إلى العائش في الطناش

إلى العائش في الطناش

09 ديسمبر 2018
+ الخط -
(مقتطفات من رسالة إلى صديقي الفنان، المنتقل دون مقدمات تأصيلية ولا مبررات تنظيرية، من التمرد المستمر إلى الطناش المبين) 

... أعتقد أن رسالة السلطة وصلتك جيداً بعد موقعة فستان صديقتنا رانيا يوسف التي انتصرت فيها الفضيلة الراسخة على البطانة المنفلتة، يعني لن يكون كافياً من الآن وصاعداً، أن تأخذ موافقة السادة الضباط على ما تقوم به من أعمال فنية، وعلى ما تعلنه من مواقف وآراء، وعلى ما تنحاز إليه من اختيارات سياسية وثقافية، بل عليك الآن أن تكون متأكداً من موافقتهم على ما ترتديه من ملابس وما ترغب في تعريته من أجزاء جسدك، إن أخذتك الجنّونة وقررت أن تعري بعضه يوماً ما لأسباب فنية أو إنسانية. 


 

عليك ألا تنسى أنك اخترت أن تلغي عقلك وتهين مشوارك وموهبتك، حين أعلنت أنك أصبحت جندياً مجنداً في معركة الوطن ضد المؤامرة الكونية، طيب، هل سمعت من قبل عن جندي مجنّد يرتدي ما يحلو له، أو يفكر بدماغه لا بدماغ آمريه، أو يعلن آراءه دون أن يستأذن من قادته؟ هل تصورت أنك بعد أن "تسلم نفسك مكتب"، لتكون رهن إشارة الضابط المختص، ستحصل على فرصة لكي تفكر أو تقرر أو تتصرف دون إذنه؟ هل كانت هذه فكرتك عن التجنيد يا "برنس التفكير المستقل" كما كنت تحب أن تسمي نفسك؟ هل كنت تظن أن التجنيد الفني يختلف في شيء عن التجنيد العسكري؟ هل تصورت أن عقلية "الله الوطن بالأمر" يوجد لها طريقة استخدام مختلفة في الحياة المدنية؟ هل أنت صامت الآن تماماً لأنك مصدوم بما رأيته؟ أم أنك صامت لأنك قررت أن الطناش والاستعباط هما الحل الوحيد لنجاة ليست مضمونة مائة في المائة، فربما تطنش وتستعبط وتصمت، وتجد المصائب والمهالك آتية لحد عندك، حين يطلب منك البيه الضابط طلباً لا طاقة لك به، ألم تحصل مع من هم أهم وأقدم منك بكثير، فلماذا لا تحصل معك؟ 

 

هل تذكر كيف كان أداؤك مختلفاً قبل سنوات، حين كنت تنشط بكثافة في كل مكان، في البرامج والفيس بوك وتويتر والصحف والندوات، وتتحدث عن البلد التي أنقذها الرئيس المخلِص المخلّص عبد الفتاح السيسي، والذي يذكرك بسلفه المخلِص المخلّص جمال عبد الناصر، كان دم الأبرياء يسيل في الشوارع وقتها على أهون سبب، وكانت حياة الناس وأعراضهم وسمعتهم رخيصة، ولذلك لم يسألك أحد ممن حاوروك وتابعوك، ولو على سبيل المزيد من الفهم، عن طبيعة التخليص الذي خلّصه الاثنان للبلد التي خلّص عليها أمثالهما من المستبدين ومنافقيهم وألاضيشهم، لم يسألك أحد أيضاً كيف تحولت فجأة من أحد أبرز مروجي الحنين إلى عصر الملكية الذهبي، إلى أحد أبرز المنظرين للضبط والربط العسكري، ولا كيف لحست كل صيحاتك الحماسية عن الشعب المصري العظيم الذي علّم العالم وأبهر البشرية، لتستبدلها بعد رفع سعر البنزين وانخفاض سعر الدولار، بآراء عن الشعب الجاحد الجاهل الذي لن تنصلح أحواله إلا إذا وضع البيادة فوق رأسه حباً وطواعية؟ لم يسألك أحد لأن الكثيرين من متابعيك ومحبيك، كانوا يشاركونك في تلك التحولات المؤسفة، التي لم تكن إجبارية كما يحاول البعض أن يصورها الآن، بل كانت اختيارية وواعية، وإن اختلفت فيها النوايا، بين متسلقين منافقين لم يتركوا أي موجة إلا وركبوا عليها وحاولوا الارتزاق من وراءها، وبين مسارعين مثلك إلى التحمس لأي "حالة تاكل مع الناس"، لأن ذلك يشعرهم بالأمان والارتياح، أو لأنهم يدركون خطورة ألا تكون مع الأغلبية العظمى مع الناس، حين يكون رزقك معتمداً على محبتهم ورأيهم في وطنيتك وأخلاقك وخفة ظلك. 

