رواد المضافة يصنعون المقالب

رواد المضافة يصنعون المقالب

03 ديسمبر 2018
+ الخط -
ما زلنا نتحدث عن عصر ما قبل التلفزيون..
عَلَّقَ "الحاج زاهد أفندي" على باب مضافته لافتةً رحب فيها بالأذكياء، والمرحين، وأصحاب النكتة البارعة، وصُنَّاع المقالب في مضافته، وطلب من الإخوة الجادين المنهمكين بقضايا الحياة اليومية والهموم والمشاكل التي تبعث على الكآبة أن يَبقوا في بيوتهم، بصحبة نسوانهم وأولادهم، فهذا، برأيه، أحسن لهم ولغيرهم.

على إثر تعليق اللافتة سرى في البلد قال وقيل ولغط، وشَنَّ عليه أصحاب المضافات الأخرى حرباً كلامية اتهموه خلالها بالبخل، والتكبر على أبناء البلد، والميوعة التي يدل عليها أنه يريد أن يحول الحياة في محيطه الخاص إلى ضحك ومسخرة وسهسكة وحكي فارغ..

استمرت هذه الزوبعة بضعة أيام ثم هدأت، وعادت الأمور إلى نصابها بالنسبة للجميع، وأما الحاج زاهد أفندي فقد فاز بمراده، إذ أصبح زوار مضافته كلهم من الرجال خفيفي الظل الذين يتمازحون ويتضاحكون، حتى صار صوت الضحك المنبعث من مضافته يُسمع، بعد العشاء من كل يوم، من شرقي البلد.


في يوم من الأيام غاب "أبو إبراهيم"، وهو من أبرز الشخصيات الهزلية في المضافة، عن السهرة، دون اعتذار أو إخبار، وهذا ما أثار استغراب الرواد الآخرين، وجعلهم يخصصون السهرة للبحث في هذه القضية الشائكة.

قال أبو النور: هذا أخونا أبو إبراهيم، بحسب معلوماتي، صاير معه تقصير في موضوع الواجبات الزوجية، ولكي يتخلص من الإحراج يفضل أن يبقى بعيداً عن أم العيال، لذلك تراه يدور في أزقة البلد طيلة النهار مثل الكلب المناوب، إلى أن يحين موعد العَشاء، فيذهب إلى البيت، ويدخل (مُتَلَقِّسَاً) على رؤوس أصابع قدميه إلى المطبخ، ويأخذ كسرة خبز ويضع فوقها ما هو متوفر في النملية من زيت ولبنة أو دبيركة، ويخرج (مُتَلَقِّسَاً) بنفس الطريقة، ويأتي إلى هنا، إلى مضافة عمي زاهد، وما إن يصبح بيننا حتى تراه حراً طليقاً فرحاً مشقرقاً ينكت ويضحك، ولكن قلبه ينقبض، قبل أن تنفض سهرتنا، ليقينه أن رجعته إلى البيت واجتماعه بأم العيال أصبح أمراً لا مفر منه!

كان الحاج زاهد يفهم- بالضبط- ما يرمي إليه أبو النور. ومع ذلك قال متصنعاً البراءة:
- يا شباب كلام أخونا أبو النور يمكن إنُّهْ يكون صحيح، ولكنك، يا أخي أبو النور، عم تحكي ناقض ومنقوض.. يعني، بصراحة، عَمّ تعجق بالحكي.

قال أبو النور: ندمك؟ (كلمة تركية تعني: ما القصد؟).
قال الحاج: لو كان أبو إبراهيم متلما قلت أنت يبحث عن مهرب ليش الليلة ما أجا لهون؟
قال أبو النور: بتقديري أنه الليلة عَلْقان في براثن أختنا أم إبراهيم، ومحاصرته مثل حصار جناق قلعة.. يعني ما في فكة.. وعلى كل حال الله يعينه.
قال أبو رامي: إذا سمحتم لي بتدخل صغير. أنا اليوم رأيت "أبو إبراهيم" في الساحة، اشترى كيلو قشطة وأربع كيلو قطايف من دكان الحاج محمد شعبان..
قال الحاج زاهد: وقف عندك. لا تكمل. أنا فهمت كل اللعبة.
ووقف ومشى نحو الباب وقال: تعالوا معي.
قال أحد الحاضرين: مين يجي معك؟
قال: الكل.

في الطريق إلى منزل أبي إبراهيم شرح لهم الحاج زاهد خطته التي تتلخص في أن يجري تقسيم "البيدر" بينهم وبين أبي إبراهيم نصفين. إذ لا شك أن حلوى القطايف ستكون حلاوة الصلح بينه وبين زوجته، وفي هذه الحالة نحن نطرق عليه الباب، وندخل مثل القضاء المستعجل، ونطلب منه من دون لف ودوران أن يطعمنا قطايف.. يعني باختصار: نحن نأكل القطايف وهو يقوم بواجبه تجاه أختنا أم إبراهيم!
هذا ما كان.

(وللحديث بقية)

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...