زيارة تحضيرية ليوم القيامة (1 - 2)

زيارة تحضيرية ليوم القيامة (1 - 2)

04 ديسمبر 2018
+ الخط -
هل حقاً سنُبعث عراة حفاة في يوم القيامة؟ وكيف ولماذا؟
لم تجد أم المؤمنين السيدة عائشة حرجاً في أن تستغرب تلك الفكرة وتستنكر إمكانية حدوثها، كما ورد في أحاديث نبوية بروايات متعددة من بينها ما أشار إليه الإمام الطبري في تفسيره عن أنس، عن أن السيدة عائشة "سألت الرسول صلى الله عليه وسلم قائلة: يا رسول الله بأبي أنت وأمي، إني سألتك عن حديث أخبرني أنت به، قال: إن كان عندي منه علم، قالت: يا نبي الله، كيف يُحشَر الرجال؟ قال: حفاةً عراةً، ثم انتظرت ساعةً فقالت: يا نبي الله كيف يُحشر النساء؟ قال: كذلك حفاة عراة، قالت: واسوءتاه من يوم القيامة، قال: وعن ذلك تسأليني؟ إنه قد نزلت علي آية لا يضرك كان عليك ثياب أم لا، قالت: أي آية هي يا نبي الله؟ قال: لكل امرئ منهم يومئذٍ شأن يغنيه"، وستجد في تفسير الطبري روايات أخرى تنسب ذلك السؤال إلى إحدى زوجات الرسول ولكن دون تسميتها، حيث روي أنها قالت للرسول عليه الصلاة والسلام: "يا رسول الله أينظر بعضنا إلى بعض إلى عورته؟"، فقال: "لكل امرئ يومئذ ما يشغله عن النظر إلى عورة أخيه"..

ثمة تساؤل آخر يخص تفصيلة أخرى من تفاصيل يوم القيامة، طرحه حواريّ الرسول الزبير بن العوام رضي الله عنه، الذي تساءل عندما نزلت آية (ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون)، فقال صلى الله عليه وسلم: نعم، فقال الزبير للرسول (ص): "أتكرَّر علينا الخصومة؟"، فقال له: نعم، فقال الزبير: إن الأمر إذن لشديد. وفي موضع آخر يروي ابن كثير في تفسيره أن الزبير بن العوام اندهش عندما سمع آية (ثم لتُسألن يومئذٍ عن النعيم)، وقال: أي يا رسول الله، أي نعيم نُسأل عنه، وإنما نعيمنا الأسودان التمر والماء؟ فلم ينكر عليه الرسول صلى الله عليه وسلم سؤاله بل قال له: "أما إن ذلك سيكون"، وستجد في الطبري وغيره من التفاسير روايات متعددة تروي أن أحد الصحابة سأل الرسول قائلاً: يا رسول الله، كيف يُحشر الكافر على وجهه؟ فقال: "الذي أمشاه على رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه".

اللافت للانتباه أنك لن تجد تساؤلات مستنكرة أو مندهشة من روايات وأحاديث أخرى منسوبة إلى النبي عليه الصلاة والسلام، تقدم تفاصيل أكثر غرابة وإفزاعاً ليوم القيامة، لكنك ستجد أن عدداً من كبار العلماء قام بتضعيف أو تكذيب تلك الروايات والأحاديث التي تم وضعها من قبل رواة ووعاظ، ساءهم ما حدث في عصور الترف التي زادت فيها مظاهر التحلل من قيود النصوص الدينية، فتخيلوا أنه من الممكن مقاومة ذلك بوضع أحاديث ترهب المسلمين من العذاب والنار ويوم القيامة، ولذلك احتاج كتاب كبير مثل (الترغيب والترهيب) للحافظ المنذري إلى أن يظهر له مختصر ينقيه من مئات الأحاديث المكذوبة والضعيفة، لكن ذلك لم يقم بالحد من ظاهرة استخدام الروايات المليئة بالمبالغات في الحديث عن يوم القيامة وعذابه، لتتواصل تلك الظاهرة منذ عهد الرواة والقصاصين إلى عهد الكتب الشعبية التي كان يطلق عليها (الكتب الصفراء) نسبة إلى ورق طباعتها الأصفر، قبل أن يكتسب ذلك المصطلح سمعة سيئة مع الوقت، ومروراً بعهد شرائط الكاسيت والسيديهات التي تحتوي على قصص العذاب والوعيد، والتي تعتمد على كثير من الكتب التراثية مثل التذكرة في أحوال الآخرة، وبعض الكتب الحديثة التي كان من أشهرها في الثمانينيات والتسعينيات مثلاً كتاب ذائع الانتشار أصدرته دار (الاعتصام) إخوانية الهوى من تأليف الشيخ محمد محمود الصواف حمل عنوان (القيامة رأي العين)، كان له غلاف شهير رسمه فنان أخبار اليوم سيد عبد الفتاح، يتخيل فيه مشاهد الفزع للمحشورين في يوم القيامة، ووصولاً إلى فيديوهات اليوتيوب ومقاطع الساوند كلاود وما يستجد من وسائل تنشر روايات العذاب والوعيد.


