عن المواطن المثالي والوطن الذي بهتت ملامحه (1-2)

عن المواطن المثالي والوطن الذي بهتت ملامحه (1-2)

10 ديسمبر 2018
+ الخط -
للحظات، ظن الحاضرون أن نجمهم المحبوب سيعتذر عن قبول جائزة نوبل للآداب، وأنه سيرميها في وجوههم بعد أن ينهي خطابه الصادم، لكنه كان أضعف من اتخاذ ذلك القرار، فاكتفى بالوقوف أمامهم معبراً عن مشاعره المتناقضة بالقول: "يعتريني شعوران مختلطان حيال تسلّم هذه الجائزة، من جهة أشعر ببالغ الإطراء، لكن من جهة أخرى يطغى عليّ شعور مرّ، لأني مقتنع بأن هذا النوع من التكريم الجماعي متعلق مباشرة وبلا أدنى شك بانحدار مستوى الفنان، الجائزة تثبت أن علمي يطيب لأذواق وحاجات الحكام والمختصين والأكاديميين والملوك، من الواضح أنني الفنان الذي يضمن لكم الراحة الكبرى، وتلك الراحة لا علاقة لها بالروح التي يجب أن يصطبغ بها كل عمل فني. يُفترض بالفنانين أن يُشكّكوا وأن يزعجوا، ولذلك أشعر بالأسف على تقديسي الأخير بصفتي فناناً، رغم ذلك فإن الشعور الطاغي وهو الفخر المحض، سيدفعني من قبيل النفاق إلى أن أقبل الجائزة وأشكركم على تقرير نهاية مغامرتي الإبداعية، لكن رجاءً لا تحسبوا أني ألومكم بهذا القول، هذا أبعد ما يكون عن الحقيقة، لا يقع اللوم هنا على عاتق أحد سواي، أشكركم".

يفتتح المخرجان الأرجنتيني ماريانو كون وجاستون دوبارت فيلمهما (المواطن المثالي) بهذا المشهد الجميل، الذي نرى بعده بعض تفاصيل حياة بطلهما دانيال مانتوفاني الذي عاش أغلب حياته في أوروبا بعيداً عن بلده الأرجنتين، لكنه "خلق عالماً قوياً يتمحور حول مسقط رأسه، وامتلأ نتاجه الأدبي بتفاصيل كثيرة عن البلدة الصغيرة التي وُلِد فيها وعاش فيها صباه وسنواته الأولى"، كما جاء في حيثيات منحه جائزة نوبل للآداب التي كرّسته واحداً من أعظم الأدباء حول العالم، وغمرته بطوفان من حفلات التكريم والدكتوراهات الفخرية والمقابلات التلفزيونية والميداليات وأوسمة الشرف، لكنه قرر أن يعتذر عن قبول كل تلك التكريمات وحضور تلك الاحتفاليات، ويظل ملازماً لعزلته في مدينة برشلونة التي يقيم فيها منذ عقود، محاولاً العثور على رواية جديدة يرضي بها نفسه القلقة، قبل أن يرضي ناشريه المتعطشين لعمل جديد يتلقفه قراؤه حول العالم، الذين لم يكتب لهم عملاً جديداً منذ خمسة أعوام.


دعوة وحيدة هي التي تمكنت من اختراق حصون دانيال الرافضة للاختلاط بالآخرين، جاءته من مدينة سالاس مسقط رأسه في الأرجنتين، التي غادرها دون رجعة وهو في العشرين من عمره، إذ أرسل إليه مجلس المدينة يدعوه إلى حضور حفل تكريم يتم فيه منحه لقب (المواطن المثالي) ويقوم بإلقاء محاضرات لأهل بلدته المحبين له. وبرغم أنه رفض في البداية، تماماً كما ظل يرفض كل الدعوات التي تأتيه من أنحاء الأرجنتين، فقد استفزه شيء ما في هذه الدعوة بالذات وأثار شهيته لقبولها بعد تمنّع، ربما لأن أهل مدينته حددوا وبشكل مضحك موعد التكريم، ليكون بعد أسبوع من تلقيه الدعوة، دون أن يعطوه فرصة لتحديد الموعد، وكأنهم لا يتصورون أبداً أنه سيرفض الدعوة التي كانت أول دعوة تأتيه لزيارة مكان ظل طوال حياته يحاول الهروب منه، مع أن شخصيات رواياته لم تغادر ذلك المكان أبداً.


