لا تشربوا من نهر الجنون

لا تشربوا من نهر الجنون

22 مارس 2018
+ الخط -
"ما قيمة نور العقل وسط مملكة من المجانين؟" هذا السؤال يلخص القضية الفلسفية التي عالجتها مسرحية نهر الجنون للكاتب المصري توفيق الحكيم، وهي مسرحية قصيرة جدا -من فصل واحد- يحكي فيها عن ملك رأى في حلمه، أن من يشرب من النهر الذي يجري في مملكته يصبح مجنونا، فامتنع تماما عن الشرب منه، ومنع زوجته ووزيره والمقربين منه من الشرب، وأمرهم أن يعيشوا على شرب النبيذ، ولكنهم خالفوا أمره، فشربوا منه إلا وزيره.

ويدور الحوار بين الملك والوزير، ليكشف لك المصيبة التي يعيشها هذا الملك، الذي أخذ يسأل عن أكابر مملكته الواحد تلو الآخر، ليصدمه الوزير بأنهم شربوا جميعا من النهر وانضموا إلى المجانين، بمن فيهم زوجته الملكة، ويا ليت الأمر اقتصر على أسرة الملك وحاشيته، بل تفاقم وشربت جميع الرعية من النهر وأصيبوا بالجنون.

وفي جانب آخر يدور الحوار بين الملكة وحاشيتها، الذين يتأسفون فيه على المصير الذي آل إليه الملك، ويحاولون البحث عن أي علاج للجنون الذي أصابه هو ووزيره، حتى يحتار القارئ بين الفريقين، أيهما العاقل وأيهما المجنون.


في نهاية المطاف يرتعب الوزير، عندما تتسرب إلى مسامعه همسات الرعية وحاشية الملكة، والذين أصبحوا على يقين أن الملك ووزيره قد فقدا عقليهما، ليبدأ حوار عميق بين الملك والوزير، يتساءل فيه الوزير عن قيمة العقل وسط مملكة من المجانين تعتبر هذا العاقل مجنونا، فالقيمة الوحيدة لهذا العقل أنه يجعلك منبوذا، واستمر الوزير في تساؤله عن الفائدة من اعتقاده هو والملك بصحة عقليهما، في حين أن الجميع أصحاب القوة والسطوة، ومن في أيديهم إمكانية فرض الأمر الواقع هم من يقررون الخطأ من الصواب، العقل من الجنون.

اقتنع الملك في نهاية المشهد بحتمية شربه من نهر الجنون لكي يحافظ على ملكه وحياته، وعبر عن قناعته هذه بقوله: "إنه من العقل أن أوثر الجنون".

تعقيب

ما قيمة نور العقل وسط مملكة من المجانين؟ هذه القضية التي تطرحها مسرحية نهر الجنون خطيرة جدا، بل إنها كفيلة إذا دخلت في روع أي صاحب قضية يلاقي الصدود والمقاومة من قومه -كأي صاحب قضية- بإقعاده عن دعوته، والقضاء على همته، فما أنا إلا واحد، فهل أستطيع أن أغير مجتمعا بأسره، وكيف لي وحدي أن أقوّم ما اعوجّ في هذا المجتمع.

هي فكرة ساحقة لدور الفرد في المجتمع؟ أين هذه الفكرة من حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عندما يقول: "لا تكونوا إمعى، تقولون إن أحسن الناس أحسنا، وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم، إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساؤوا فلا تظلموا". هذا هو مفهوم الرجال -لا أقصد الذكور- الذين لا يعبأون بعدد من يقف خلفهم وقت مطالبتهم بالحق، أو الأمر بالمعروف أو النهي عن المنكر.

نهر الجنون يمر في معظم بلداننا، ويعب الناس منه عبا، وواجبك تجاه قومك أن تقول لهم كفوا عن الخوض في نهر الجنون، أن تجعلهم يفيقون من سورة جنونهم، بقوة العقل التي حباك بها الله، لا تكن كهذا الملك الأحمق الذي لم يقدر نعمة العقل التي وهبها الله إياه، ولم يؤد شكر هذه النعمة، التي خص بها من دون قومه.

هذا الملك جبان، تهرب من واجبه كراع مسؤول عن رعيته، اختار الحل الأسهل، الذي يحفظ عليه حياته، وأنا هنا لا أنكر صعوبة مواجهة كهذه، والتي جسدها جوزيه سارماغو في روايته "العمى" عندما قال فيها "الأكثر رعبا من العمى .. هو أن تكون الوحيد الذي يرى"، ولكني مصر على وصف العاقل الذي يهرب من هذه المعارك باللجوء إلى الخيار السهل بأسوأ النعوت.

تخيل معي لو أن عبدالله بن ياسين مؤسس دولة المرابطين فكر بالنفسية التي تخرج بها بعد قراءة هذه المسرحية، هل كان سيؤسس دولة بهذه القوة، وقبله سيدنا أبو بكر الصديق والصحابة الكرام الذين تمسكوا بدينهم في جنون الردة الذي اشتعلت نيرانه في العقول والنفوس بعد موت الرسول صلى الله عليه وسلم.

فاثبت على الحق وإياك أن تشرب من نهر الجنون، وإن شرب كل من حولك.

دلالات

E54E1B2B-FB7D-42B9-BEF7-A4E8C4802534
علي خيري

كاتب ومحام مصري أكتب في عدد من المواقع العربية وغالبا ما أسبح بقلمي ضد التيار.

مدونات أخرى