أغنية الأرض

أغنية الأرض

03 ابريل 2018
+ الخط -
هنا في هذا الشتات القارس، يأخذني هذا اللحن العميق إلى الجليل ويسرف في تبجيله لكلمة الأرض، الأرض التي صار يطلق عليها الاحتلال إسرائيل، ولكنها ظلت تحكي العربية، وظلت حجارتها تحفظ سيرة كنعان الطويلة، وتتوارثها كما يورث الاحتلال مدافعه، سيرة "زريف" الطول وأحمد العربي، في قلب الجليل العربي تروى لمن ظل فلسطينيا في زمن الهرولة نحو اسرائيل، والراوي والرواية الصادقة هي الأرض.

"الأرض بتتكلم عربي"؛ أرض فلسطين الأبدية الواقعة في قلب الجغرافيا والتاريخ، الشهيدة والأسيرة، توارت كثيرا وراء الرقم 1948، قبل أن يعيد الفلسطينيون بعد 28 عاماً الاعتبار لهويتها المسلوبة، ويمحوا حبر قرارات الاحتلال الإسرائيلي عن وجه الجليل، في لحظة ثورة عارمة، تعلم العشب شاعرية الانتفاضة، وأصغى الزيتون لنداءات الأجداد، وناجى التراب المخضب دماء الشهداء، وأخذ معنى الأرض يتشكل بوضوح صارخ، لدى فلسطينيي الداخل الذين كانوا يصنعون هبتهم المجيدة، والتي ستمهد عميقا لكل ما هو آت من انتفاضات ونضالات..


وقع الجليل بيان الانتفاضة الأولى بالشهداء، قبل اندلاعها الفعلي من غزة، في اتصال ساحر بين المدن الفلسطينية، من قلب قرى عرابة وسخنين ودير حنا، سجل الدم الفلسطيني انتصاره الأول على الحبر الاستيطاني، ليجد الإسرائيليون أنفسهم ينصبون بنادق الخوف والارتباك في مواجهة صرخات الفلسطينيين الذين نسوا أنفسهم في حمى الوعود العربية الكثيرة، قبل أن يعودوا في صبيحة الثلاثين من مارس/ آذار، ليكتشفوا متأخرين أن وعد الأرض أبقى من مواثيق الأحزاب وخطابات الزعماء، وكان للأرض ما أرادت، انبعاثا عظيما يمحو ولو مؤقتا وقع الهزائم التي لطخت الشعوب العربية من المحيط إلى الخليج، خطوات تمرد أخضر، هتافات عربية تذكر الشوارع بهويتها، وتذكر الهوية بعروبتها، بدا وكأن الغضب الثوري يشق طريقا عصيا في الجليل، لأول هبة فلسطينية في قلب الداخل..

حدث ذلك، قرار إسرائيلي جائر يلاقي رفضا عارما في المجتمعات العربية المتبقية في أراضي الداخل المحتل، لم تقتلعهم النكبة، ولم تجرفهم النكسة، إنهم البقية الباقية، ظلوا على خط المواجهة اليومي، يحفظون الحرف العربي، ويمزجونه بالغناء التراثي، بالأثواب الفلسطينية الباذخة في اتصالها مع التربة والطين والحناء، وأخذ يوم الأرض بدءا من تلك اللحظة الملهمة في تاريخ القضية، تسميته منتفضا على مفردات إسرائيل التي حاولت فرضها على بقعة أصيلة متأصلة في الوجدان الفلسطيني.

يطل هذا اليوم هازئا من رحلات العرب التطبيعية إلى تل أبيب، ويربك نشرات الأخبار التي تزيح فلسطين عن الخبر الأول، ويسخر من تورط الفلسطينيين في نزاعاتهم الشخصية التافهة، ويتهكم على واقع "غزة – ضفة"، ويبعث في روحي طمأنينة عالية بأن بقاء القضية الفلسطينية حتمي طالما تجيء الأيام وتشرق الشموس، اللحن يوغل أكثر في جسدي، وعين الأرض ترمقني، وتجيء فلسطين؛ في الناصرة؛ عين فلاح تسبق الشمس إلى الأرض، في النقب؛ تقيم الخيمة انتصارها الأبدي أمام جرافات إسرائيل، في أم الفحم، يبسم شيخ من وراء معتقله في وجه طفل الغد الآتي، في حيفا؛ يميل البحر على الميناء، كأنما يستريح في الفناء
في عرابة، وسخنين وشفا عمرو، الأرض الفلسطينية تزهر شهداء وأغنيات واللحن يدق أعمق..

"الأرض بتتكلم عربي"
"الأرض بتتكلم عربي"
C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.