مرآة السيسي

مرآة السيسي

17 فبراير 2018
+ الخط -
أورد الرافعي في حديث القمر: "أن قوماً من العرب ترحَّلوا عن بعض منازلهم فكان من أنسائهم - متاعهم - قطعة مرآة... فمرت بها ضبع كأشأم ما خلق الله قُبحَ طلعة وجهامة منظر، حتى كأن في وجهها تاريخ الجيف التي اغتذت بها، فوقفت عليها تعجب من إشراقها وسنائها، وما كادت تنظر فيها حتى راعها وجهها ولا عهد لها برؤيته من قبل، لأن الله رحيم... فانقبضت الضبع وزوت وجهها وقالت: من شر ما اطَّرحكِ أهلك أيتها المرآة!!".

هكذا كانت الانتخابات الرئاسية المصرية المزمع إجراؤها في مارس المقبل بمثابة المرآة الصقيلة الجميلة التي تم اختطافها من ثورة يناير 2011 مع أشياء كثيرة، أو تم نسيانها في وقت انشغل فيه الثوار بتقسيم الكعكة الموهومة. الانتخابات التي كانت نتيجة لتضحيات الثورة المجيدة، ولدماء الثوار الطاهرة، وتلك التي خرج المصريون من أجلها مرات عديدة، ووقفوا في صفوفها طويلاً، لاختيار رئيسهم بكل حرية وفخر من قائمة ضمت وقتذاك ثلاثة عشر مرشحاً، لأول مرة في تاريخهم الحديث.

ولما رُحِّلوا قسرياً إلى المقابر، والمنافي، والسجون، تركوا وراءهم من ضمن ما تركوا هذه المرآة، المسماة الانتخابات الرئاسية، ولما مر بها السيسي ونظر فيها، وجد أول ما وجد، العقيد أحمد قنصوه يحدث نفسه بالترشح أمامه، فانقبض وأسرع باعتقاله وسجنه، ومن ثم تخلص منه، وما كاد يتنفس الصعداء حتى رأى من يخرج إليه من دبي معلناً ترشحه هو الآخر، فكان اللواء أحمد شفيق. ثم أسرع مرة ثانية لإخفائه والضغط عليه ومساومته، حتى رضخ شفيق في النهاية ورأى أنه لم يعد مؤهلاً لرئاسة مصر، ثم انزوى في هدوء.

وظن صاحبنا بأن الجو أصبح صافياً دون تعكير، حتى فاجأه رجل من قلب المؤسسة التي ينتمي إليها، وله من تاريخه العسكري ما هو معروف، فكان أن خرج يهدد ويتوعد لكل من توسوس له نفسه الاقتراب من عرينة! ثم كانت المفاجأة للجميع، التي لم يكن يصدقها أحد أو يتوقع رد الفعل بهذه الطريقة، فتم خطف رئيس أركان الجيش السابق وسجنه ومحاكمته. ثم قام صاحبنا بكسر هذه المرآة التي أرته وجهاً لم يكن يحب أن يراه، ثم كسرها بغضب وهو يقول: من شر ما اطَّرحكِ أهلك أيتها المرآة...!

إن إخراج المسرحية بهذه الطريقة البائسة، سيجعل جمهورها ومحبي ممثليها ينفرون منها. وحتى لو عاندوا على إتمامها بدون جمهور، فلن يُكتب لها النجاح في الأخير، ولن يستطيعوا الاستمرار كثيراً بدون جمهور ومشجعين؛ هؤلاء الذين من الممكن أن يقفوا في صفوف ولكن لدعم آخرين!

تذكرت وأنا أتابع المشهد وصفاً للفيلسوف السياسي هارولد لاسكي في كتابه "تأملات في ثورات العصر"، ورغم أن الكتاب ظهر في نوفمبر 1942 إلا أنه يتحدث كأنه يجلس بجواري يتابع ويقول: "عندما يتسلط الخوف على حكام مجتمع ما يبدو أن العقل نفسه أصبح عدوهم. وأولئك الذين يحكمون بأن سياستهم مخطئة يصبحون فوراً أعداء لهم. بل حتى عدم الهتاف بسياستهم يؤدي إلى الاشتباه في سوء النية. وكلما كان الخوف أعمق زاد ما يتولد عنه من وحشية، فيندفع الحكام تحت تأثير منطق مجنون إلى القيام بأعمال تزداد قسوة... وهم لا يستطيعون التمهل ليفكروا، لأنهم لو فعلوا ذلك، فكأنهم يشكون في ما يعتقدون. بحيث يصبحون فريسة لأمراض نفسية تساعدهم على بناء عالم أشباح لا تعرف الحقيقة سبيلها إليه! ويبدو لهم أنه ليس هناك شيء ممكن سوى الانتصار الكامل أو الهزيمة الماحقة، فهم بعدما طرحوا العقل جانباً فقدوا دليلهم إلى الطريق الوسط، لأنهم يدركون أن أسوأ ما في الأمر قد يقع، ومن ثم يتخذون احتياطهم ضده".

ولما قيل لجمال عبد الناصر إن شكري القوتلي عاتب عليه لأنه يفاوض أعداء الكتلة الوطنية للدخول في الوزارة، وذلك إبان الوحدة المصرية السورية في القرن الماضي، قال عبد الناصر: "ليس عندي وقت لأن أمنع المعارضة في مصر وأسمح بها في دمشق! واللي مش عاجبه يقدر يترك البلد ويسافر".
لا حل عند الحاكم الجديد سوى القوة، فقد تسلط عليه الخوف وأصبح العقل نفسه عدواً له.
F9564B83-FF50-486A-9BC1-A882E1477F2C
وليد شوشة

كاتب مصري مهتم بالفكر والسياسة ورفع الوعي وإعادة تشكيل العقل العربي ليتناسب مع المعطيات الجديدة.يقول: أنا سائح يطلب الحقيقة وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس ومواطن ينشد لوطنه الكبيرالكرامة والحرية والاستقرار والحياة الطيبة.