذره بوصولها، ظلت صورة والدته صامتة، وخشي أن يتأخر في النطق فيسبقه الزمن وتجلس صورة الحبيبة إلى جانب صورة الأم صامتتين ترقبان عجزه. أشعل سيجارة ثالثة، واتجه نحو الباب يقول: "سأحاول اليوم أيضا".

A07082AF-6B27-487B-837E-45651C776AC5
نور نزار فليحان

معلمة سورية مجازة من جامعة دمشق 2014. حاليا طالبة ماجستير في مجال العمل الاجتماعي وحقوق الإنسان في برلين - ألمانيا.