يخبر دانيال مديرة أعماله أنه سيلغي كل ارتباطاته ليذهب إلى سالاس بمفرده، شريطة أن تتفق مع منظمي الزيارة ألا يصحبه في رحلته فضول الصحافيين ولا كاميرات المصورين، ولذلك جاء وصوله إلى أقرب مطار من مدينته التي تبعد 734 كيلو متراً عن العاصمة بوينس آيرس، أكثر سرّية مما يجب، حيث أرسل أهل المدينة لاستقباله مواطناً ضخم الجسد قاسي الملامح لا يعرف عن ابن مدينتهم شيئاً على الإطلاق، وجعلوه يرفع ورقة كتب عليها كلمة (دانيال) فقط، لكي لا يثير انتباه أحد من الذين ربما جعلهم الاسم الكامل يتعرفون إلى ملامح الكاتب قليل الظهور في وسائل الإعلام. يقرر السائق غريب الأطوار أخذ طريق مختصر للوصول إلى المدينة التي تبعد سبع ساعات عن المطار، لكن إطار السيارة ينفجر في طريق زراعي مهجور حتى من إشارات التلفون المحمول، ولأن السائق لا يؤمن بالإطارات البديلة، يقضي الاثنان ليلتهما في "الطلّ"، حيث يضطر الكاتب الشهير إلى إحراق نسخة من كتاب له لإشعال نار للتدفئة، ويضطر رفيقه اللاسع إلى استخدام أوراق أخرى من الكتاب لمسح مؤخرته بعد "عمل الثقيلة".

حين يصل دانيال - الذي أدى دوره باقتدار الممثل أوسكار مارتينيز - إلى مسقط رأسه بعد رحلة شاقّة، يرفض الذهاب إلى مقابلة رئيس المدينة مباشرة، ويقرر أن يمشي قبلها في شوارع المدينة بمفرده، ليجدها بالضبط كما تركها قبل أربعين عاماً، ينزل في فندق المدينة الصغير والوحيد، حيث يلتقي بموظف الفندق الشاب، وهو قارئ معجب، نكتشف في ما بعد أنه كاتب ناشئ. حين يصل دانيال إلى مقر رئاسة المدينة، يخبره الرئيس ببرنامج زيارته المزدحم الذي سيكون من ضمنه رئاسة لجنة تحكيم في مسابقة رسم، ثم يفاجئه بأن عليه أن يجوب شوارع المدينة على متن عربة مطافئ بصحبة ملكة جمال المدينة، وبعدها شاهد فيلماً تسجيلياً قام سكان المدينة بعمله عنه بطريقة بدائية، لكنها تؤثر فيه للغاية، وخاصة حين تأتي سيرة أمه التي رحلت عن الدنيا قبل أربعين عاماً، ووالده الذي رحل بعدها بعشر سنوات ولم يحضر جنازته، بعدها يتلقى دانيال ميدالية (المواطن المثالي) من ملكة جمال سالاس، وسط حفاوة جميع سكان المدينة، الذين يتعرف من بينهم إلى لوسيا مدرّسته بالصف السادس، معرباً عن تأثره بعودته إلى مدينته التي ابتعد عنها أربعة عقود، ولا يزال منها "حتى لو لم أرد ذلك"، وحين لاحظ ضيق البعض من عبارته تلك، حاول تلطيف الموقف بالقول إنه رفض الانحناء لملك وملكة السويد، لأنه لا يكنّ احتراماً للأنظمة الملكية، لكنه قام باستثناء عن طيب خاطر، حين انحنى لملكة جمال سالاس، التي يعد أنه سيحاول أن يكون على قدر الشرف الذي منحته له باختياره مواطناً مثالياً.


