في السريعة المنجزة

في السريعة المنجزة

15 فبراير 2018
+ الخط -
ما نفعله بسرعة لا نفعله بإتقان، ومع ذلك يُخدع الكثيرون بالسرعة الخادعة. كنت وأصدقائي نتحدث عن فكرة برنامج، وكانت دهشتي أو قل صدمتي أن الأفكار المطروحة كانت سطحية للغاية. كان الأمر غريبًا بكل المقاييس؛ فهؤلاء الأصدقاء على درجة عالية من الوعي والثقافة، لكنهم للأسف يتحدثون بلغة الأرقام، وهي لغة سهلة القياس من منظور تسويقي.

قال بعضهم: إن إصرارنا على تقديم فكرة ثقافية أشبه بتقديم وجبة دسمة لمريض فاقد الشهية، واجبنا في هذه الحالة أن نقدم للمريض ما يبحث هو عنه. المشاهد الآن يبحث عن الغثاء الذي لا قيمة له ولا فائدة منه، ونظرة نلقيها على عجل تؤكد ذلك! إليكم مثلًا أغنية "ديسباسيتو" التي بلغ عدد مشاهداتها 4.8 مليارات مشاهدة على موقع يوتيوب، وبلغ عدد مشاهدات أغنية سعد لمجرد "أنت معلم" على نفس الموقع 587 مليون مشاهدة، وأغنية "3 دقات" ليسرا وأبو وصلت 150 مليون مشاهدة، أما أغنية "العب يلا" فقد تخطى عدد مشاهداتها 99.8 مليون مشاهدة.


قوبلت الفكرة التي عرضتها على أصدقائي بالرفض التام، وكان التبرير منطقيًا من منظور الأرقام؛ فأنا أريد تقديم فكرة ثقافية للشباب العربي، وهو نفسه الذي يتابع اليوتيوب بهذه الأرقام المهولة؛ فما الباعث على خوض تجربة معروفة النتائج؟ وعلى طريقة العرب "من جرَّبَ المجرَّب كان عقله مخرَّب"؛ فهل يجدر بي أن ألوذ بالصمت أو أركب الموجة؟ ركوب موجة السطحية له نتائج رقمية إيجابية، إلا أن عواقبها الثقافية والمجتمعية خطيرة.

لاحظ الأصدقاء اشمئزازي من هذا القياس الذي لا يعد معيارًا كافيًا للحكم؛ فزاد أحدهم الهمَّ وأشجاه بقوله: لماذا لا تقتنع بهذه الأرقام؟ إن كنت تظن أن الشباب تابع تلك الأغاني بطريق الصدفة، وهذا غير منطقي بالمرة، فإن هذا الشباب يتابع قنوات اليوتيوب التي تعرض لترهات لا فائدة منها على الإطلاق. أغنية "صامولي" زاد عدد مشاهداتها عن 45.8 مليون مشاهدة، والقائمة تطول ومعها يتعمَّقُ الجرح.

الشباب في كل أمةٍ وملة هم قادة نهضتها وركيزة قوتها، وبكبوة الشباب تتراجع الدول وتنزوي الحضارات. هل شبابنا الذي أسلم قياده للسطحية والركاكة قادر على النهوض بأعباء أسرة؟! سؤالٌ لا بد من الإجابة عليه بصدق لنصل من خلاله لحلٍ يناسب الأزمة الحالية. إن السطحية والابتذال لا تعين المرء على تحقيق أهدافه الشخصية، فضلًا عن النهوض بأعباء أسرته ومجتمعه وأمته.

الولع بالشهرة من أكبر بواعث انتشار السطحية في مجتمعاتنا العربية؛ فتجد من يتصرف بسذاجة مبالغ فيها "منتهى الأوفر"، ويُقْدِم على تصوير نفسه في مشاهد تافهة لأجل الانتشار والشهرة؛ مبررًا لنفسه أن هذا طريق الشهرة بالطريقة السريعة المُنجِزة. لا يعني ذلك أنني أفتي بحرمة الغناء أو الشهرة؛ فللفتوى قامات تضطلع بهذا العبء، وإنما يؤرقني كما يؤرق كلَّ غيورٍ على مجتمعه أن يتسابق شبابنا في أتون السطحية والعبثية التي لا تسمن ولا تغني من جوع.

يتألم طلبة العلم من ذيوع صيت من لا يستحق الذكر، وفي الوقت ذاته ترى أهل العلم يُضيَّق عليهم وتُحجَبُ عنهم الأسماع. وقد تألم قبلنا ابن الرومي من انبساط الزمان للحمقى فقال: (دهرٌ علا قدرُ الوضيعِ به وترى الشَّريفَ يحطُهُ شرفه). ضعف الشباب ثقافيًا وفكريًا وعقائديًا يمثل حجر الزاوية في الضياع، وقديمًا قيل: "عند الهدمِ يُحمَدُ غِشُ البناء"؛ مما يشير إلى أن التأثير على الشباب المسطح الفكر كحدوة الحصان غاية في السهولة، ويعادل من يكتب على ورقةٍ بيضاء. يسهُل التلاعب بشابٍ زاده من الثقافة ينحصر في أغاني هابطة وبرامج سخيفة؛ فمتى نفيق؟