"السان سيمونيون" في مصر (1)

"السان سيمونيون" في مصر (1)

22 ابريل 2018
+ الخط -
شكّل مطلع القرن التاسع عشر بداية لعصر جديد في تحديث مصر في مختلف المجالات، وقد تزامن ذلك مع زيادة كبيرة في أعداد الأوروبيين في مصر، والذين استعان بهم محمد علي باشا حاكم مصر لنقل خبراتهم والاستفادة من إمكانياتهم، وذلك في مجالات شتى على رأسها التعليم.

ونحن حينما نتحدث عن الدور الذي لعبه الأوروبيون في تطوير مصر تحت ولاية محمد علي، لا نحددهم إلا بواسطة جنسياتهم ونتجاهل الانتماء السان سيموني لعدد كبير منهم. وربما هذا التجاهل في ذكرهم قد ساهم فيه بعض الأوروبيين أنفسهم عن عمد، كما يقول فيليب رينيه صاحب كتاب (السان سيمونيون في مصر).

من هم السان سيمونيون؟
يرجع اسم الجماعة إلى مؤسسها سان سيمون الفيلسوف الفرنسي المتوفى عام 1825، صاحب كتاب (المسيحية الجديدة)، والذي شارك في تأييد الثورة الأميركية والفرنسية وكانت له أفكار تعرّض في سبيلها للجوع والتشرد. لقد آمن بفكرة وجود "مجتمع صناعي" تدعمه الطبقات العاملة من أعلاها إلى أدناها، وقال إن تلك الطبقة مهددة من قبل طبقة أخرى أطلق عليها الطبقة العاطلة والتي وصفها بالطفيلية والمعتمدة على عمل الآخرين. وكانت دعوته موجهة إلى الاهتمام بالصناعة وكان من تلاميذه أوغست كونت، وجون ستيوارت ميل، وأنفانتان الذي حمل الراية من بعده.


لقد تحولت أفكاره بفضل أتباعه إلى عقيدة، وأصبح أنفانتان هو الرئيس الاسمي للديانة السان سيمونية وعُرف بلقب "الأب" منذ عام 1828. ومنذ نهاية عام 1830، ميز المُنتمون أنفسهم أمام الأنظار برداء مميز لهم، فضلاً عن اللحية والشعر الطويل كعلامة مميزة للسمة الدينية. عمل أنفانتان على تأكيد سلمية أفكاره الإصلاحية والمناصرة للمرأة، لكن انتشار أفكار أنفانتان أدى إلى مواجهتها من قبل الدولة ببعض الإجراءات القمعية، والتي أدت إلى سجنه في 1832، وهكذا انطلقت الحركة السان سيمونية في تنويعات شتى، كل واحدة تعبّر عن الرسالة الخاصة بها: فهناك المجموعة الأولى التي قامت بالمغامرة الشرقية بحثاً عن المرأة-المسيح أو "الأم"، وهم "رفاق المرأة" حيث سافروا في إقامة قصيرة إلى اسطنبول وطُردوا منها بسبب أفكارهم ثم أبحروا إلى الإسكندرية.

بعدها، صدرت الأوامر من أنفانتان بوجوب العودة إلى "الحياة العادية"، لأن الأفكار الخاصة بالبحث عن "الأم" تعتبر مفزعة حتى داخل فرنسا نفسها والتي تم رجمهم في جنوبها بسبب أسلوب دعوتهم الغريب لأفكارهم! بالتالي، كان يجب التوجه نحو طريق عملي أكثر براجماتية، يتيح لهم أن يكونوا رمزاً جذاباً، ويوفر لهم مدخلاً مناسباً في مصر "للباشا الصناعي". وبعد خروج أنفانتان من السجن، سافر إلى مصر وكانت هذه بداية للسلسلة الثانية من الهجرة إلى مصر.

