بعدما خرجتُ من سجون الأسد

بعدما خرجتُ من سجون الأسد

29 مارس 2018
+ الخط -
حدثني الصديق (إسماعيل واو) عما تعرضَ له من ألم نفسي أعقب خروجه من سجون حافظ الأسد في سنة 1995، سَبَبُهُ ازورارُ أهل بلدته عنه.

قلت: أنت كنت في سجن صيدنايا، والآن تستخدم صيغة الجمع فتقول لي إنك طلعت من (سجون) حافظ الأسد.

ضحك وقال: أنا أتحداك أن تعثر على سجين سياسي سوري واحد أمضى سجنه كله في سجن واحد! أنا مثلاً اعتقلوني في إدلب، ووضعوني في زنزانة منفردة بفرع الأمن العسكري لمدة شهرين ونصف، وبعدها نمت ليلتين في نظارة الشرطة العسكرية، نقلوني بعدها إلى حمص، وتركوني أربع ليالٍ في مكان لا أعرف اسمه، وبعدها نُقلت إلى فرع فلسطين (عقبى لتحرير فلسطين وليس فرع فلسطين) الذي بقيت فيه سبعة أشهر، ثم نقلت إلى سجن تدمر وأمضيت فيه 12 سنة، وبعدها إلى سجن صيدنايا حيث أمضيت السنتين الأخيرتين. لذلك سأؤكد لك أنني خرجت من (سجون) حافظ الأسد كلها.

قلت: فهمت قصدك.
قال: أنا أعرف، وأنت تعرف أن حافظ الأسد واحد وسخ، أجلك الله، وحاشيته أوسخ منه.. ولكن الشيء الذي فاجأني، ولم أكن أتوقعه على الإطلاق، هو أن أهل بلدتي الطيبين لم يأتوا للسلام عليّ وتهنئتي بالعودة!! على المدخل الرئيسي لسجن تدمر، وعلى جدرانه الداخلية كَتَبَ السجناءُ الذين سبقونا عبارات رهيبة، من قبيل: يا داخل إلى هذا المكان انْسَ الزمان.. والداخل مفقود والخارج مولود. أنا أريد أن أركز على الشطر الأخير من هذه الجملة (الخارج مولود)، فأنا خرجت، وخروجي يشبه الولادة الجديدة، وهذا هو مصدر عتبي على أهل البلد، وألمي منهم.

في بلدنا يا أستاذ إذا زوج صديقُك ابنه ولم يدعك إلى عرسه تزعل وقد تمر سنوات وأنت لا تكلمه، وإذا اشترى صديقٌ ثانٍ داراً جديدة، وفرشها، يجب عليك أن تحمل هدية وتذهب لتبارك له بالدار، فإن لم تذهب سيأخذ على خاطره منك، وحتى مَنْ يذهب إلى الحج ويعود بالسلامة يزوره أهل البلد، للسلام عليه، وشرب ماء زمزم وأكل بعض التمرات السعوديات عنده،.. وإذا وُلد لصديقك الآخر غلام تذهب لتهنئته، ومعك الهدية.. وأما أنا الخارجُ من جحيم سجون حافظ الأسد، فأستحق أن يأتوا كلهم لزيارتي حتى لو قصروا مع أقاربهم وأصدقائهم في التهنئة بمناسبات الفرح، إذ لا يوجد فرح أكبر من هذا الفرح.

قلت له: لا شك أنهم يحبونك، وفرحوا بخروجك، ولكن الخوف منعهم من السلام عليك. أليس كذلك؟
قال: طبعاً، ولكن هذا الخوف مبالَغٌ فيه. المهم أنني، ذات يوم، انفجرت غيظاً ونزلت إلى السوق، ورحت أستوقف كل شخص أصادفه، وأقول له:
- أنا كنت في سجون الأسد وخرجت وأنت ما سلمت علي. ممكن أعرف السبب؟
وبعدها قمت بجولة على أصدقائي المقربين، وقرعتُ أبوابهم واحداً واحداً، وسألتهم السؤال نفسه، وأنا أعرف أن سؤالي كان يحرجهم، وأن عليَّ أن أقدر ظروفهم وخوفهم المزمن من المخابرات التي ستصنف الواحد منهم تحت اسم (متعاطف مع شخص معارض)... ولكنني لم أستطع السكوت، فقد انفجرت كما قلت لك.

قلت: وبعدها أيش صار؟
قال: تركت البلد. وهذه حكاية أخرى سأحكيها لك في وقت لاحق.
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...