أحلامٌ ميتة

أحلامٌ ميتة

16 فبراير 2018
+ الخط -
في مكانٍ ما في هذا العالم، كانت هناك فتاةٌ عشرينية، جميلة بمعايير تلك الحقبة، ولكن الفقرَ أخذ بهاءَها وأذبل شفتيها. كانت تستظل بالأغصانِ مترنمةً مع العصافير، باكيةً مع الأنهار الجارية، حاسدةً البقرةَ على وفرة المأكل.

عندما تغيبُ الشمسُ، تودِّعُ نهاراً مرَّ في لمحِ البصر، ترجعُ إلى ذلك الكوخ وتلتهمُ خبز الشعير مع قليلٍ من الزيتِ، ثم تنامُ مفترشة القشَّ اليابس الذي أكل عليه الدهر وشرب، وتنام وفي مخيلتِها أحلام تتجول، وتتمنى لو كانت الحياةُ كلها أحلاما بلا يقظة.

مرَّت أعوامٌ وأعوامٌ على كوثر المسكينة، الحزينة، الكئيبة، دائما تنتابُها الأحلامُ والهواجس مثلما تتناوبُ القطعانُ على مجاري الماء. رأيتها ذاتَ صباحٍ ملبّد بالغيوم، فكانت بيضاء لا تشوبها شائبة، عيونها تسقطُ كلّ من رآهما، ذاك الصباح أدركتُ، لا بلْ قطعتُ الشَّكَ باليقين، أنَّ للجمالِ لغةٌ سماوية، للجمالِ لغةٌ سماوية، الجمالُ سِرٌّ تفهمهُ أرواحنا، رأيتها، كانت ترتدي ثوباً وردياً من الحريرِ الناعم، عيونها تلمعُ كالذهب الخالص. ثم أخذت يدي بيدٍ تضاهي زنبقةَ الحقلِ بياضاً ونعومة. كنت أمامها ملاكاً أخرسَ.

كانت نحيلةَ الجسمِ، صوتُها خفيض حلوٌ تَقطعهُ تنهُّدات فينسكِبُ من بين شفتيها القُرمزيتين اللَّامعتين مثلَ تساقطِ قطراتِ الندى في فصلِ الربيع. وجهها حزينٌ، هادئٌ، جمالها مختلف عن بنات زمنها، عنقها عَاجِيٌّ، روحها نبيلةٌ شبيهةٌ بشعلةٍ بيضاء. أقول كلمةً أو كلمتين، فأصمتُ طويلاً خجلاً وحياءً من جمالها، وهي أيضا كانت خجولة، ومعالمُ الاحمرارِ باديةٌ على وجهها النيِّر البهي، أخذتنا متاهاتُ الحديثِ، ولم نُحس بالوقت الذي يمرُّ بسرعةِ الضوء.

أخبرتني أنَّ والدها توفيَّ وتركها صغيرة، ثم لحقت به أمها بعد أشهر قليلة. لم تراهما بأمِّ عينيها، بل تتخيلهما فقط. كم أنا محظوظ لأنَّ أمي ما زالت موجودة، أما كوثر، فإنَّها تعيشُ مع زوجةِ عمها التي تعنفها أشدَّ العنف لفظياً أو جسدياً. كيف لهذا الملاكِ الجميل أنْ يعاني في الحياة، أنا ذميمُ الخِلقةِ وأمرٌ طبيعي أنْ أعاني، ولكن هذه الجميلة التي تنيرُ الكون بمحاسنها الفاتِنة، لا يعقل أنْ تعاني، بل يجبُ أنْ تستمع بلذَّات الحياة.

على الحياة أنْ تفعلَ كلَّ شيء من أجلِ إسعادِ هذا الملاك. طبيعي أن نعاني نحن المشوهين خِلقياً، ولكن أولئك الطيبين بجمالهم ونصاعةِ بياضهم يجب أنْ يستمتعوا بالحياةِ وما فيها. كذبَ من قال الدنيا جميلة، لا فكيف تكون جميلة ونحنُ نعاني مع الأمراضِ والآلام والفقرِ المدقع. الدنيا خبيثةٌ وخبثها كخبث مرضِ عضال لا علاجَ له، سوى أنْ يحتضنكَ التراب، وينهشُ الدود جسدك. هذا هو العلاج.

كوثر المسكينة رغم أنني لا أعرفها معرفةً مسبقة، إلاَّ أنَّ فؤادها شعر بارتياحٍ عميق اتجاهي. ربَّما أحسَّت بمأساتي، من يدري. سألتها عن مستواها التعليمي، وبعد صمتٍ مديد، أجابت قائلةً: لم يسبق لي أن درست. جملتها هذه تقشعرُّ لها الأبدان، أحسستُ بحرقةٍ أسفل صدري، وسألتُ نفسي كيف يمكنُ للحياة أن تقف بالمرصاد أمام هذا القمر المضيء، حتى القليل من شعرها الظاهر على جبهتها كان جميلا، كم تمنيتُ في تلك اللحظة أن أكونَ أنا صديقها، حبيبها، دفئها من برودةِ وصقيعِ الحياة.

ولكن ليس كل ما يتمناه يتحقق، وقد صدق المتنبي حينما قال:

ما كلُّ ما يتمنّى المرءُ يدركه    تجري الرياحُ بما لا تشتهي السفنُ
أنا أتفق معه، لأنَّ سفني في الحياة ذهبت عكس ما كنتُ أريد ولكن ما باليد حيلة.

في ذلك اليوم المُشمس، أعجبت بها أيَّما إعجاب. كانت الفتاة شابة حسناء، فاتنةَ القَسَمات، تزين وجهها عينان سوداوان لنظرتهما وقع السحرُ على الحواس والقلب والأعصاب.

