العمر لحظة

العمر لحظة

24 ابريل 2018
+ الخط -
يختلف الوقت المطلوب لتحقيق أي إنجاز؛ فثمة من يحقّق إنجازًا في جلسة أعمال، وغيره يحتاج إلى سنوات من الجهد المتواصل، وهذا يحقق مأربه والآخر يصل إلى هدفه. التباين في هذه الحالة منطقي، وإذا سألت الفريقين لوجدت اتفاقًا ضمنيًا على أن المشروع يستأهل الوقت المبذول، ولحظة النجاح تمحي كل ما سبقه من شقاء، وهنا يصبح العمر لحظة.

في ماراثون بوسطن 2018 وقعت مفارقة عجيبة، ربما لا تتكرر كثيرًا في التاريخ الإنساني، مفارقة تؤكد أن العمر لحظة تستحق العناء لبلوغها. بعد خوضها 15 ماراثوناً خلال 11 سنة، وبعد مجهود قاسٍ في المضمار، حققت الأميركية ديزيري ليندن مفاجأة من العيار الثقيل.


اقتنصت ليندن المركز الأول في الماراثون، وأصبحت أول سيدة أميركية تتربع على عرش الماراثون منذ 33 عامًا! إنجاز يخطف القلوب، وتتوق كل سيدة إلى أن تحل مكان ليندن في هذه اللحظة العظيمة، وقد تختزل ليندن عمرها كله في لحظة فوزها، وبالتأكيد هي لحظة تستحق.

لن تشغل ليندن بالها بمتاعب التحضير لهذا الإنجاز؛ فحلاوة التتويج تهون أمامها كل الصعاب السابقة، والإنجازات خير مسكن لآلام الماضي وسياط عذاباته. قررت ليندن أن تحرز لقبًا عالميًا، وخلال مشاركاتها في الإحدى عشرة سنة الماضية لم تيأس، ورأت أن المحاولات الماضية تقترب بها من هدفها؛ فضاعفت تصميمها على اقتناص الميدالية الذهبية، واستجمعت كل إصرارها وتركيزها لهذه الجائزة العزيزة.

وعلى بُعد سنتيمترات من ليندن وقفت ممرضة، ترنو إلى اللحظة ذاتها وتشاركها نفس الطموح. قبل أيام كانت سارة سيلرز، الممرضة الأميركية، تبحث عن لحظتها في هذه الحياة، وتراهن على أنها قد تحقق إنجازًا في هذه الماراثون؛ فجازفت بمبلغ 180 دولارًا هي قيمة الاشتراك في المسابقة، وحدثت نفسها بأن المجد ليس حكرًا على أشخاصٍ محددين. تمرنت سبعة أشهر متصلة بجد وتركيز، كانت تخشى أن تفقد المبلغ الذي سددته كرسوم للالتحاق بالمسابقة، ودخلت السباق باحثة عن مكانٍ لها بين الكبار.

سبعة أشهر في رياضة الجري ليست كافية للفوز، ولكن الوقت ليس كل شيء في هذا العالم؛ فهناك الأهم والأخطر من مجرد الوقت، هناك الإصرار على تحقيق هدف ما، والإخلاص في متابعة هذا الهدف مهما كانت الظروف. سبعة أشهر من العرق أتاحت المجال للممرضة الحالمة؛ فحصدت المركز الثاني في هذا الماراثون العجيب. أنفقت سارة سيلرز 180 دولارًا أميركيًا لتنضم إلى الماراثون؛ فإذا بها تجني 75 ألف دولار أميركي جائزة المركز الثاني في ماراثون بوسطن.

إنها لحظة العمر لكلٍ من ليندن وسيلرز، وإن كانت ليندن قد تكبدت عناء 11 عامًا؛ فإن لحظة الفوز نسفت كل الآلام السابقة، واستبدلت مرارتها شهدًا تحسدها عليه سيدات العالم. سيلرز جاءت في المركز الثاني لقاء سبعة أشهر من الكفاح المضني، ولكن اللقب يستحق هذا العناء.

اللافت إلى النظر في مسيرة ليندن أنها لم تدر ظهرها للسباق؛ فبعضهم يحاول مرة وقد يضطر للمحاولة الثانية ثم يطلق ساقيه للريح، وأمثال هؤلاء لا يجدون للبطولات طريقًا؛ فإن إحدى أبجديات إحراز البطولات مبدأ استمرار المحاولات، ومن هنا كان المركز الأول حليف ليندن.

الحياة مليئة بالصعوبات، والتحديات لا تنتهي في عالمنا، يحقق الناجحون أهدافًا كبيرة، ويجمع المتخاذلون خيباتٍ جسيمة، والبون بين الفريقين يبقى حكرًا على استحضار لحظة العمر؛ فترى الناجح يضع هدفه أمامه ويتخيله في كل وقت، ويعمل لأجل الوصول إليه، ما يدفع عنه مرارة الفشل والسقوط، بينما يعيد المتخاذل شريط ذكرياته المؤلمة ليؤكد لنفسه أن الفشل أسهل من المحاولة. العمر لحظة تستحق أن تسطرها بإصرارك وعزيمتك واجتهادك، والنجاح متاح للجميع.

دلالات