كيف شرعت "ثورة علمية" في القرن التاسع عشر للاحتلال؟

كيف شرعت "ثورة علمية" في القرن التاسع عشر للاحتلال؟

10 ابريل 2018
+ الخط -
تعتبر الثورة من الأحداث الجسام التي قد تمر بها أي أمة لما يترتب عليها من نتائج. ونحن نعني الثورة هنا بمفهومها الشامل، فهي ليست فقط التي تقوم للقضاء على ظلم فادح أو استبداد ممقوت وإحداث عملية إصلاح في المجتمع أو في نظام الحكم. فتلك هي الثوة السياسية، التي ما أن ينطق أحد باسمها حتى يتبادر مفهومها إلى الأذهان، بينما مصطلح الثورة كما صنفه جوستاف لوبون في كتابه (روح الثورات)، يشمل أيضاً بجانب الثورات السياسية: الثورات العلمية والثورات الدينية.

يرى جوستاف لوبون أن الثورات العلمية من أكبر الثورات أهمية مع إنها لا تستوقف النظر كثيراً ولكنها في الغالب ذات نتائج بعيدة لا تأتي بمثلها الثورات السياسية. فالاكتشافات العلمية المختلفة قلبت العالم رأساً على عقب وأحدثت تغيرات جذرية في شكل حياتنا. وربما يبدو التعبير الأدق لوصفها هو "التطورات" وليس "الثورات"، لبطء تأثيرها. بيد أنه يوجد منها ما يستحق أن يوصف بالثورات، مثال على ذلك ما جاء به دارون من آراء والتي قلبت علم الأحياء بل وامتد تأثيرها لأبعد من ذلك بكثير.

إن ما جاء به دارون من أفكار تتعلق بنظرية التطور جعله يبدو مخالفاً لما جاء في الكتاب المقدس في سفر التكوين عن فكرة نشأة الكون وخلق آدم عليه السلام. هذا بدوره مهد لتغيرات جذرية تتعلق بعلاقة الناس (خصوصاً في أوروبا) بفكرة الأديان عموماً، إلا أن تلك المقالة سوف تلقي الضوء على جانب آخر من نتائج تلك النظرية لأن نتائج بحث دارون مهدت لتأسيس شكل علمي مشرع في علاقة الرجل الأبيض بغيره من الشعوب الأخرى!


يوضح الدكتور إدوارد سعيد في كتابه المهم (الاستشراق)، أن المستشرقين قد بدأوا في مرحلة بدراسة اللغات المختلفة في الشرق وصنفوها إلى فئات ذات فوارق بينة في ما بينها، واستخلصوا من ذلك "أنه إذا كانت اللغات تختلف عن بعضها البعض، فإن من يستخدمون اللغة يختلفون اختلافات مماثلة، في عقولهم، وثقافاتهم، وإمكانياتهم بل وأجسامهم، ومن هنا فلا مهرب من الأصول ومن الأنماط التي تشكل في النهاية الأجناس والأمم والحضارات". ولكن سرعان ما جاء آخرون بأدلة إنثروبولوجية وبيولوجية وثقافية استنتجوا منها أنها تدعم موقفهم. لقد كانت هناك نزعة جارفة إلى تصنيف الطبيعة والبشر إلى تلك "الأنماط" حتى على مستوى عالم النبات.

وأعقب ذلك، كما يقول سعيد، وضع خصائص فسيولوجية وأخلاقية لكل نمط، "فالآسيوي أصفر اللون، مكتئب المزاج، متصلب القامة"، والأفريقي "أسود اللون، بليد الطبع، متهاون منحل".

يتحدث الدكتور إدوارد سعيد عما جنح إليه بعض علماء القرن التاسع عشر من تبني نظرية التطور والارتقاء، فيتحدث عن الكتاب الذي وضعه العالم الفرنسي كوفييه بعنوان (المملكة الحيوانية)، وكتاب السياسي الفرنسي جوبينو (مقال عن تفاوت الأجناس البشرية)، الذي له أفكار أيضاً ضد الديمقراطية وضد الشعوب السامية، وكتاب روبرت نوكس الباحث في علم التشريح (أجناس البشر السمراء)، نضيف إلى ذلك أفكار مذهب دارون والتي تؤكد وتبرز الصحة "العلمية" لتقسيم الأجناس البشرية إلى أجناس متقدمة وأجناس متخلفة، أو إلى أجناس أوروبية آرية، وأجناس شرقية أفريقية.