من أغرب تلك الروايات وأكثرها شططاً، رواية يناقشها الشيخ محمد الغزالي في كتابه (السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث)، وهي رواية وردت في تفسير قوله تعالى: (يوم يُكشف عن ساقٍ ويُدعون إلى السجود فلا يستطيعون)، حيث رأى بعض المفسرين أن الساق هي العلامة التي يعرف بها المؤمنون ربهم عز وجل في امتحان عصيب يجري لهم يوم القيامة، ويتلخص ذلك الامتحان في أنه بعد إلقاء المشركين في العذاب ".. حتى إذا لم يبق إلا من كان يعبد الله من برٍّ وفاجر، أتاهم رب العالمين في أدنى صورة من التي رأوه فيها، فقال: ماذا تنتظرون؟ تتبع كل أمة ما كانت تعبد ... فيقول أنا ربكم، فيقولون: نعوذ بالله منك، لا نشرك بالله شيئاً مرتين أو ثلاثاً، حتى أن بعضهم ليكاد أن ينقلب، فيقول: هل بينكم وبينه آية فتعرفونه بها؟ فيقولون: نعم، فيكشف عن ساقٍ، فلا يبقى من كان يسجد لله من تلقاء نفسه، إلا أذِن الله له بالسجود، ولا يبقى من كان يسجد اتقاء ورياء، إلا جعل الله ظهره طبقة واحدة، كلما أراد أن يسجد خر على قفاه، ثم يرفعون رؤوسهم وقد تحول في صورته التي رأوه فيها أول مرة، فقال: "أنا ربكم"، فيقولون: أنت ربنا".

يرى الشيخ الغزالي في كتابه الذي جلب له فور صدوره هجوماً وصل إلى حد التكفير، أن هذه الرواية لها "سياق غامض مضطرب ومبهم وجمهور العلماء يرفضه"، ومع ذلك فقد حاول واحد من كبار العلماء مثل القاضي عياض تبريرها بالقول إن الذي جاء المؤمنين في صورة أنكروها أول الأمر هو أحد الملائكة، وكان ذلك اختباراً من الله لهم، وهو آخر اختبار يلقاه المؤمنون في يوم القيامة، إلا أن الشيخ الغزالي يرى أن "محاولة القاضي عياض لا تقدم ولا تؤخر، فليست الآخرة دار اختبار، فالاختبار تم في الدنيا، كما جاء في البخاري: اليوم عمل ولا جزاء، وغداً جزاء بلا عمل، ثم لماذا يقوم أحد الملائكة بهذه التمثيلية المزعجة؟ وبإذن من؟ وما جدواها؟ وإذا تركنا كلام عياض لنتأمل في الوقائع نفسها، وجدنا ما يستحيل عقلاً ونقلاً أن يُقبل. فإن الله لا يجيء في صورة تنقص عظمته وجلاله، ثم يبدو في صورة حقيقية بعد ذلك، مهما قلنا إن المقصود بالصورة هو الصفة. إن الحديث كله معلول وإلصاقه بالآية خطأ، وبعض المرضى بالتجسيم هو الذي يشيع هذه المرويات، والمسلم الحق ليستحي أن ينسب إلى رسوله هذه الأخبار".

ولكي نؤكد على السياق الذي تم فيه وضع واختلاق مثل هذه الروايات والأحاديث الهادفة إلى إصلاح المجتمع وزجر أفراده عن الفساد والترف، لدينا واقعة شديدة الدلالة تروي أن الإمام أحمد بن حنبل وصاحبه يحيى بن معين ذهبا للصلاة ذات يوم في مسجد فسمعا واعظاً يقول: سمعت من أحمد بن حنبل ويحيى بن معين عن عبد الرازق عن عمر عن قتادة عن أنس بن مالك عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه قال: "من قال لا إله إلا الله خلق الله له يوم القيامة من كل كلمة قالها طائراً منقاره من ذهب وجناحاه من ياقوت"، فذُهل الرجلان وذهب يحيى إلى الواعظ ليسأله عن الذي سمع الحديث منه، فقال الواعظ: من ابن حنبل وابن معين، فقال له يحيى: فأنا يحيى بن معين وهذا الجالس هناك ابن حنبل، وما حدثناك بهذا قط، فرد الواعظ عليهما رداً لا يمكن أن يخطر لك على بال مهما كانت سرعة بديهتك، حيث قال لهما بكل ثقة: "أفتحسبان أنكما وحدكما من كان اسماكما أحمد بن حنبل ويحيى بن معين".


