جزء من حياة آخرين وعلى أهون سبب!

جزء من حياة آخرين وعلى أهون سبب!

27 ديسمبر 2018
+ الخط -
جزء من حياة آخرين 

لا يذهب الناس إلى فروع (ستاربكس) بحثاً عن البهجة، يذهبون إليها لأنها موجودة في كل مكان، ومع ذلك كنت إذا مررت بذلك الفرع القريب من (يونيون سكوير)، لا أتردد في الدخول إليه، حتى لو لم أكن بحاجة ماسة إلى القهوة. شيء ما في ذلك المكان كان يجعله مختلفاً عن غيره من الفروع المتماثلة المعلبة، أظنه تلك المساحة الواسعة التي تجدها في مدخل الفرع، قبل أن تنزل الدرج إلى الأسفل ناحية "النَصبة" كما أحب أن أسميها تيمناً بالقهاوي التي على حق ربنا، وإشارة إلى الأسعار المبالغ فيها لقهوة مغالى في الاحتفاء بها. كانت تلك المساحة الواسعة التي لم تفلح الترابيزة الضخمة في تضييقها، تعطي إحساساً بالانفصال المتميز عن بقية المكان، ولذلك كانت تجتذب على الدوام "كاركترات" متجددة من الذين يقاومون إصرار الحياة على الفتك بهم، أو هكذا يبدون لك من بعيد.


حين دخلت بالأمس، لم يخذلني المكان، كنت مجهداً من المشي الطويل، كان قد بقي على إغلاق المكان نصف ساعة، لكنه لم يكن هادئاً وحافلاً بالمرهقين، بل كان شبه خالٍ إلا من قليلين تحلقوا حول سيدتين كانا على وشك إنهاء مباراة شطرنج، فهمت من التعليقات المتحمسة أنها كانت حامية الوطيس، أخذت كوباية الشاي وجلست إلى الترابيزة متابعاً، أعطاني المكان بصخبه وانبعاثاته اللطيفة الخفية، طاقة كنت أحتاجها لمواصلة مشوار العودة، اكتشفت أن الرجل السبعيني الجالس إلى جواري، نسخة طبق الأصل من عبد الوارث عسر، لم يكن فقط يشبهه في الشكل، بل في الحضور والدور، هكذا أدركت حين كانت السيدتان المتنافستان، تنظران إليه بعد كل لعبة، كأنهما يطلبان تعليقه أو ربما رضاه، كان يكتفي بهز رأسه أحياناً، أو يغمغم بما لا أسمعه. 

 بعد ثوان اكتشفت أن إحدى السيدتين تشبه إلى حد كبير أختي الكبرى، كانت أقصر منها وأضأل وأكثر وقاراً، لكن وجهها كان قريب الشبه منها، شعرها أيضاً كان يشبه شعر أختي، حتى ضحكتها الغريبة تشبهها، كنت حريصاً على ألا أُضبط ملتبساً بالبحلقة، ولذلك أخذت أوزع نظراتي بين شبيهة أختي ومنافستها السوداء المرحة عالية الصوت ورقعة الشطرنج والأستاذ عبد الوارث عسر، تملكني شعور بالحزن لأن المكان سيغلق بعد قليل، وسرحت قليلاً في تذكر الكاركترات التي شاهدتها فيه من قبل، فلم أحضر لحظة نهاية الدور بانتصار شبيهة أختي، التي أفقدتها فرحة الانتصار وقارها، فأخذت تهلل وتقفز في مكانها بطفولية، ثم منحت الأستاذ عبد الوارث قبلة وحضناً، ولكي لا تغضب منها غريمتها، ذكرتها بالمرات التي سبق لها أن انتصرت عليها، والسوداء المرحة لم تخف ضيقها ولم تخجل من انعدام روحها الرياضية، وهي تسب وتلعن الجو المتقلب، الذي جعلها تنسى ارتداء قفازات في يديها، فتفقد تركيزها من البرد. 

قررت المنتصرة أخذ صورة تذكارية خاصة، توثق حالة رقعة الشطرنج لحظة وقوع انتصارها التاريخي، كان في ذهنها على ما يبدو تخيل معين للصورة، ولذلك لم تطلب من أحد التقاط الصورة، بل وضعت موبايلها على حاجز خشبي يواجه الترابيزة، وطلبت من غريمتها أن تقف وتميل بجسمها على رقعة الشطرنج، وترفع ذراعها إلى الأعلى، في حركة تشبه حركات راقصات الباليه، ولكي تشرح تصورها أكثر، قامت بأداء الحركة من جانبها من الترابيزة، حين وقفت السوداء متجاوبة مع الفكرة، بدا أن هناك فارقاً بينهما في الطول أيضاً وليس في الحجم فقط، ولذلك جاءت نتيجة التكوين النهائي للصورة المرتقبة أكثر طرافة، أخذت شبيهة أختي توجه غريمتها بحماس، وتطلب منها ثني جسدها ومد ذراعها بإخلاص، فتشكو لها السوداء المرحة من ألم فرد جسمها فجأة بعد طول قعود، بينما ظل الأستاذ عبد الوارث جالساً في مكانه بوقار، دون أن يسأل عما إذا كان يفترض أن ينضم إلى الصورة بشكل أو بآخر. 

