حبل الجب بعشرة ملايين

حبل الجب بعشرة ملايين

09 فبراير 2018
+ الخط -

من أجمل ما قرأت للكاتب السوري الفذ، سليم بركات، مسرودة طويلة نشرها ذات يوم في مجلة "الكرمل" الفلسطينية بعنوان: "دفتردار الهباء". والدفتردار هو الشخص الذي ينشئ قيوداً للإيرادات والإخراجات المهمة، وأما تسمية دفتردار الهباء، فتشير إلى شدة العبث والاهتمام بالأشياء الفارغة لدى الناس في بلادنا.

أتذكر هذا العنوان، وأتذكر معه اللعب والجد والجنون والعبث والحرائق والمساخر والفراغ والعنف والبؤس والفوضى الاجتماعية والإنسانية، التي أوغل سليم بركات في رسمها وتلوينها بأسلوب لغوي متفرد، ضمن السلسلة القصصية المتميزة التي ابتدأت مع "الجندب الحديدي" و"سيرة الصبا".. ووصلت إلى دفتردار الهباء.

سبب تذكري لعالم سليم بركات القصصي أنني كتبتُ ذات مرة متهكماً من الدعاء العربي الشهير (الله يطول عمرك)، منوهاً إلى أن طول العمر لا يمكن أن يكون مهماً بحد ذاته، وإنما المهم أن تكون لـ طويل العمر مساهمةٌ في حياة الناس حوله، أو أن يقدم عِلْماً ينتفع منه الناس، أو حكمة تؤدي إلى إطفاء حريق اشتعل بينهم، وإلا انطبق عليه ما كتبه عمر الخيام وترجمه أحمد رامي:

فقد تساوى في الثرى راحلٌ

غداً وماضٍ من ألوف السنين.

ذات مرة، في زمن قديم، وبينما أنا جالس وراء كومبيوتري، أشتغل على مشاريعي الكتابية المتنوعة، إذ رن موبايلي، نظرت إلى الشاشة فوجدت عبارة (لا يوجد رقم) مرتسمة عليه، فتحت الخط وإذا بشخص عزيز علي من معارفي القدامى، وبمجرد ما قلت "ألو" سارع إلى إفهامي أن لديه مشكلة في دفع فاتورة خطه الهاتفي المحمول، فقاطعته قائلاً: مفهوم مفهوم. امْلِ علي رقمك الأرضي وأنا أتصل بك.

المهم، اتصلت به، وعرفت منه ما يريد. وهي أن أباه وأعمامه الثلاثة تلقوا دعوة من البلدية للحضور واستلام مبلغ عشرة ملايين ليرة سورية، كل واحد منهم له مليونان ونصف يأخذها حلالاً زلالاً، شريطة أن يحضروا معاً ويوقعوا على أمر الصرف، ولكنهم كانوا يرفضون الاجتماع والذهاب إلى البلدية والتوقيع وقبض النقود، لأن بينهم مشكلة قديمة وهي أن عمي ناظم، قبل عشر سنوات، استعار من عمي أيوب دلو الجب (القادوس)، وأثناء قيام ابن عمي ناظم بمتح الماء انقطع الحبل ووقع الدلو في الجب، وكان سعره، في تلك الأيام، مع الحبل ربع ليرة، ومع ذلك زعل عمي أيوب من أخيه ناظم، وزعل من أخويه الآخرين لأنهما لم يقفا معه ضد أخيه، والقصة دخلت في التقادم ومع ذلك هي ما تزال تحول دون قبض كل منهم مبلغ مليونين ونصف المليون.. فتخيل يا رعاك الله.

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...