مهزلة مشابهة حدثت لأحد أبرز أئمة التابعين وهو الإمام الشعبي الذي رأى الناس مجتمعين إلى راوي حديث يكتبون عنه حديثاً طويلاً ملخصه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال إنه سيُنفخ يوم القيامة في بوقين، إن نُفِخ في الأول خر الناس جثثاً هامدة، وإن نُفِخ في الثاني دبت الحياة فيهم من جديد، فلما لامه الشعبي على ما يقوله، صاح به الراوي وهاجمه لأنه تجاسر وأنكر حديثاً صحيحاً قد سُمع من رسول الله، ثم خلع الراوي نعله وأشار إلى الناس أن يفعلوا مثله، وانهالوا على الشعبي ضرباً بالأحذية، حتى جعلوه يقسم أن الله قد خصص ثلاثين بوقاً ليوم الحشر، ولم يجد الشعبي مشكلة في فعل ذلك، فقد كان معروفاً بروحه الساخرة، التي جعلت الكثير من مؤلفي كتب الطرائف والأمالي والنوادر ينسبون له روايات وأخباراً كثيرة لها علاقة بالفتاوى الغريبة والآراء الشاذة التي يسمعها من بعض من يظنون أنهم يتقربون إلى الله بآرائهم المتشددة. ستجد أن المفسر الشهير الإمام الطبري تعرض لموقف مشابه لما حدث للشعبي، حين عارض قول أحد الرواة أن الله تعالى سيفسح مكاناً بجواره يوم القيامة على العرش لرسول الله عليه الصلاة والسلام ـ وهي حكاية لا تزال متداولة حتى الآن في المرويات الشعبية ـ فهتف الطبري مستنكراً: "سبحان من ليس له أنيس ولا له في عرشه جليس"، فغضب منه الناس لدرجة أنهم رجموا داره بالحجارة.

في كتابه الجميل (دليل المسلم الحزين) ينقل الأستاذ حسين أحمد أمين عن ابن قتيبة صاحب (عيون الأخبار) تعليقه على هذه الأحاديث المكذوبة عن يوم القيامة في كتابه (تأويل مختلف الحديث)، حيث اعتبر أن "رواية هؤلاء للسخافات تبعث على الإسلام الطاعنين وتضحك منه الملحدين وتزهد من الدخول فيه المرتادين وتزيد فيه شكوك المرتابين"، ومع ذلك فإن تعامل كبار العلماء والمفسرين مع تفاصيل ووقائع يوم القيامة لم يتوقف عند هذه المرويات التي أنتجها "الخيال الخلاق" طبقاً لتعبير الدكتور محمد أركون، بل امتد إلى كافة تفاصيل يوم القيامة التي وردت في القرآن الكريم والأحاديث النبوية، لتظهر خلافات كبيرة بين هؤلاء المفسرين والفقهاء عن كافة تفاصيل يوم القيامة، بمنتهى الهدوء أحياناً وبمنتهى الشطط أحياناً أخرى.

ستجد هذا الخلاف يثار حول مسائل صغيرة مثل زمن الحساب في يوم القيامة، فبينما التزم البعض بالتفسير الحرفي لآية "وإن يوماً عند ربك كألف سنة مما تعدون"، ليقول إن الحساب سيستغرق ألف سنة، قال القرطبي إن القيامة سميت بالساعة لأن الزمن فيها يمر بسرعة السحاب. كما ستجد الخلاف يثار حول مسائل كبيرة مثل طبيعة الحساب نفسه، حيث قام البعض الذي قام بتطبيق الفهم الحرفي للقرآن بإنكار فكرة الحساب من أساسها اعتماداً على أية "ولا يُسأل عن ذنوبهم المجرمون"، وهو ما رد عليه الإمام القرطبي قائلاً: "الصحيح أنهم لا يُسألون إذا استقروا في العذاب، لأن الآخرة مواطن ـ أي مراحل ـ موطن يُسألون فيه الحساب، وموطن لا يُسألون فيه"، وفي الموضوع نفسه سنجد هناك من يستنكر حساب الأنبياء يوم القيامة والذي ورد في قوله تعالى (فلنسألن الذين أُرسل إليهم ولنسألن المرسلين)، وهو ما رد عليه القرطبي قائلاً إن "سؤال الكفار سؤال تقرير وتوبيخ وإفصاح وسؤال الرسل سؤال استشهاد بهم وإفصاح".

مسألة أخرى اشتد فيها الخلاف هي مسألة الشفاعة، حيث رفض سائر المعتزلة الأحاديث التي أثبتت للرسول صلى الله عليه وسلم حق الشفاعة في يوم القيامة، والتي وردت في عدد كبير من الأحاديث الصحيحة منها ما رواه البخاري عن أبي هريرة عن الرسول صلى الله عليه وسلم أنه قال: "أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصاً من قلبه"، معتبرين أن مثل هذه الأحاديث تعارض القرآن الكريم الذي نفى شفاعة الشافعين في يوم القيامة، ورد عليهم معارضوهم قائلين إن القرآن لم ينف إلا الشفاعة الشركية التي كان المشركون يزعمونها لآلهتهم، بدليل أن القرآن قال "من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه"، واختص الشفاعة لأهل التوحيد في قوله "ولا يشفعون إلا لمن ارتضى".

نكمل غدا بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.