عن مخيم اليرموك

عن مخيم اليرموك

28 ابريل 2018
+ الخط -
ثمة سؤال لا يفارقني، منذ شهدت بنفسي ذلك المساء اليرموكي الدموي؛ حيث اعتبر "قلب العروبة النابض" ياسر عرفات "غير مرغوب فيه"، في يونيو 1983، ألم يكن السفاح آرئيل شارون سعيداً ببطولات الممانعة؟ أتذكرون حين توعدوا اليرموك بعد اجتياح لبنان 1982؟

ربما لا يروق السؤال لفرقة "الكتبة"، المستريحين هنا وهناك؛ ممن اعتبرناهم، في سنواتنا المبكرة، نخبتنا، قبل أن يتحولوا إلى فاجعتنا.

ذات يوم، في مدرسة المنصورة بشارع المدارس، كان اليرموك على موعد، من مواعيد أخرى، مع بنادق الممانعة الأسدية، التي عشت فصولها بنفسي وبلحم ودماء رفاق لي، وقبل سنوات طويلة من مشاهدتي ذات الفصل، متلفزاً هذه المرة، باتجاه السوريين، وخصوصاً في ازرع بحوران.

في الصدمة الأولى، أمام سيل الدماء، إلى جانب تفجيرها كما من المشاعر المتناقضة، راح بعض من شهود محسوبين على فلسطين، شاهد وسمع، يعيش الإنكار، بعد ساعات قليلة. ليس ذلك فحسب، فكما للمحتل الصهيوني طرقه في تتبع "مطلوبين" راحت كلاب تقفي الأثر، تبحث وتصيغ "تقاريرها" متباهية بمسدسات مكاروف، بمعية "عواينية اليرموك"، خليط سوري وفلسطيني (والعوايني يعرف مدلولاته من عايش اليرموك).

من فرع أمني، في شارع السادات، إلى فرع فلسطين، وفي الأخير كانت الشتيمة الأولى بحق فلسطين وأنت تسأل نفسك: "أهي فلسطين ذاتها التي على نشرات التلفاز؟". هنا تعرف الوجه الحقيقي لنظام دك قبل سنوات قليلة مخيم تل الزعتر، وأنت تجلس القرفصاء عند زاوية شارع الأوتوستراد بالمزة، قرب المدخل الجنوبي لـ"الحوش"، إذ شيد لاحقاً شقيق "القائد الخالد"، رفعت أسد، عمارته الفخمة، و"سرايا الدفاع" تحول الشارع إلى ملطشة لصغيرات وكبيرات.

في اليرموك، وعند سور المنصورة، كان الهتاف الأول واضحاً غير مرتجف، ضد هذا النظام، الذي يعتبره بعض ممانعجية زمن قطف أفضل ما في شعبهم، ممانعاً وليس انتهازياً طفيلياً فاسداً وحارساً أميناً في الجولان.

لا أدري اليوم كثيراً ما فعلته تغريبة اليرموك بهؤلاء الرفاق والأصدقاء الذين عرفوا اليرموك يموج كالبحر الهادر تفاعلاً مع الحدث الفلسطيني أينما كان، ومنه تلك الليلة الأسدية التي اعتبر فيها عرفات شخصاً "غير مرغوب فيه" في "قلب العروبة النابض". لا أدري بمواقف سليمان دباغ، الذي بكى صديقه غسان الشهابي قنصاً عند مدخل اليرموك، لكني أدرك مواقف الصامتين في مكاتب رام الله؛ المكاتب التي انتشرت في اليرموك من أوله إلى آخره... وأعرف أية فاجعة وخيبة عاشها رفاقهم في برلين.

في رام الله، كانت اختناقات صادمة... أراقب المشهد في دوار المنارة، أثناء الحرب على غزة 2008-2009، لأصاب بصدمة أخرى في مقارباتي، فلم تتساو "جماهيرية" الرفاق مع تحركات طلبة جامعة بيرزيت وصولاً إلى مستعمرة بيت إيل.

