قليل التربية ويأكل الكعك

قليل التربية ويأكل الكعك

10 مايو 2018
+ الخط -
كان لفيف من رجال بلدتنا الكهول يتسكعون، بين صلاتي العصر والمغرب، شرقيَّ حائط المسجد الذي يُلقي بظله العريض على الزقاق، ويتبادلون أحاديث متنوعة تتعلق بحياتهم اليومية.

وكان المحور الأساسي لتلك الأحاديث يدور حول الحظ العاثر الذي جعل الواحدَ منهم يخلف كومة من الأولاد، ولكن لا يوجد، ضمن هذه الكومة، ولدٌ يقول للقلب (طَقّ)، أي أن يكون ولداً فالحاً يصلح للصيف، وللضيف، ولغدرات الزمان.

فالعم أبو نعمان حكى لجُلاسه عن ابنه الأكبر الذي لفى على شلة عاطلة، لعبوا بعقله، كما يلعب الجَدي بعقل التيس، وصاروا يركبون في الميكروباصات ويُشَرِّقون إلى حلب، فلا يرجع نعمان إلى الدار إلا في آخر الليل، ماشياً على أنغام (ميلي على ميالك - نعمان خَيَّالك)، وأحدُ حيطان الزقاق يأخذه، والحائط الآخر يتلقاهُ، والعياذ بالله.


في تلك اللحظة، مر بهم ولدٌ عمره في حدود 16 سنة، يحمل على رأسه وعاءً مسطحاً مملوءاً بالكعك، وقد غطاه بقطعة من النايلون المشمع لئلا تتجمع عليه الحشرات، وراح يصيح بصوت حائر بين صوت الولد والرجل البالغ: كعك كعك، طازج الكعك.

خاطبه أبو نعمان قائلاً:
- تعال عين عمك، تعال لعندي. بودي أشتري منك كعكات، وأقدمهن للشباب ضيافة.
اشترى منه الكعكات التي بحوزته كلها، وقال له:
- أنت ولد عاقل ومحترم. ما راح أقول لك غير هذا الكلام.

تناول الولد ثمن الكعكات، ومضى في سبيله فرحاً بالربح القليل الذي تحقق له في هذا اليوم، وأما أبو نعمان فقد زفر زفرة تُحَرِّك سفينة شراعية (على حد تعبير محمد الماغوط)، وقال للرجال:
- جدي، الله يرحمه، مات على نحو مبكر، وبقي أبي بلا تربية، ولذلك فقد رباني أبي تربية تصلح للجحاش أكثر مما تصلح للأوادم، وأنا أذكر جيداً حينما كنت في عمر هذا الولد الذي يبيع الكعك، كلما فتحت شفاتيري لأقول أي شيء يزجرني، ويُطْبق يده ويلطمني على فمي، فأشعر كما لو أنني تناولتُ كمية من الفليفلة الحارّة، وإذا بكيت كان يُثَنِّي عليَّ ويقول لي (ابلعها ولاك حيوان)، فأبلعها، يعني حتى البكاء كان محرماً علي..

ضحك أبو قدور وقال لأبي نعمان:
- تربى المرابي على مَنْ كان رابيها.
قال أبو نعمان مؤيداً: نعم، هذا ما حصل بخصوص ابني نعمان، فأنا، ولأنني قليل تربية، حاشاكم، فقد أفسدتُ تربيته بنفس الطريقة، ويوم كان بعمر هذا الولد قال لي إنه يريد أن يشتغل في الصيف ببيع الكعك أو البوظة، لكي يُحَصِّل خرجيته، ويصرف على نفسه في الشتاء، فجمعت قبضة يدي ولطمته على فمه، وقلت له:
- اسكت ولاك حيوان. تبيع كعك وبوظة وكأنك لا تعرف أنت ابن مين؟
ولم أكتفِ بذلك بل طلبت منه، وهو في الثانوية العامة أن يترك المدرسة لكي أخطب له وأزوجه، لكي نفرح به أنا وأمه. بتعرفوا نعمان هلق أيش عم يساوي؟
قالوا له: أيش؟
قال: صار عنده امرأة وثلاثة أولاد، يتركهم في البيت ويذهب إلى حلب مع رفاقه ليسهر وينفق المال على الملذات الشخصية.

لم يجد أبو نعمان أي تعاطف مع النهاية التي وصل إليها بحديثه، فقال لرفاقه:
- تفضلوا شباب، كلوا كعك. اشتريناه ودفعنا ثمنه. كلوه أحسن ما نكبه!
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...