في الندوة التي أعقبت حفل تكريمه، سألته فتاة جميلة عما إذا كانت التعاسة أفضل شرط للإبداع، فيجيبها بالنفي قائلاً إن الألم لا يضمن الإبداع العظيم، صحيح أن آرثر رامبو وفان جوخ مثلاً عاشا حياة معذبة، لكنه يستطيع ذكر فنانين عظماء عاشوا حياة هادئة ومستقرة، من بينهم مثلاً مواطنه خورخي لويس بورخيس الذي لم يكن سعيد الحظ مثله، ولم يحصل على نوبل للآداب، تحرجه الفتاة المشاغبة فتقول له إنها قرأت له من قبل رأياً مناقضاً لما قاله الآن، إذ كتب في مقالة له إن أكثر الدول هدوءاً واستقراراً إنتاجها الفني أقل إثارة للاهتمام، لكنه ينفي أنه قال ذلك من قبل مؤكداً أنه لا يؤمن بخرافة الفنانين المعذبين، ثم يبادر إلى إنهاء الندوة، ليتلقى هدايا مواطنيه، ثم يسعد برؤية أقدم أصدقاء عمره أنتونيو، الذي يفاجأ بأنه تزوج حبيبته إيريني، التي هجرها دانيال قبل أن يغادر المدينة. يذهب دانيال إلى قناة التلفزيون المحلية في المدينة لإجراء لقاء تلفزيوني هو الوحيد الذي وافق عليه طيلة فترة الزيارة، يسأله المذيع ـ الذي يتضح أنه هو الذي قام بعمل الفيديو التسجيلي عنه ـ لماذا أصبح كاتباً؟ فيرد بأن الإجابة عن سؤال كهذا ليست سهلة، لكنه يعتقد أن الكتاب والفنانين بصفة عامة لا يقبلون العالم كما هو، ويشعرون بأن الواقع ليس مُرضياً لهم ولا يليق بأن يعاش هكذا، لذلك يشعرون بضرورة خلق واقع جديد، على عكس عموم البشر الذين لا يشعرون بالحاجة إلى ذلك، فهم سعداء بالعالم كما هو، لكنه لا يعرف في الحقيقة أي الاختيارين أفضل: قبول الواقع أم السعي إلى تغييره، ولذلك يميل إلى الإجابة عن السؤال بالقول إنه أصبح كاتباً لأنه لم يتوفر له خيار آخر، إذ فشل في كل شيء آخر.


يسأله المذيع السؤال الذي يتردد في أذهان الجميع، لكنهم ربما قرروا تأجيل طرحه عليه لعدم إحراجه: "لماذا لم تعد إلى مدينتك طيلة أربعين سنة، ولو حتى لإجازة أسبوعية؟"، يقول مرتبكاً: "رغبت في العودة لكن بعيني وأذني ليس بجسمي، لأرى المدينة كأنني أراها على شاشة سينما، لأتجاوز بذلك كل ألم يمكن أن يحدث لي، لكن بغض النظر، المهم أني هنا الآن"، يسأله المذيع بجدية عما يمكن أن يشربه حاصل على جائزة نوبل للآداب، وقبل أن يجيب، يفاجئه المذيع بإخراج زجاجة من إنتاج شركة عصائر محلية، تتضمن كوكتيلاً من عصير البرتقال والليمون الهندي والخوخ، ليقوم المذيع بالإعلان عنها بحماسة في نهاية مقابلته التي لم ير لها دانيال مثيلاً طيلة حياته، ليختم دانيال عبث المقابلة بالمشي أمام الكاميرا وهو يغادر الاستديو.

خارج الاستديو يقترب رجل بدين من دانيال ليعرفه إلى نفسه بأنه ابن أوريليو بريفيتليو، لا يبدو على دانيال أنه يعرف ذلك الاسم، لكنه يرحب تأدباً بالرجل الذي يقرر أن يعرفه إلى أبيه أكثر، فيقول له إن والده هو بطل الشخصية التي كتبها دانيال في روايته (عملاق الرمل)، شخصية توماسيتو الفتى الذي يمتلك دراجة يوصل بها الطلبات، ويعرب لدانيال عن فخره بأن والده ظهر في إحدى رواياته، وعن شكره لدانيال بأنه قام بتخليد أبيه الذي رحل عن الدنيا، لكنه ظل حاضراً إلى الأبد بفضل دانيال، ولذلك يحرص الرجل على معانقة دانيال ودعوته إلى حضور عشاء في منزله، لكي تطهو له أمه وصفتها المفضلة من المعكرونة، ويعطيه عنوان منزله، ويحدد له الموعد، دون أن يتعامل بجدية مع رفض دانيال للدعوة بسبب ازدحام برنامجه.