ويقول إدوارد سعيد "كانت النظرة إلى الشرقيين - التي تجمع بينهم وبين سائر الشعوب التي توصف إما بالتخلف أو بالانحطاط أو بعدم التحضر أو بالتأخر - تُقدم في إطار يجمع بين الحتمية البيولوجية والتوبيخ الأخلاقي والسياسي معاً. وهكذا كانت الأذهان تربط ما بين الشرقي وعناصر معينة في المجتمع الغربي (كالمنحرفين، والمجانين، والنساء، والفقراء) باعتبار أنها تشترك في هوية أفضل ما توصف به أنها أجنبية أو غربية إلى حد جدير بالرثاء..".

ونلاحظ هنا أن الأفكار التي طُرحت في تلك الفترة الزمنية كانت لا تؤمن كذلك بفكرة مساواة المرأة بالرجل، بل بعدم أهليتها للعمل ولحقوق الانتخاب وغيرها من حقوق، وهذا يعني أن فكر هؤلاء لا يجب أن يؤخذ به كونه مسلمات لم يتم دحضها بعد ذلك.

كل هذا كان يزيد من دعم التقسيم إلى "نمطين" منفصلين: ما هو متقدم وما هو متخلف (أو محكوم) من الأجناس والثقافات والمجتمعات. إذ نرى جون وستليك يقول في كتابه (فصول في مبادئ القانون الدولي) عام 1894، إنه يجب على الدول المتقدمة أن تضم أو تحتل "مناطق الأرض" التي توصف بأنها "غير متحضرة".

يقول سعيد "كانت نظرية الأجناس، والتصنيفات، والحاجة إلى أراضي المستعمرات كانت جميعاً عناصر في مزيج خاص من العلم والسياسة والثقافة يهدف دائما إلى رفع أوروبا أو رفع الجنس الأوروبي إلى موقع السيادة على (الأقسام) الغير أوروبية للبشرية".

وحسب قول دارون، فإن الشرقيين المحدثين يمثلون البقايا المنحطة لعظمة سابقة، وأنه لا أمل في تطورهم.

وكل ذلك بالطبع أسس لشرعية الاحتلال باعتباره نتيجة منطقية، فما دام الشرق غير قادر على حكم نفسه، فمُهمة الرجل الأبيض هي أن يحكمه كي يستطيع إدارته، فتلك هي الضالة التي وجدها الاحتلال كي يبرر وجوده. وحسب ما قاله اللورد كيرزون في المؤتمر الإمبريالي عام 1909 بأوكسفورد "إننا نتولى التدريب هنا ونرسل إليكم حكامكم ومديريكم وقضاتكم ومعلميكم..".

يزخر تاريخ القرن العشرين بالأدلة التي تثبت ما جره ذلك من عواقب وخيمة على البشرية جمعاء، وهي عواقب أخلاقية وإنسانية. فلنراجع كيف تم استعباد واحتلال شعوب بأكملها ونهب ثرواتها وممارسة التمييز العنصري ضدها. ألم تكن مذابح الهولوكست هي نتاج لفكرة تفوق الجنس الآري على غيره من أجناس؟ ألم يكن الفصل العنصري في أفريقيا نتاج لتلك الأفكار؟

يلقي الدكتور إدوارد سعيد الضوء على استمرار إضفاء هذه الشرعية الأكاديمية والفكرية خلال مناقشات الإسلام أو العرب أو الشرق الأدنى في العصر الحديث. يقول "إذا لم يعد من الممكن لأحد الآن أن يكتب كتابات علمية متخصصة عن (الذهن الزنجي) أو عن (الشخصية اليهودية)، فمن المتاح بيسر أن يقوم البعض ببحوث في موضوعات مثل (العقل الإسلامي) أو (الشخصية العربية)".