المعلم الجلاد.. سجون مدرسية لتعليم الهوامش

المعلم الجلاد.. سجون مدرسية لتعليم الهوامش

28 ديسمبر 2018
+ الخط -
عام 2002 انهال عليّ مدير ثانوية البعث بالضرب بخرطوم مياه بلاستيكي "صونده" حتى تكسر على يدي، جلب خرطوما آخر ليكمل العقوبة على زملائي الطلاب الخمسة الذين غطى التراب وجوههم، لكي لا نعيد ما اقترفناه من ذنب بحق النظام العام للمدرسة.

 جريمتنا أننا قمنا بتنظيف الصف الدراسي قبل الوقت المحدد بنصف ساعة، إذ كان جدول التنظيف يبدأ مع انتهاء الدرس الأخير، لكننا قمنا بالمهمة بعد الدرس ما قبل الأخير فمدرس المادّة كان مجازا والطلاب قد خرجوا من المدرسة. 

نحن كطلاب لم نعترض على تنظيف المدرسة بأيدينا، (رغم أن المدرسة للتعليم لا التنظيف)، وفق نظام السخرة هذا، يتم تقسيم الطلاب إلى مجموعات يأتي دور مجموعتك بيوم محدد من الأسبوع، وسبب القيام بهذا الإجراء هو عدم وجود موظف نظافة، كما أن الصف الدراسي مليء بالأتربة وبقايا الورق، وأشياء أخرى لازدحام الطلاب الشديد، (يتراوح من 35 إلى 55 طالبا مع نقص في عدد الأساتذة).

وعام 2003، بعد الغزو الأميركي للعراق، وفي ذات المدرسة الثانوية التي تغيّر اسمها بما يتلاءم مع فكر النظام السياسي الجديد، وبينما كنت أجلس في الصف قرب النافذة المطلة على الشارع العام، جاء رتل طويل من الدبابات وناقلات الجند الأميركية، أثارت الضجة جميع الطلبة، التفتنا والمدرس معنا نحو تلك الكتل الحديدية الضخمة التي تسير على الشارع، كان المدرس واقفاً بالقرب مني، ودون سابق إنذار صفعني بيده على خدي بأقصى ما يملك من قوة، كان سلوكه مفاجئاً ومخيفاً، قال بعدها بصوت عالٍ: انتبه للدرس، وفي الأثناء أخذ الطلاب لقطة سريعة لوجهي من أجل تأكيد رؤيته لإهانتي ثم انتبهوا لما طلب منهم، بينما أنا لم أنتبه إطلاقاً، قلت في نفسي لماذا يحق لهذا المدرس أن يضربني بكل هذه القوة وأنا لم أفعل إلا ما فعله زملائي وما فعله هو أيضاً. 

تعليم الخوف

تساءلت وفي نفسي حرقة كبيرة استعدت فيها كل أيام الضرب، التي تعرضت لها من أساتذتي وخاصة تلك "الصوندة"، التي تكسرت على يدي قبل سنة تماماً من الآن؟ فما الذي يريده مني المدرس؟ وهل نحن نأتي للمدرسة لنُعَبأ بالإهانات والخوف؟ هل هذه هي المدرسة؟ أليس من المفترض أن يقوم النظام الديمقراطي الجديد بتغيير الأساليب الخاطئة ومنها ضرب الطلبة؟

ربما كانت تساؤلاتي مستعجلة، فالنظام السياسي الجديد لم ينشأ بعد، والتغيير بحاجة إلى سنوات من إعادة بناء المدارس والإنسان أيضاً، إلا أننا اليوم على أعتاب عام 2019 لا يزال هناك الكثير جداً ممن يدافعون عن أسلوب المدرس الذي كسر صنبور المياه على يدي، وذاك الآخر الذي صفعني بوجهي، لماذا؟ لأن الطالب لا يمكن تأديبه إلا بهذه الطريقة.

 قال هذا الكلام مدرس يستنكر قرار وزارة التربية القاضي بمنع الضرب في المدارس، وهو يتفق مع كثير من طبقات المجتمع العراقي، وخاصة الذين تزيد أعمارهم عن الثلاين عاماً، هؤلاء يتفاخرون بأنهم كانوا يهربون خوفاً عندما يرون معلمهم بالشارع أو في أي مكان عام، لأنه خلق في نفوسهم الرعب من شدة قسوته في المدرسة. 

مدارس أم سجون؟

 في حوار لي مع أحد المعلمين حول جدوى ضرب الطلبة، قال إنهم مجانين، ولا يمكن السيطرة عليهم إلا بالتخويف، يقول هذا المعلم إن بعض الطلاب يتطاولون على أساتذتهم، فقاطعته معترضاً، بأن المدرسة لا تحتوي على أبسط الخدمات الأساسية، ولا تخضع للمعايير العالمية، فالصف الدراسي النموذجي يتراوح عدد الطلاب فيه من 15 إلى 25، ومدرستكم لا يوجد فيها صف يقل عدد طلابه عن 50 طالباً، فمجرد تنفس أحد الطلبة وتحريك الآخر لقدمه، وبينما يقوم ثالث بفتح الدفتر تنتشر الفوضى. 

قلت للمعلم عليك بتأجيل فكرة ضرب الطالب، قبل أن توسع أنت ونقابة المعلمين من نطاق التفكير في المشكلة، فهناك أطراف أكثر وأكبر من الطالب، هناك وزارة التربية المقصّرة عن أداء واجبها بتوظيف معلمين ومدرسين جدد، وهناك الحكومة المقصرة ببناء المدارس، وهناك أيضاً الأستاذ نفسه الذي لا يفرق بين طالب مراهق جامح، ويطلب منه تصرفات ربما يعجز عنها حتى الكبار. 

فالطالب المشاكس يمكن السيطرة عليه لو توفر له صف دراسي نموذجي، ولو أن وزارة التربية منعت تكديس التلاميذ بطريقة عشوائية لما احتجت أنت إلى إمساك العصا بيدك، فاذهب إلى نقابة المعلمين واطلب منهم تنفيذ إضراب عام في جميع أنحاء العراق، للمطالبة بمدارس نموذجية وحينها لا تحتاجون إلى تحويل تلك البنايات المتهالكة إلى ما يشبه سجن "أبو غريب". 

تعلّم أيها المعلم من أصحاب السترات الصفراء في فرنسا، اكسر عصاك، وتخلَّ عن دور الجلّاد، تحول إلى ذلك القائد العظيم الحريص على توفير الوسائل التعليمية الناجحة لطلابه، اعترض أيها المعلم على الحكومة فهي المذنبة لا الطالب المسكين، إنه بريء، أقسم لك ببراءة طفولتي في عام 2002 حين تكسرت على يدي "صوندة" مدير ثانوية البعث. 

A6882FCE-1524-46E4-91D9-4FB5902F3771
مسلم عباس

صحافي وأكاديمي عراقي وطالب دراسات عليا في كلية الإعلام جامعة بغداد.