انبعثَ في قلبي خَفقان واضطراب، وشعرتُ بنشوةٍ رائعة لا مثيلَ لها، ثم لسعتني حسرةٌ أليمة، حسرةُ محروم طال عهدُه بالحرمان، حيث كانت حياتي في الواقع خالية من الحُبِّ مثل كهف رطبٍ لا تَزُورُهُ الشمس، لأنَّ تفانيّ في طلبِ العلم لم يدعْ لي وقتَاً لشيءٍ سواه. كان في عيب، لا أكاد أبين ما يجولُ في خاطري فلم يَكُن في وسعي قط أن أُحسِنَ خطاب فتاةٍ فضلاً عن أنْ أُغَازِلَها ودعاني هذا وذاك إلى النفورِ والابتعادِ عن الحسان وإلى ما يشبه الخوف منهن!

وجراء هذا الابتعاد قد شربتُ من كأسِ الخوف والخسارة دون سابقِ إنذار. الحياةُ بدون حب لا تستحقُّ أنْ تُعاش. ولكن إيَّاك أنْ تحب بصدق، فرجل الحبِّ جبران خليل جبران أَحَبَّ بصدقٍ فماتَ عازباً، فأنا لا أريد أن أموت عازباً أو أنام لوحدي دونها، وقد صدق الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز حينما قال: فلا يوجد مكانٌ في العالم أتعَسُ من سريرٍ فارغ.

هكذا أنا، ولكن كوثر بجمالها الفتَّاك، أدخلتني في متاهاتِ الحب، أحببتها، فكانت ملكةً بين ضلوعي، وتاجَ الهمة فوق رأسي. تقاسمنا تجاربنا الشخصيِّة. لم أدرِ كيف ضممتُها إلى صدري، وقبَّلتها في شفتيها اللاَّمعتين، وابتسمتْ من شدَّةِ وهولِ القُبلة على نفسيتها. هنا أدركتُ معنى الحب رغم الفقر، الفقراءُ هم من يعيشون الحب بجميع أطواره، لا تَكترث يا صديقي الفقير للأغنياء فإنَّهم يعانون ولا يعيشون الحب، وحتى إنْ عاشوه.

وَصَفْتُها لكم كوثر، ولكنَّ اللُّغة خانتني؛ فمن رأها لن يصدقني، وسيقول في نفسه ما هذا الجمال، "هل هو جينات أم رباني؟". عزيزتي الفتاة، لا تُتعبي نفسك بشراء مساحيقِ التجميل، وتقفي أمام المِرآةِ ساعات طِوال، لتظهري أنيقة؛ فالجمال هبةٌ ربانية ولا يكتسب. وليكنْ في علمكم أنَّ كوثر بعد أن أسمعتها أبياتاً شعرية من شِعْرِ نزار قباني وجبران خليل جبران، ابتسمت ابتسامةً جميلة، من رأى ابتسامتها تلك رأى قمراً في وسط الليل يبتسم، ومن رأى شفتيها رأى بريقاً من الذهب الخالص يلمع.

انتهى ذلك اليوم الجميل، سيبقى خالداً على مرِّ الزمان، لا يمكنني نسيانها. اختفت فجأةً، جعلتني آتي إلى نفسِ المكان كلّ يوم، أنتظر بفارغِ الصبر لا بل على أحرٍّ من الجمر أنْ أرى ذلك النور الساطع مرةً أخرى. كم تمنيتُ أن أراها مرةً أخرى. دعوني أخبركم أنَّ رؤية الجمال، يدفعكم إلى خوضِ غمار المنافسة، فذهبت أبحث عنها في منزلِ عمها، فخرجت زوجة عمها وقالت بصوتٍ يخيفُ سامعهُ: لا توجدُ هنا فتاة، أغرب عن وجهي وإلاَّ... طأطأت رأسي خوفا، وعدتُ أدراجي.

كانت كوثر عبارة عن حلمٍ جاءَ فأفرحني وذهب فأحزنني، هذه الحياة دخلت معي في حربٍ لا تنتهي، حتى المشاعر حرمتني منها.

وداعاً لقمرٍ غادرَ الحياة، وخلَّف وراءهُ الحزن والاحترام، وغيَّرَ مفاهيمِ الحياة وطعمها لدى الراسخين في أبجديةِ الحياة.

وداعاً للنُّورِ السَّاطع الذي تركني أتحدثُ عن إقصاءِ قمرٍ منيرٍ، نورهُ يفتحُ قلبَ النَّاظِرِ إليه. كانت قريبةً من خلعِ ثوبِ العذاب عن جسدي، ولكن الأقدار شاءت وأخذتها إلى مكانٍ بعيد، ذهبت وتركت نقطةً سوداء في قلبي، جاءت بدونِ موعد ورحلت دون سابق إنذار.

رحلت كوثر ورحلت معها السعادة. لا يمكن لنا العيشُ دون أشعة الشمس، وكذلك أنا، غربت شمسي وخيَّمَ ظلام حالك على حياتي.

إلى كوثر الجميلة، لا يمكنك أنْ تموتي وتتركيني في هذا الوجود القَذِر، المتسخ، المملوءِ بالذئاب التي تُكشِّرُ عن أنيابها صباحَ مساء. إنْ كنت لا تزالينَ على قيد الحياة، فأملي كبير في أن أجدك، وأما إن رحلت فيقيني أني سألتقيك يوما وسأعيش على الوفاء لجمالك.

دلالات

D0771653-5987-472A-9832-BC01A63DAA54
سفيان البراق

مدون مغربي... طالب جامعي في السنة الثانية شعبة الفلسفة. السن 19 سنة وأنحدر من منطقة هوارة نواحي مدينة أكادير.