لماذا مصر؟
ورغم أن جماعة السان سيمون لم تكن موجهة نحو الجنوب، بل ولا ترى أن هناك أي مركز في العالم سوى أوروبا، وكان الفكر السائد حول الشرق نابعاً من نفس النظرة التي ظلت سائدة في الغرب ضد الشرق وحضاراته القديمة، بل وضد الإسلام، ولكن القمع الحكومي والفضيحة المقترنة بأطروحاتهم السياسية والأخلاقية المتمثلة مثلاً في القبول بفكرة تعددية العلاقات النسوية يمنعان عنهم أي نجاح في فرنسا في المدى القصير، فصار ترك الوطن يمثل البديل الوحيد من السجن. وبدلاً من العناد انتظاراً لتغيير جذري للنظام الاجتماعي في أوروبا الذي أصبح بعيداً بسبب الاستثارة الثورية عامي 1830 و1831 والعنف، عكف الرئيس الجديد للسان سيمونية (أنفانتان) على إعادة التفكير في المُسلمات الجمهورية.

توضح مقالات ميشيل شفالييه في صحيفة جلوب ابتداءً من 1832، أن المصير السياسي والصناعي لأوروبا يتقرر حول البحر المشترك بين الغرب والشرق. ومنذ ذلك الوقت، بدأت الصحيفة تهتم بالأخبار الواردة من الإمبراطورية العثمانية والثناء على السلطان محمود بوصفه "هادماً العادات القديمة تقوده غريزة التقدم التي تسيطر على كل الرجال الأقوياء" للتحديث. ولكن بعد غزو سورية من قبل محمد علي باشا، حليف السلطان محمود بالأمس، فَهمَ السان سيمونيون أن للـ"تابع" فرصاً جيدة في التقدم على "السيد"! إن سرعة الأحداث في الشرق جعلت السان سيمونيين يفكرون في أن ضروب التقدم لن تتم في الغرب، حيث "أغلب الحكام يستهلكون أنفسهم بلا طائل لتكبيل ازدهار الأمم"، ولكن في الشرق "الذي يهتز فوق قواعده الكبرى الصامدة".

رأى السان سيمونيون أن في أيديهم كل الوسائل لخلق المجد، بفضل من ينتمي إليهم من رجال صناعة وفن، وذلك عبر تحالف الشرق والغرب وعبر بناء شبكات السكك الحديد التي تحتضن الأرض، وتطوير "شبكة البنوك". لقد كان لفشلهم في تحقيق أحلامهم في الغرب ما دفعهم للسعي كي يحققوه في أعمالهم الكبرى في مصر.

فالسكك الحديد في نظرهم "ليست وسيلة لتخفيض تكلفة نقل البضائع"، ولكن وسيلة لتغيير "شروط الوجود الإنساني"، حتى يصبح العالم كأنه "أُمة كبرى"، فضلاً عن أنها وسيلة لحكم الجزء الأكبر من القارات التي تحيط بالبحر المتوسط بنفس المباشرة الموجودة في فرنسا.

وبدلاً من تاريخ الصراع بين الشرق والغرب، فإنهم يقدمون خطة نظام عام للسكك الحديد والقنوات والموانئ التي ستجعل البحر المتوسط "سرير زفاف الشرق والغرب"، كما يقول (جان بابتيست شيفالييه، 1806 - 1879)، وفي النهاية، سوف تؤدي هذه الوحدة إلى الانفتاح على أجزاء أخرى من العالم من خلال قناتي السويس وبنما. ولن يصبح العالم عندئذ سوى جسد واحد، تخترقه دورة لا تنقطع من البشر والسلع.

لقد بدأ هوارت عام 1834 في إقناع متطوعين بأن يأتوا للمشاركة في ترقية مصر، حيث إن المجال العام الذي وفره محمد علي بامتلاكه أدوات الإنتاج عبر نظام الاحتكار سمح بتطوير كبير في الأشغال، وبعد أن تثبت السان سيمونية مبادئها بواسطة التجربة في الشرق لا يبقى أمامها سوى أن تنتشر في أوروبا بقوة المثال. فالمرور عبر مصر يصبح إذاً طريقاً مختصراً تاريخياً.

هذا يعني أن السان سيمونيين كانت لهم أهداف محددة في المجيء إلى مصر، كان أولها إعادة إحياء مشروع ربط البحرين الأحمر بالمتوسط بشكل مباشر، فضلاً عن تكليفهم بمشروعات السكك الحديد والقناطر الخيرية ودعوتهم إلى الاقتراض. فهل نجح السان سيمونيون في مسعاهم؟ ولماذا في النهاية لم ينسب الفضل لهم كما كانوا يخططون؟ هذا ما سنعرضه في الحلقة القادمة.

دلالات