بين البطولة والطفولة

بين البطولة والطفولة

13 فبراير 2018
+ الخط -
على الأرض الفلسطينية المحتلة هناك حيث الاشتباك حال دائم، باختلاف الأزمنة والأمكنة في هذا الوطن المحروم من الشمس والحرية والطفولة، يجد أطفال فلسطين أنفسهم في خضم مواجهة مع بنادق المحتل، رفقة من يكبرهم وعياً وإدراكاً وقدرة على التعامل مع الظرف الذي يفرضه جنود الاحتلال في لحظة ما، ويصير الطفل والشاب والرجل والمرأة تحت وطأة الرصاص وبنادق الغاز والاعتقال!

يسقط الفلسطيني شهيداً أو جريحاً ربما، وفي أحيان أخرى قد يُساق معتقلاً بين حشد من الجنود لمصير نعرف بعض أحداثه ونجهل أكثرها، ولكن إذا كان هذا الفلسطيني طفلاً، ماذا ينبغي أن نسمي ذلك، هي الشجاعة حتماً، الشجاعة التي تربى عليها أجيال الفلسطينيين على مدار 70 عاماً من الاحتلال، الشجاعة والبسالة والشموخ والصمود، ولكن هل يمكن أن نعزي أنفسنا بهذه القيم فقط؟!

هل يمكن أن نقول لإمرأة ترى طفلها وقد تكاثرت عليه أجساد الجنود: ابنك شجاع.. ونسكت!، ما الذي ينبغي للأم المكلومة أن ترد به؟، قطعاً ستقول: "فدا فلسطين.. فدا القدس.. فدا الأقصى" وليست كاذبة، ولكن هي أم والذي خسرته طفلها، مهما يكن الوطن غالياً ونفديه بالنفيس والرخيص، ولكن أطفالنا أيضا كذلك، وكما يقول الشاعر تميم البرغوثي في هذا السياق واصفاً فلسطين: "لمين تعيش لو ماتوا أهاليها؟!".


أمام هذه الأسئلة، نجد أنفسنا محاصرين بين البطولة والطفولة، فمن جهة نحن لا نريد أن نلغي عن أطفالنا صفة الطفولة اللازمة أن يعيشها الإنسان كاملة قبل أن يدخل معترك الحياة شابا قادرا على مواجهة التحديات الفردية أو تلك التي تفرض على المجتمع، ومن جهة أخرى لا يمكن أن ندفع أطفالنا للحياد كونهم مازالوا صغارا على هذه المواجهة، فالعدو استهدفهم ويستهدفهم مرارا وسيظل كذلك.

فالأطفال الفلسطينيين المعاصرين هم النقيض لتلك الطفولة التي حاول المحتل أن يصبغ بها الأجيال القادمة، ولذلك فشل الرهان الإسرائيلي على هذا الجيل الصاعد، وصار لزاما عليه تبعا لسياساته الإجرامية وضع الأطفال أولوية في قوائمه الحمراء، وحتى لو نأى العدو بهذه الفئة العمرية عن جرائمه هل يقتنع الأطفال بذلك، وهم الذين يتقدمون الصفوف في كثير المرات، بل وفي بعض الأحيان قادوا المسيرات بحناجرهم الصغيرة وكانوا جزءا لا يتجزأ من مشهد المقاومة الفلسطينية.

عهد التميمي؛ إجابة شافية على كل تساؤل حول المسافة بين الطفولة والبطولة؛ وجدت عهد نفسها بسنينها الـ 17؛ بجدائلها التي تستدعي الأمل؛ برباطة جأشها وقوة عينها تقود جيلا كاملا من أطفال العالم، نعم طفولة العالم كلها اختزلت في هذه الطفلة، وصارت الطفولة أيضا مطالبة بالنهوض في المقاومة، لأن العالم لهم؛ والزمن الذي سيأتي لهم؛ وهكذ كانت عهد دون دراية منها تصيغ إجابة وافية، وعلى كل أحرار العالم أن يروا أنفسهم في هذه الطفلة.

الطفلة الصرخة؛ التي صفعت وجه الظلام بيدها الصغيرة، لتحدد لنا مجددا معالم الصراع بالصفع إذا قررت عهد ذلك، دون أن تسأل ما الذي ينبغي أن أفعله؛ دون أن تسأل نفسها إذا ما كانت طفلة صغيرة على حدث كبير كهذا أم أنها بطلة بحجم الفعل الواجب؟، إنها تصرفت وفقا لقناعاتها، ووفقا لما تمليه عليها مبادئها والنهج الذي تربت عليه، وعنفوانها الصغير الذي كبر على حين غرة ليكون بمثابة الصفعة، وصفعتنا عهد التميمي؛ صفعت السكوت والصمت.. والتساؤلات.

وجدت عهد نفسها فوق هذه الأسئلة كلها لتنتقل مباشرة إلى الفعل، وهذه دعوة مباشرة للانتقال بنا أيضا إلى الفعل بدلا من التساؤل والبحث عن الإجابات، وهنا يقودني فعل عهد إلى ذلك السؤال الكبير الذي وضعه غسان كنفاني في محاولة منه للتأكيد على نفس الدعوة إلى الفعل: "لماذا لم يدقوا جدران الخزان"، إذا فالفعل جاء من الطفلة، من الطفولة جاءت الإجابة، من فعل الطفلة عهد، لتكون طفلة الأرض، ابنة قرية النبي صالح، التي دخلها الجنود خلسة في ليل حالك لاختطاف الطفلة الأشهر في القرية، والتي ستصير الأشهر في العالم في زمن قياسي.

بالنهاية علينا أن نعترف أن الأطفال جزء من المعركة شئنا ذلك أم أبينا، والبطولة يمكن قياسها بالطفولة أيضا، وعرفنا متأخرين بأن كلمة الطفولة واسعة للحد الذي يمكن لها أن تحمل معاني البطولة والشجاعة دون أن ننتقص من القيمة العليا للطفولة، دون أن نجد أنفسنا مطالبين بالفصل بين الطفل والبطل؛ لنضعها في سياق واحد، ونعتاد على هذه السياقات الجديدة التي فرضها علينا أطفال الألفية الجديدة.
C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.