 

لم يعجبني ما فعله صديقنا الغاضب قبل أيام حين قام بـ "تتويجك" أنت وأساتذة وأصدقاء وزملاء آخرين من غلاة المتحمسين السابقين للقائد المخلص، في تدوينة ساخرة يتساءل فيها لماذا لم يسمع لكم صوتاً تتضامنون فيه مع رانيا يوسف في محنتها، ولماذا لم تقوموا مثلاً بالذهاب إلى مكتب وزيرة الثقافة أو إلى دار الأوبرا وأنتم ترتدون نفس الفستان أبو بطانة الذي تسبب في كل تلك الضجة العبثية، التي تعلم جيداً أنها جاءت من محامين لا يتحركون إلا بتليفونات السادة الضباط، ولا يسكتون إلا بأمرهم. لم يعجبني كلامه المليئ بالتبكيت والتأتيت عن حبكم للتظاهر الآمن والنضال المجاني، فالأصل في التظاهر أن يكون آمناً، وليس العيب على من يرفض إعلان رأيه خوفاً من القمع والبطش، بل على من يقمع الآخرين ويبطش بهم إذا اختلفوا معه في الرأي، وقد كان هذا أصل خلافي الشديد معك في تلك الأيام السوداء من صيف وخريف 2013، حين اتهمتني بالخيانة والعمالة لأنني استنكرت ابتهاجك أنت وكثيرين من أصدقائنا بما تعرض له من نختلف معهم من بطش وقمع، هل تذكر كيف كنت غاضباً للغاية حين قرأت مقال (كله سَلَف ودين)، ومقال (كلنا سماح أنور) الذين نشرتهما في صحيفة (الشروق)؟ وكيف هانت عليك عِشرة السنين فلم تفكر في أن تناقشني قبل أن تنهال علي في كل مكان بالسب والتخوين والطعن في الوطنية والنزاهة؟ 


لا والله، ليس بي من رغبة في الشماتة، ولا حاجة إلى التأتيت، فالوضع كله خرب وحزين ومقرف لدرجة لا تجعل للشماتة بهجة ولا للتأتيت معنى، كل ما هنالك أنني أتمنى وأنت تقضي هذه الفترة من البطالة الإجبارية في تأمل ما جرى، فتدرك خطأ وخطل فكرة القائد المخلّص التي كنت تقضي وقتاً طويلاً كل يوم في الدفاع عنها، هل تذكر تلك الصور المضحكة التي كنت تنشرها بعد أن تستعين بمتخصصين في "الفوتو شوب"، ليمزجوا لك بين عيني عبد الناصر وعيني عبد الفتاح، هل تذكر تنظيراتك عن عودة عهد عبد الناصر الذي اكتشفت فجأة أنه كان بعيد النظر ثاقب البصيرة، هل وجدت ما وعدك عبد الناصر وعبد الفتاح حقاً؟ هل تعلمت الآن أن القائد المخلِّص لا يأتي وحده بإنجازاته وشعاراته وخطبه وأغانيه وميثاقه ودوائره الثلاثة، بل هو طقم كامل يأتي معه أتباع ودلاديل وشماشرجية وانتهازيون، قادرون في ظل غياب الرقابة والمحاسبة على هتك عرض أي نوايا حسنة أو مقاصد نبيلة، وأنك حين تُسلم عقلك وضميرك وصوتك لأي جمال عبد الناصر، دون أن تحتفظ لنفسك بحق النقد والاعتراض والمساءلة، سيأتيك مع الطقم أناس من عينة عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وشمس بدران وحمزة البسيوني وعبد المنعم أبو زيد وغيرهم من الذين يحلو بعد الهزائم وخيبات الأمل تصوير أنهم كانوا يعملون بمفردهم بعيداً عن أعين الزعيم المخلّص، مع أنه كان يتفاخر على الملأ بأنه أوصل البلد إلى مرحلة الضغط على زرار لتقوم والضغط على زرار لتتخمد في سابع نومة. 

