الأم... عطاء لا ينضب

الأم... عطاء لا ينضب

06 ديسمبر 2018
+ الخط -
في صالة المنزل، كانت الساعة تشير إلى الثامنة مساءً، تدخل علينا ابنتي الكبرى، إشارات بالعين بين الجدة وحفيدتها، تتحول الإشارات أحياناً إلى همسات لا تسمعها سوى الاثنتين، لكن في أغلب الأحيان تكون إشارات صامتة، أحاول جاهداً فهم ما يدور، أو على الأقل فهم لغة عيني الحفيدة وهي تخاطب عيني الجدة، وكيف أن الاثنتين تقولان كلاماً كثيراً في ثوان معدودة.

لكن دون جدوى، لم أفهم شيئاً، كل ما أخرج به هو انطباع سطحي وشكلي هو تشابه عيون الحفيدة والجدة، وأن عينيهما البارقتين تشبهان عينيّ أيضاً، أبتسم وأسكت وأعاود مشاهدة فيلم كوميدي.

في كل مرة، تنظر الجدة لحفيدتها بعينيها لثوان معدودة، تفهم الحفيدة ما تريده الجدة، وعلى أثر النظرات المتبادلة يكون رد الفعل، إما تأجيل فعل شيء ما من قبل الطرفين لا أعرفه، وإما مغادرة الحفيدة المكان والذهاب مباشرة إلى غرفتها.

أيام تمر، ويتكرر المشهد، أحاول فهم ما يدور حولي من لغة العيون المتبادلة، لكن الفشل هو مصير المحاولة تلو الأخرى.

سألت نفسي: ماذا يحدث، هل الجدة تخاطب الحفيدة بلغة لم أفهمها، لماذا لا أفهم إشاراتهما رغم التشابه الشديد معهما في شكل العيون وملامح الجسد؟.. أسأل: كيف يتم التواصل المكتوم بين جدة يفوق عمرها الثمانين سنة وحفيدة لا تتعدى العاشرة من عمرها؟.. أعترف بفشلي في تفسير الإشارات المتبادلة بين الجدة وحفيدتها لأسابيع.


في أحد الأيام أصررت على أن أعرف سر ما تخبئه عيون الجدة والحفيدة، ما دفعني للإصرار على المعرفة في ذلك اليوم هو تكرار لغة العيون عدة مرات، وأنا جالس في وقت متأخر من يوم الخميس أشاهد إحدى المسرحيات الكوميدية المحببة لقلبي.

الحفيدة نظرت لجدتها، الجدة ردت بعينيها كالعادة على سؤال الحفيدة، سارعت الحفيدة بالانصراف إلى غرفتها. جريت نحو غرفة ابنتي، وسألتها بتلهف شديد: ماذا يحدث بالضبط؟ لا بد أن أفهم ما يحدث، هل تخفي عني شيئاً؟ هل جدتك تعبانة؟

في البداية، رفضت الابنة الكلام، التزمت الصمت الشديد، ومع إصراري الشديد، قالت لي: اسأل جدتي؟ أو اسأل ماما، لعلهما تخبرانك. ازداد قلقي، وازداد معه شوقي لأعرف الجواب.

أعدت طرح السؤال: ما الذي تخفينه عني أنتِ وأمي، فقالت: وعدت جدتي ألا أتكلم، وإذا تكلمت فستغضب مني، وأنا أحبها حباً شديداً، ولا أريد أن تغضب مني، أنت نبهت عليّ أنا وإخوتي، ألا نغضب جدتي أبداً، وأن نلبّي كل طلباتها مهما كانت. احترمت منطق الطفلة، واحترمت أكثر برّها بجدتها وحفظها للأسرار.

ذهبت إلى زوجتي حيث كانت تجلس في الصالة تشاهد التلفزيون، سألتها: ما الذي يحدث بالضبط بين أمي وابنتي؟ فقالت بسرعة وباستغراب وبلا تفكير: لا شيء، ماذا تقصد بسؤالك؟

سردت لها ما يحدث كل يوم من إشارات متبادلة بالعيون بين الاثنتين ولأيام طويلة، فقالت: جدة تداعب حفيدتها وترسل لها بسمات من قلبها تنقلها لغة العيون، وأنت تعرف أنهما متقاربتان لأنهما متشابهتان في الشكل.

لم أقتنع بالإجابة، وقبلتها على مضض، وبدا على وجهي عدم الاقتناع.. "شكلك غير مقتنع"، هكذا قالت زوجتي وهي تعود لمشاهدة التلفزيون.. أجّلت موعد البحث عن سؤالي لموعد لاحق.

في يوم جديد حدث ما حدث من تبادل النظرات التي بدأت أراقبها لكي أفهم، أصررت في ذلك اليوم على أن أعرف، فكرت في حيلة، قلت لنفسي: لماذا لا أذهب إلى ابنتي الصغرى ذات السبعة أعوام، وأسألها عما يحدث.

في براءة شديدة قصّت علي ابنتي الصغرى الحكاية قائلة: (جدتي مريضة، ذهبنا بها للطبيب عدة مرات وأنت في الشغل، أجرينا تحليلات أثبتت أنها مريضة بالسكر، وفي كل مرة كانت جدتي تنبه علينا جميعاً: "حذار بابا يعرف أي شيء"، "لا أحد يبلغ بابا بمرضي"، "كفاية عليه تعب الشغل"، "لا تشغلوه بتعبي"، هكذا كانت تطلب منا وبشكل يومي وبصيغ مختلفة دون أن تمل).

وسألتها عن الإشارات المتبادلة وتفسيرها، فقالت: كانت أختي تعرف موعد الدواء، فتأتي إلى جدتي لتذكّرها، فتقول لها جدتي بعينيها "أجّلي الموعد ساعة أو أكثر حتى ينام بابا، وفي الصباح أجّلي الدواء حتى يذهب بابا للعمل".

وتكمل ابنتي الصغرى قائلة: "جدتي مريضة منذ شهور، وذهبنا بها للأطباء عدة مرات، وكان الاتفاق بيننا نحن الأربعة، جدتي وماما وأختي وأنا أن نخفي عنك الأمر حتى لا تحزن، لدرجة أن جدتي كانت تؤجل موعد تناول الدواء والحقن حتى تذهب للعمل، أو تنام حتى لا تعرف أي شيء".

أسرعت إلى الصالة لأقبّل يد أمي، وأدعو الله أن يشفيها ويطيل في عمرها، ثم لغرفة ابنتي لأشكرها على أنها كانت محل ثقة جدتها.
مصطفى عبد السلام
مصطفى عبد السلام
صحافي مصري، مسؤول قسم الاقتصاد في موقع وصحيفة "العربي الجديد".