عن فيلم "كفر ناحوم"... عفواً: جزء من النص مفقود!

عن فيلم "كفر ناحوم"... عفواً: جزء من النص مفقود!

06 ديسمبر 2018
+ الخط -
عيناي على الشاشة بانتظار أن يطل "زين" ليخبرنا قصته، كانت اللهفة هذه المرة أكبر مقارنة بأعمال نادين لبكي السابقة.. زين الذي أطلَّ ومعه تفاصيل هذا الجحيم بما فيه من فوضى وانتهاكات، سار بنا في زوايا أحياء هامشية منسيّة كما لو أن العالم قد اتفق على أن يدير ظهره لهذه القطعة من الأرض بمن عليها، كلّما سار خطوة تشعبت الحَكايا واتسعت بقعة الضوء لترصد قصص مَن همَّشتهم الحياة بكل الصيغ.

تأثرت، بكيت، تنهدت، وتمنيت لو أن الفيلم كان فيلماً عابراً نهمس لبعضنا بعضاً بعد انتهائه بأن: "هُوِّي فيلم وْ خَلَصْ.."، لكن الواقع الذي حضر كما هو، أو ربما بدرجة أقل مقارنة بواقع مزر لا يسير إلّا نحو الأسفل، لم يترك لهذه الأمنية الساذجة مجالاً.

في الدقائق الأخيرة من العرض تغير شيء ما، الفيلم الذي قَدَّم بكثافة مجموعة مركَّبة من القضايا عارضاً إياها بتفاصيلها ومحاولاً في كل تفصيل أن يبين ارتباط القصص بعضها ببعض، قد حوّل مساره في مشهد بدا كما لو أن "لبكي" طرحت المشاكل واقترحت حلاً جاء على لسان زين الذي قال في قاعة المحكمة: "بَدِّي أَهْلي ما عاد يْخَلْفوا".

سأوضح هنا أن ما أطرحه هو تساؤلات لم أتمكن من تجاهلها بعد هذا المشهد، وكلما اقتربت نهاية الفيلم زاد استغرابي وفضولي لفهم السبب الذي جعل الفيلم ينحرف عن هذا الطرح الواقعي ليعرض نهاية لا تشبهه مساره ولا الواقع، بل هي أقرب لأن تكون "هوليووديّة" حيث تُحَلُّ أكبر القضايا في ربع الساعة الأخير من العمل.


بعد عرض مشاكل اجتماعية ترتبط بالفقر وبفوضى تسود فيها شريعة الغاب بشكل حقيقي، إضافة إلى قضية زواج القاصرات ونظام الكفالة، كان من المستهجن أن يلخص الحل بنصيحة تقول: "لا تنجبوا المزيد من الأطفال".

وأفهم أن قدراً كبيراً من الوعي ينبغي أن يسبق قرار الإنجاب، وأنا هنا لا أعزز فكرة الإنجاب غير الواعي، لكن هل هذا دواء المشاكل التي عُرِضَت فعلاً؟ أو أن هذا الخيار كان الأسلم؟

غاب البعد القانوني عن الفيلم، ولم يكن كافياً أن نكون في قاعة المحكمة دون أية إشارة لغياب المحاسبة القانونية وغياب دور الدولة ومسؤوليتها اتجاه مواطنيها، وكانت ملامسة البعد السياسي خجولة جداً تُخْتَصَر بأن الأمن في الدولة سيحقق العدالة نهاية المطاف، وسيحسن التربيت على كتف الطفولة دون أن يوجه عنفه وبطشه إلا نحو المجرمين فعلاً.

وربما كان الاتكاء على عاطفة المشاهد أكبر من أن يوضح الفيلم أن يوناس وإن عاد لوالدته لكنها رُحِّلَتْ من لبنان، وزين وإن ودَّعَنا بابتسامة، إلا أنه سيكمل طفولته في سجن "رومية" كعقوبة على جريمة القتل التي ارتكبها.

حتى أن زين لم يهنأ ببطولته التي نافسه عليها الإعلام الذي قُدِّمَ على أنه فاعل حقيقي قادر على إحداث تغيير جذري في حياة الأفراد، وإن كان الأمر يشبه استحالات كبرى تشبه اتصال زين بإعلامي مشهور من داخل سجن رومية.

أكتب هذا النص في ساعة متأخرة من الليل لأني أجد صعوبة في أن أنام بعد أن غفا الأمن وأصحاب السلطة القانونية والسياسية والإعلامية بهناء دون أن نسألهم: ترى أين هو إحساسكم أمام مشاهد عمالة الأطفال مثلاً؟ وأين هو الإعلام من كل هؤلاء الأطفال؟ أليس من المجدي أن يبحث الإعلام البطل كما صُوِّرَ عن هؤلاء قبل أن يصل بهم الظرف إلى السجون؟

لم يكن احتضان راحيل لطفلها كافياً دون أن نسأل بأي حق تُرَحَّل؟ وبأي حق تُحْرَم من طفلها ليُباع كقطعة أثاث؟ لم يكن كافياً أن يبتسم زين لأنه وأخيراً سيحصل على هوية تعترف بوجوده من دون أن نسأل عن طفولته التي سيقضي ما تبقى منها في السجن.

يا نادين اعذري الفقراء لأن ملعقة من الذهب لم ترافق ولادتهم، واعلمي أنهم يعرفون كيف يبتسمون، وارحمي عجزهم من لوم يحمّلهم ما لا طاقة لهم به.

وربما علينا أن نفكر معاً: هل لو خُيِّرَ المرء سيختار البؤس مصيراً؟ هل لو توقف الفقراء عن الإنجاب ستُسَدُّ ثغرات العدالة الغائبة؟

تركْتُ لهفتي في الصالة وغادرْتُ وفي رأسي عبارة تقول: "جزءٌ من النص مفقود".
A07082AF-6B27-487B-837E-45651C776AC5
نور نزار فليحان

معلمة سورية مجازة من جامعة دمشق 2014. حاليا طالبة ماجستير في مجال العمل الاجتماعي وحقوق الإنسان في برلين - ألمانيا.

مدونات أخرى