بالمناسبة ولكي لا نفرط في الحديث عن عصور مختلفة التفاصيل متشابهة الجوهر، هل ذكّرك اسم عبد المنعم أبو زيد بشيئ؟ هل لا زلت تذكر القصة التي رفضت الرقابة قبل سنوات أن تقوم بتحويلها إلى فيلم كنت تتصور أنه سيذهل مشاهديه حين تحكي لهم عن سكرتير المشير الذي رأى الممثلة الجميلة سهير فخري فعرض عليها الزواج، وحين قالت له إنها متزوجة من السيناريست والمحامي والمنتج محمد كامل حسن، لم يثنه ذلك عن رغبته في امتلاكها، لينتهي بها الأمر في أحضانه، بعد أن أدخل زوجها مستشفى الأمراض العقلية؟ هل تظن الآن أن هذه القصة لا يمكن أن تتكرر معك أو مع غيرك، لو رغب ضابط مسنود في أي شيء تمتلكه، ألن تكون ديّتك في حالة الرفض كم رصاصة من اللواتي تم إطلاقها على الخمسة الذين تم اتهامهم بقتل جوليو ريجيني، وحين ثبتت براءتهم مما قتلوا من أجله، لم ينطق أحد بالدفاع عنهم، ولم يُسمح لأهاليهم بالبكاء عليهم والمطالبة بحقهم، يعني إذا كانت مهزلة مثل تلك التي ارتكبها عبد المنعم أبو زيد، قد حدثت ومرت دون حساب ولا عقاب، في العصر الذي كانت أكفأ العقول والأقلام والمواهب تضع أنفسها في خدمة القائد المخلّص، فهل تتصور أنها لن تتكرر في هذه الأيام التي تتسيّد الساحات فيها شخصيات "ضايعة" منحطة أعلم جيداً رأيك فيها، وإن كنت للأسف لن تجرؤ على إعلانه.  

 

أعلم أنك ظللت لوقت طويل تحاول إثبات أن مخلّصك الجديد صاحب رؤية نافذة، ستمكنه من تجاوز أخطاء المخلّص السابق، وأنه سيحسن اختيار أعوانه وأتباعه مع مرور الوقت، وأعلم أنك كنت تظن نفسك واحداً ممن سيقع عليهم الاختيار لإنجاح مهمة "العهد الحالي" في إنقاذ مصر ورفعها إلى مصاف الأمم المتقدمة ثقافيا وفنياً، لأنه "لا تقدم لأي دولة بدون فن حر وثقافة مستقلة"، هل لا زلت تذكر تلك العبارات الطنانة الجميلة التي كنت ترددها كثيراً في السنة التي حكم فيها الإخوان؟ ألم تفكر في أن تقوم بصياغتها الآن ولو بشكل مخفف في مقالة أو تدوينة أو فيديو قصير، ولو حتى لتريح ضميرك المثقل بالأحزان، وأنت ترى السادة الضباط وهم يأمرون وينهون ويشخطون وينطرون، ويقررون مصائر الأعمال والعاملين، فيجلسون أمثالك بكل خبرتهم وموهبتهم في بيوتهم دون شغلة ولا مشغلة، ويسمحون لغيرك أن يخرج من بلاتوه سينما إلى استديو تلفزيون إلى قاعة احتفالات، حتى ينتهي مفعول رضاهم عنه، ألا تستحق هذه الأوضاع البائسة منك نقداً مهذباً بدلاً من ملء حسابك الشخصي على الفيس بوك بمقاطع زمن الفن الجميل وإعادة أهداف محمد صلاح وميسّي وصور المناظر الطبيعية الخلابة وفيديوهات القطط اللئيمة والكلاب الراقصة؟

