مقالب للذكرى

مقالب للذكرى

05 ديسمبر 2018
+ الخط -
حكيتُ لحضراتكم ضمن هذه السلسلة مجموعة من الحكايات التي كانت تشهدها مدينة إدلب الزراعية الصغيرة في عصر ما قبل التلفزيون، وأشرت إلى أن مضافة "الحاج زاهد أفندي" استأثرت بالروّاد خفيفي الظل، الذين يمتلكون استعداداً تامّاً للجري وراء النكتة والضحكة إلى آخر الأرض.

ذات يوم؛ حضر إلى المضافة مجموعة من الشبان الذين يعملون في دكاكين آبائهم الواقعة على امتداد سوق الخانات، وصولاً إلى الساحة الشرقية التي تعرف كذلك باسم "ساحة الخضرة"..

رحب "الحاج زاهد أفندي" بهؤلاء الضيوف كما هو معتاد، وقدم لهم واجبات الضيافة على نحو مبالغ فيه، لاعتقاده بأنهم ربما جاؤوا إلى هنا لينقلوا صورة سلبية عن مضافته إلى أصحاب المضافات الأخرى، ولا سيما بعد الحملة الإعلامية التي تعرض لها قبل مدة من الزمان بسبب إيثاره أن يكون روّادُه من ذوي الفكاهة والمرح..

بعد ذلك قال مخاطباً الجميع:
- بصراحة يا شباب، نحن أهل إدلب أناس كسالى، وما في عندنا أي رغبة في تغيير أحوالنا. كل واحد منا يخلف شوية أولاد، وينتظر حتى يكبروا ووقتها يأخذهم إلى دكانه ويعلمه صنعته. يعني، الفلاح بيخلي أولاده يصيروا فلاحين، والفوال بيطلعوا أولادُه فوالين، وبياع السحلب بيخلف مجموعة من بياعين السحلب، وعلى هيك ومتله..


قال أبو إبراهيم: غريبة منك يا حاج زاهد. قاعد عمّ تنتقد غيرك وأنت مزارع، وخليت أولادك كلهم يطلعوا مزارعين متلك.

قال الحاج زاهد: أنا أنتقد حالي قبل الكل. وأنا كرمال هالشباب الأكارم راح أزيدك من القصيد بيتين، وأحكي لك أشو صار معي.. يا سيدي، مرة من المرات، فكرت أني أبيع كل الأراضي اللي عندي وأفتح معمل نسيج، متل معمل الغَزَّال، ولكني جبنت، وخفت من المغامرة، وبقيت على حالي. على كل حال هادا ما هو حديثنا.

قال أبو النور: هات لنشوف، أيش قصدك من ورا هاي المقدمات؟

قال الحاج زاهد: قصدي إذا مرت خمسين سنة، راح تلاقي هدول الشباب اللي بيشتغلوا في الدكاكين مع آباءهم، صاروا هُمْ أصحاب الدكاكين، وبتلاقي صورة الأب معلقة في الدكان وحاطين عليها خيط أسود وكاتبين تحتها الحاج فلان رحمه الله.. وهيك بتلاقي جيل يرث جيل وبتبقى الأيام دايرة وماشية، من دون يصير أي شي جديد.

قال أحد الشبان الضيوف:
- عمي الحاج زاهد، كلامك صحيح. بس أشو هي الفكرة اللي حابب توصلها إلنا؟

قال الحاج زاهد: الفكرة أنه لازم الواحد يعمل شغلة يخربط فيها نظام الحياة، وهيك بيحقق هدفين، وبيضرب عصفورين بحجر.

قال الشاب: شغلة؟ متل أيش؟ وأيش الهدفين اللي راح يتحققوا؟

قال الحاج زاهد: لازم تكون الشغلة حلوة، وما فيها أذى لأحد، وبتضحّك. يعني لما بتعملها بتضحك أنت، وبيضحكوا اللي حواليك.. وهاي الشغلة بتبقى ذكرى، وحكاية بيحكوها الناس لأولادهم.

قال أبو النور: والله يا عمي الحاج زاهد فكرتك ممتازة، يا ترى في بذهنك شغلة محددة؟

قال: لا والله. بس الشباب إذا فكروا بالموضوع، أكيد بتطلع معهم نهفات ومقالب ظريفة.

قال أحد الشباب: معك حق عمي الحاج. وأنا هلق خطرت لي فكرة جهنمية. أكيد راح نساويها، وراح نضحك كتير.. انتظرونا يومين ومنجي لهون ومنحكي لكم عليها.

(للحديث صلة)

دلالات

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...