لم الغرابة إذا، أن حالة "حركة تحرر" وطنية أشبه بالعاجزة، أو "ختيارة" تشكو بتلاوة تعويذة صدئة؟

قصف مخيم اليرموك بالميغ، بمعية "الرفاق في موسكو"، لمعاونة حليف جبان، متحول إلى ملطشة لصواريخ وطائرات المحتلين ليس جديداً... ولا الإنكار... ولا البحث عن حلول في "خيمة" لتسجيل من يحق له مساعدة طحين؛ فالوزير المنتدب من رام الله وجدها فرصة أن يدفع لجيش بشار "بدل خدمة الجيش"، و"وفود الوفاء" زارت قاتل شعبها تزويراً باسم "فلسطينيي أوروبا"، شاركت باللقطة واستمعت للخطب الرنانة عن ضرورة تشكيل كتائب "قومية وإسلامية للوقوف مع نظام المقاومة وحزب الله في مقاومة التكفيريين"، حيث لا تزال نار خيمة المكذبة موقدة، قرب مدخله الذي شهد الإذلال الذي سجله التاريخ، بربطة خبز معلقة وقناص ممانعجي يصطاد الجوعى.

لا جديد في الحاضر، بعد تهجير فلسطينيي وسوريي اليرموك بسنوات، باختراعات ساهم فيها "كتاب" وساسة على صفحات "الوطن" في دمشق، ومن عمان، تحريضاً على شعبهم ومخيمهم.

لكن، حتى "روابط القرى" لم تكن لتدعي عمالته للاحتلال الصهيوني بهذه العلنية. وهل يمكن للتاريخ أن ينسى؟ تلك الحفنة من كتبة "متلازمة استوكهولم"، الذين عرفوا طعم "الفلقة" في فرع فلسطين أيام كانوا في "الديمقراطية" وفي "فتح العرفاتية"، فيما بعض رفاق جورج حبش يلهث باحثاً عن بوصلة طهران.

بالصمت، أمس واليوم، على قصف اليرموك، حيث يرقد آلاف الشهداء، فأنت تهدم آخر أسوار الادعاء بأنك "حركة تحرر وطني"... مثلما قبلت أن تصبح مشاركاً في مشهد الانهيار في "ظلال الواي" و"أوسلو".

فهل حقاً قتل وتهجير الفلسطيني يحتمل التأويل؟ إذ يكون حلالاً في مكان وحراماً في آخر؟ وهل الفرجة وتبرير مذبحة شعب عربي آخر، احتضنك قبل أن يولد هذا السفاح، وحمل أدوات القتل مثل جماعة جبريل، تحت شعار النصب والاحتيال "يا قدس إنا قادمون"، فيه رائحة طلب حرية وتحرر من محتل واستبداد ونشر لـ"العدالة الاجتماعية"، في تنظيرات "الرفاق"؟

لماذا قلت إن شارون لا بد سيكون سعيداً؟
لأنك ببساطة تعيش مرحلة أخرى من مذابح تكرار التغريبة، في ذكراها، من بغداد إلى التنف فالبرازيل، ومن اليرموك، وغيره، إلى مدن ألمانيا والسويد، وتدمر معاقلك، وتصر على صمتك، أمن أجل بيان في مناسبة ما، كـ"ذكرى الانطلاقة"، وتضع بعدها الرقم الذي تريده؟ وكله باسم "يا قدس إنا قادمون". إلى الغوطة وحلب والقصير والدير وحماة، وربما إدلب غداً. مثلما هب الرفاق يوماً إلى شريط أوزو في الصحراء الليبية التشادية، تنفيذاً لجولات جنون "القايد"، قبل أن يرمي بالفلسطينيين في نوبات تجاربه "الثورية" إلى خيام الصحراء مع مصر. بعد أوسلو.


باختصار، البندقية والقلم القابلان للإيجار والاتجار لا يحرران لا وطناً ولا إنساناً.