محاربة "الحرقة" بسيف الفتوى

محاربة "الحرقة" بسيف الفتوى

18 مارس 2018
+ الخط -
على صدر صحيفتي "المساء" و"الشعب"، وهما جريدتان تابعتان للقطاع العام الحكومي، وبخط عريض، كُتب هذا العنوان: "المجلس الإسلامي الأعلى يحرّم الحرقة"، ويقصد بـ"الحرقة" الهجرة غير الشرعية التي يختارها شباب اليوم للوصول إلى أوروبا عبر قوارب الموت، إذ تناول الملتقى الذي أشرف عليه المجلس الإسلامي الأعلى، وهو هيئة استشارية تابعة لرئاسة الجمهورية الجزائرية، موضوع "الحرقة". وتناول الباحثون، خلال الملتقى، الجوانب السيكولوجية والاجتماعية والأسباب الاقتصادية للظاهرة، واختتم الملتقى بتلاوة بيان من طرف لجنة الإفتاء تحرّم فيه ضمنياً الفعل على أساس أنه إقدام على الانتحار ومهلكة للنفس البشرية، مستدلة بنصوص قرآنية ومقاربات فقهية.

الإشكالية التي تُطرح اليوم على مستوى النقاش والاهتمام المجتمعي هي إقحام الدين في الشأن العام والنقاش العمومي بشكل نفعي وانتهازي - وصولي، وتحت الوصاية السياسية وأجندة تخدم السلطة.


فقد سبق أن رأينا كيف ادّعت السيدة نعيمة صالحي، رئيسة أحد الأحزاب السياسية، أنها من الأشراف ومن سلالة النبي محمد، في محاولة لإضفاء القدسية على ذاتها، كذلك نشهد انتشار محلات الرقية الشرعية والطب التقليدي خارج أي مراقبة حكومية، بل قام وزير الصحة السابق السيد عبد المالك بوضياف بتقديم المساعدة المالية والتقنية لصناعة دواء مكافحة داء السكري، وأخذ أبعاد دينية في التسويق له تحت مسمى "رحمة ربي"، في دلالة دينية على المفعول الروحي - الديني في معالجة داء السكري، وتنبّأ سعادة الوزير بأن الاختراع سيحدث مفاجأة علمية عالمية.

إذن فالواضح أن السلطة السياسية الفاشلة والخطاب السياسي المفلس أصبحا يستخدمان الأدبيات الدينية والمؤسسات الإسلامية في المجالات العمومية كنوع من التبرير لفشل المنظومة التنموية والهروب إلى الأمام الذي ينتج في الغالب الحلول الوهمية بدل مناقشة المضمون وإيجاد حلول فعلية، وبالتالي يقدم فيها الخطاب الديني الرسمي التقليدي الحلول الجاهزة.

محدودية المجال الديني في تناول المسائل العامة
إن المقاربة الفقهية المعتمدة بهذا الشكل التقليدي المشيخي تعبّر عن القطيعة الروحية بين الخطاب الديني الرسمي وبقية أفراد المجتمع، وتعكس الرؤية الرجعية للدولة في معالجة الظواهر الاجتماعية، عبر استخدام التحريم كآلية للمنع والصد، بفضل ما يترتب على التحريم من الخوف من الله والترهيب من مخالفة أوامره، على الرغم من أن الفضاء الديني مسألة شخصية نسبية تتعلّق بالشعور والمزاج، ولا يمكن الخوف من أن يكون مانعاً لفعل "الحرقة"، في المقابل يشكل القانون والوعي المدني مانعين صارمين من الإقدام على "الحرقة".

في مقابل ذلك، يمتلك "الحراق" في مخيلته ما يعتبره أسباباً شرعية للهجرة، مستدلّاً بأن رسول الله أقدم على الهجرة، على الرغم من وجود المخاطر، وأن طلب الرزق والعيش قد يكون واجباً شرعياً. فبدلاً من أن تلعب المؤسسة الدينية الرسمية دور الإشباع الروحي والصوفي وإيجاد توازن مجتمعي والارتقاء بالفكر الديني نحو مزيد من العقلنة والتنوير والإصلاح الديني، في ظلّ سيادة "التدعيش الديني" وتأسيس المتعدّد وفق وسطية وسماحة الإسلام، ها هي تخوض حروباً ضد الحراك الاجتماعي والمتنوع حتى في الفضاء المذهبي الإسلامي، بإقصاء المذهب الحنفي (رباعية التكبير في الأذان) تحت مبررات المرجعية المذهبية الوطنية.

الخلاصة أن الفشل التنموي وفقدان الشرعية التمثيلية أوجدا تحالفات بين الإدارة البيروقراطية والأجهزة النظامية، وعودة المؤسسة الدينية الرسمية كواجهة سياسية تقدم المناعة للجهاز السياسي، عبر فتاوى تحرم الإضرابات ووجوب إطاعة ولي الأمر، وهي أدبيات تستخدم في الكيانات الدينية القبلية القائمة على أساس التعاقد القبلي الديني وليس العقد الاجتماعي الجمهوري. إن الوعي المدني المواطناتي القائم على اختيارات وقناعات فردية هو الكفيل بوقف أي حركات احتجاجية تمسّ بالاستقرار، وأي خطوة تمس بسلامته النفسية والجسدية، وليس التحريم.