تأتي حبيبته السابقة إيريني لزيارته في فندقه، يتأثر كثيراً بزيارتها، تبدو حريصة على أن تؤكد له سعادتها مع أنطونيو، يلومها لأنها لم تحضر ندوته، فتخبره بأنها كانت مشغولة في التدريس لأطفال فقراء في بلدة قريبة، حيث تعمل لهم مدرسة وطباخة ومستشارة نفسية، يطلب منها أن يذهبا معاً إلى البحيرة التي كان يحب أن يترددا عليها، ليفاجأ بأن البحيرة قد جفت تماماً من المياه، يخبرها أنه لم يستطع أن يكتب أي شيء عن حياته في أوروبا التي لم تلهمه على الإطلاق، لتظل بلدته وأهلها مصدر إلهامه الوحيد. وبرغم حرص الاثنين على أن تظل علاقتهما متحفظة، يبدو أنهما يشتاقان إلى بعضهما كثيراً، لا يقوى على منع نفسه من تقبيلها، تبادله قبلة سرعان ما يندمان عليها، حين يعود إلى الفندق، يعطيه راميرو موظف الاستقبال الشاب ملفاً به قصص قصيرة ويطلب منه إبداء رأيه فيها، يفاجأ دانيال بزيارة غير مخطط لها في غرفته، من الفتاة الجميلة التي شاغبته في الندوة، والتي تحمل معها كتابه الذي يحتوي على الفقرة التي أنكر أنه كتبها، وتقرأ له نص الفقرة التي تقرر أن الأدب العظيم ينبع من المجتمعات العنيفة لا من المجتمعات الهادئة، وقبل أن يجد رداً مناسباً يبرر به نسيانه لما سبق أن كتبه، يفاجأ بها وقد هجمت عليه لتقبله، يذكرها في البدء أنه في سنّ أبيها، لكنه يضعف أمام إغراء جسدها الجامح، ويضطر لإلغاء عشاء رسمي دعته بلدية المدينة إليه، ليظل بصحبتها.

في الصباح يطلب منها نادماً أن تغادر غرفته، ليبدأ برنامج يومه الثاني من الزيارة، الذي سيقضي أغلبه في استعراض الرسومات المشاركة في مسابقة الفن التشكيلي، مقرراً التعبير عن رأيه بصراحة في ما يستهويه وما يكرهه، تنبهه زميلته في لجنة التحكيم إلى أن بعض الأعمال التي رفضها شارك بها من يفترض أنهم أفضل فناني المدينة، لكن دانيال الذي لم تعجبه لوحاتهم، حتى لو كانت لوحة للبابا فرانسيس ابن الأرجنتين البار، يعطي صوته للوحة عادية تم رسمها على ظهر كرتونة جهاز كهربائي، وحين تعتذر له زميلته المشرفة على المسابقة بأن بعض المشاركين لا يتمكنون من توفير لوحات مناسبة لكي يرسموا عليها، فيضطرون للرسم على كل ما يمكنهم الحصول عليه، يقول لها متحمساً إن هذا بالتحديد هو سر إعجابه باللوحة، وأن قيام صاحبها بتحويل ظهر كرتونة لجهاز كهربائي إلى عمل فني، قام بتوصيل معنى شديد الأهمية، يجعله يستحق الجائزة الأولى بكل تأكيد.

يحظى رأيه بموافقة العضو الثالث المنبهر بكل ما يقوله دانيال، الذي ظن أنه أنهى عمله على أكمل وجه، وأن الموضوع قد انتهى، لكنه يفاجأ خلال تناوله للغداء مع زميله بشخص يقتحم القاعة، ثم يعرف نفسه بأنه الدكتور فلوسييرو روميرو رئيس جمعية سالاس للفنون البصرية، الذي يستغرب أن لوحته التي شارك بها في المسابقة، لم تكن جيدة من وجهة نظر دانيال، وأنه فضل عليها لوحة ركيكة لمجرد أن شخصاً محدود الدخل رسمها على ظهر كرتونة، معتبراً بغضب أن حسّ دانيال ملوّث بإقامته بالخارج، وأنه يحاول أن يفرض على البلدة معايير مستوردة للفن التشكيلي، تشبه أدبه المليء بالحقد والكراهية لبلده وجذوره، ويهدد دانيال بأنه لن يسكت على تلك الإهانة، وأنه سيرى من سيكون له القول الفصل في نهاية المطاف، وهو تهديد لم يأخذه دانيال مأخذ الجد، وكان ذلك أبرز أخطائه، أو لنقل خطأه الثاني، بعد خطأ قبوله بالقدوم إلى مسقط رأسه بعد كل ذلك الغياب.

نكمل في الغد بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.