سمر رمضاني... رجل بحجم الكديش (1)

سمر رمضاني... رجل بحجم الكديش (1)

17 مايو 2018
+ الخط -
اليوم الأول من رمضان. الموافق لسنة 2005.
تناولنا طعام الإفطار في منزل الأستاذ كمال الطبنججي. قال أبو سلوم فور فراغنا من تناول العشاء:
- بما أن رمضان في أوله، اسمحوا لي أن أقدم اقتراحاً يتعلق بحضوري سهرات السمر الرمضانية. وهو التالي: أنتم تخبرونني، كل يوم، عصراً، بمكان العشاء، فآتي إلى المكان المحدد بصفة ضيف، أو طفيلي، أو واحد من المساكين، أو أبناء السبيل، وما إن أنتهي من تناول الطعام حتى أحمد الله تعالى على نعمه، وأشكر لكم تفضلكم عليَّ بهذه (الصَدَقَة)، ثم أنصرف غيرَ مأسوف علي!

قال الخال فارس: تضرب في شكلك يا أبو سلوم على هذا الحكي الذي يسم البدن. يعلم الله أني أحبك مثل أولادي، والشباب يحبونك، فما الداعي لهذا الكلام الفارغ؟

قال أبو سلوم: لأن الشباب الفهمانين، الأساتذة، أنا أعرفهم منذ رمضان الماضي، يستغلون كوني آكل على حسابكم ولا أدعو أحداً إلى مائدتي.. ويهينونني.. هل تريد مني نصيحة لوجه الله يا حاج فارس؟
قال فارس: طبعاً أريد.

قال: حافظ على ثروتك قدر الإمكان، ولا تكن فقيراً، فالرجل الغني أيش ما حكى ترى الناس يهتمون بكلامه، وإذا قال نكتة، حتى لو كانت بايخة، يضحكون، بل وينقلبون على أقفيتهم من شدة الضحك، ويقولون يا رب اعطنا خير هذا الضحك.. وأما الفقير الأندبوري الذي مثلي فمهما رَتَّب كلامه، وتأنق، ووقف قبل أن يأتي إلى السهرة أمام المرآة، ودَرَّب نفسه على إلقاء النكتة، يُقَابَل بالإهمال، ولا أحد يضحك لنكتته. بل ويتجرأ أحدُهم ويقول له: نكتتك قديمة وبايخة. لماذا؟ لأنه فقير، والفقير عَلَّاك حُكْمَاً.

قال كمال الطبنججي: أنت يا أبو سلوم فقير، وعلاك، وتخاف من أن يمنعك الشباب من الكلام، ومع ذلك تتحدث بطريقة الرمي رشاً، ولا تعطي فرصة لأحد..
قلت: أنا عندي حل. بما أن أبو سلوم يعاني اليوم من عقدة الاضطهاد أقترح أن نعطيه الدور ليحكي لنا طرفة.
وافق الساهرون على اقتراحي، وقالوا له: تفضل إحكِ يا أحلى أبو سلوم.
تبسم أبو سلوم وقال: أنا اليوم ضعت.

قال الخال عموري: ضعت؟ أنت بحجم الكديش، كيف ضعت؟
قال: أنا لم أضع، ولكن زوجتي - الله يخليها لي، ولا يحرمني من أنسها ولطفها وذكائها القتال - هي التي أضاعتني. سأحكي لكم كيف حدث هذا..

ذهبتُ معها اليوم لنشتري المواد الأولية لطبخة محشي الكوسا. نحن، بالعادة، نطبخ مرة واحدة في الشهر، وبما أن اليوم الأول من رمضان فقد قررنا أن نطبخ ونطعم الأولاد! المهم، اشترينا الخضار واللحم، وقلت لها اسبقيني إلى البيت. وبالمصادفة التقيت بصديقي أبو بكري، بارك لي برمضان ودعاني للجلوس أمام دكانه ونتسلى قليلاً.

ما حصل مع زوجتي هو الآتي: حينما رأت أنني تأخرت في العودة إلى البيت قلقت، وانتظرتْ ساعتين، ثم اتصلت ببيت أهلها تسألهم عني. وأنتم تعرفون ابن حميَّ عبد الكريم. إنه شاب ظريف وصاحب دعابة، فما إن عرف سبب اتصالها حتى شرع يقول لها:
- أختي العزيزة مضيعة زوجها "أبو سلوم"؟! الحق عليك يا أختي، كم مرة قلت لك لا تتركيه يخرج من البيت وحده؟ كان المفروض بك أن تمشي وراءه، أو تعلقي في صدره ورقة تكتبين عليها (الرجاء ممن يعثر على الرجل المدعو أبو سلوم أن يتصل بالرقم.. أو يسلمه إلى أقرب مخفر)!

كان أبو سلوم يتحدث باهتمام وتركيز عن تفاصيل وقائع ما جرى مع أم سلوم في قضية ضياعه، فاستغل كمال الطبنججي الفرصة، وخرج من الغرفة التي نسهر فيها، وعاد بعد قليل.. وسأل أبا سلوم:
- عفواً أنا لم أكن هنا.. وأيش صار بعد ذلك؟
غضب أبو سلوم وقال:
- معقول يا أستاذ كمال تتركني وتخرج، ثم تأتي لتتبارد علي؟ أخي ما بدي أعيد الحكي.
قال كمال: عفواً.. هل تسمعون هذا الصوت القادم من بره؟
أصخنا السمع، وإذا بصوت في الخارج ينادي: يا سامعي الصوت، من رأى رجلاً قصير القامة، أسمر، له شاربان كبيران، يرتدي كلابية مجعلكة، اسمه أبو سلوم، فليُعِدْهُ إلى زوجته أم سلوم، والأجر والثواب على الله..

ضحكنا جميعاً لهذا المقلب المفاجئ. وأما أبو سلوم فحمل كأس الماء ورشقه على كمال وقال له: عملتها يا أستاذ كمال؟!

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...