"انت عايز مني إيه يا ابني دلوقتي؟"، ستسألني غاضباً وأنت تعلم أنه لا شيء يمكن لك أن تفعله الآن، فقد فات للأسف الأوان الذي كان يمكن أن تكون فيه لكلمتك معنى، هل تذكر الأيام التي كنت تسب وتلعن فيها كل صاحب رأي مختلف عنك، وتتهمه بالخيانة والعمالة، وتطالب بقمعه والبطش به؟ ألا تعتقد أن شكل أيامنا الآن كان سيكون أفضل، لو قررت أنت وغيرك من أصحاب الأصوات المسموعة والمواهب المقدّرة، أن تعقلنوا أداءكم في تلك الأيام وتطلبوا من كل من يستمع إلى أصواتكم أن يهدأوا ويتبصروا، وأن يتوقفوا عن مباركة القتل المجاني والقمع الأعمى، وألا يمنحوا تفويضاً مجانياً لأحد مهما بدا لهم منقذاً ومخلّصاً، وألا يكرروا أخطاء الماضي التي أودت بمصر إلى هذا الوضع المزري؟ وإذا كنت تعتقد الآن أن صوتك لم يكن ليغير شيئاً فيما جرى، بل ربما جر عليك السخط واللعنات والأذى الذي حدث لآخرين، ألا ترى أنه كان من الأفضل والأشرف لك وقتها أن تتحلى بالصمت، ولا تكون مناصراً للقمع الذي عشت طول عمرك ترفضه في أعمالك ومشاريعك، ولا تكون مؤيداً لإهدار حقوق الناس وإهانة كرامتهم بشكل يتناقض مع كل ما كنت تؤمن به وتعلنه من أفكار ومبادئ؟ 

 

ربما يكون الميعاد قد فات على تغيير ما جرى من قبل، لكنه بالتأكيد لن يفوت حين تأتيك حتماً فرصة مواصلة إبداعك من جديد، وحتى يحدث ذلك، وسيحدث لأنه من سُنّة الحياة وسِلو هذا البلد الذي "يُنسى فيه كل شيء بعد حين"، أتمنى أن تكون صادقاً مع نفسك فتذكرها أن اختيار الانتصار للاستبداد ومؤازرته لم يكن حتمياً كما كنت تروج، وأنك كنت تستطيع أن تحترم نفسك بالصمت إذا لم تكن قادراً على احترامها أكثر برفض تسليم عقلك لمن يفكر بالنيابة عنك، ومنح صوتك لمن يخرسه لكي لا ينطق أحد غيره، ربما كنت على الأقل لن تفقد قدرتك على التباهي أمام الأجيال الجديدة، بأعمال أحبوك من أجلها، كنت ترفض فيها الظلم والقهر، وتنحاز فيها للمواطن وحقوقه وأحلامه، ألم يكن ذلك في حد ذاته مكسباً كبيراً ومهماً لو لم تخرج إلا به من هذه الأيام اللعينة لكفاك، ألم يفعل هذا أساتذة لك وزملاء من جيلك ربما أدى صمت بعضهم إلى انزواء الأضواء عنه، وتقليل فرص عمله، لكنه كسب مقابل ذلك الاستمرار في احترام الناس له، ولذلك لا يغضبون منه حين يعيش في الطناش لكل ما يجري حوله من باطل، لأنه دخل إلى الطناش بمحض إرادته، وليس بعد أن تم "زَبله" وتجاهله والاستغناء عن خدماته، وإذا كنت الآن ترفع شعار "طنِّش تعِش تنتعش"، فلعلك تعلم أن انتعاش الطناش لا يتحقق إلا حين تبادر إليه، وليس بعد أن تُجبر عليه. 

معلهش، حصل خير. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.