استقرت شبيهة أختي على الشكل النهائي لتكوين صورتها، ذهبت مسرعة إلى الموبايل وقامت بتشغيل مؤقت الكاميرا، وعادت مسرعة إلى موقعها، حيث كانت السوداء المرحة تنتظرها مثنية الجسد ممدودة الذراع متدفقة بالشتائم المعابثة، ثنت شبيهة أختي جسدها ومدت ذراعها، واستعدت لالتقاط الصورة، فلم أدر بنفسي إلا وأنا أمد جسدي إلى الأمام داخلاً برأسي في الفضاء الذي يفصل بينهما، مع لحظة التقاط الكاميرا للصورة التي استغرق تحضيرها الكثير، كنت أضحك من قلبي وأنا أفعل ذلك، توقعت أن تغضبا، لكنهما ضحكتا وبقوة، التفتت نحوي السوداء المرحة وقالت لي ضاحكة: "غريبة، لم يكن يبدو عليك أنك مقتحم صور"، قلت لها وقد شجعتني مودتهما: "لم أفعل ذلك من قبل في حياتي، لكن أليست هذه صورة تستحق الاقتحام"، سعدت شبيهة أختي بالتعليق الذي اعتبرته إطراءاً لفكرة الصورة، وهز الأستاذ عبد الوارث رأسه موافقاً على ما قلته، بينما نظرت السوداء المرحة نحو غريمتها قائلة: "المهم ألا تفكري في إعادة الصورة ثانية، لم يعد تأميني الصحي يغطي جلسات العلاج الطبيعي لظهري". 

 قطع العاملون في المكان بهجتنا حين ذكرونا بأن المكان سيغلق بعد خمسة دقائق، أصرت شبيهة أختي على إعادة الصورة، وطلبت من الأستاذ عبد الوارث أن يقوم بالتصوير، لكي تتفرغ هي لتضبيط التكوين كما تتخيله، قررت مغادرة المكان مكتفياً بما نلته من بهجة طارئة، في طريقي للباب استوقفتني السوداء المرحة وسألتني عن اسمي، وقبل أن أجيبها قالت لي مبررة طلبها: "طبيعي أن نسألك عن اسمك، وقد أصبحت الآن جزءاً من حياتنا"، أخبرتها باسمي وسمعت اسميهما وتبادلنا "الجود نايت"، لكنني بعد أن خرجت من المكان تأسفت، لأنني لم أسأل الأستاذ عبد الوارث عن اسمه، ولم أخبر المنتصرة أنها تشبه أختي. 

 ....

قتل الأب 

كان ينظر في عينَي كل من عزّاه في وفاة أبيه، إلا أنا، تحاشى النظر في عينيّ تماماً. تأكدت من ذلك والله، وأنا أراقب أداءه مع القادمين لتعزيته، والذين لم يكن أغلبهم مثلي وثيقي الصلة به، أو قديمي العهد بصداقته، لكنني لم أجد ذلك غريباً على أية حال، فلم يكن بالتأكيد قد قال لهؤلاء ما اعترف به لي في لحظات صفاء، عن أنه أحياناً يخشى أن يموت قبل أبيه، فلا يتمكن من كتابة قصتهما الغريبة والمعقدة في رواية ملحمية، كان يقسم أنها ستكون أفضل من كل ما نكتبه بل ومن كل ما كتب عن علاقات الأباء بأبنائهم. كانت قصته مع أبيه فريدة من نوعها بالفعل، لكنني كنت متأكداً أنه سيفشل في كتابتها على الوجه الأمثل، بسبب تورطه العاطفي فيها أكثر من اللازم، ولأنه بحكم تكوينه لن يكون قادراً على أخذ مسافة مما جرى له على يد أبيه قبل أن يحكي، ولذلك لن يكون هناك لرواية قصتهما أصلح مني، لكن ذلك لن يحدث للأسف، إلا إذا مات هو قبلي. 

... 

على أهون سبب

كان يظن مثلنا أن سعادتهما الزوجية ستكون محصنة ضد أعتى العواصف، ولذلك لم يصدق حين تطور الأمر بينهما بصورة مفاجئة ومؤسفة، كلنا نعرف أن طريقته في الهزار غير موفقة، وكانت هي أكثرنا معرفة بذلك، من أيام الكلية يعني، لذلك كان غريباً أن ينهار زواجهما بسبب مزحة سخيفة، قالها بعد أن ذهب إلى ورشة إصلاح الأحذية، بحذاء قديم اشتراه من لندن قبل سنوات، لم تكن تلك المرة الأولى التي يصلح فيها ذلك الحذاء الذي هتكت عرضه شوارع القاهرة، لم يكن يحرص على الاحتفاظ به لأنه دفع فيه الكثير، بل لأن تكوين قدميه كان غريباً، كانا مفلطحين من المنتصف بشكل كان يزعجه كلما ارتدى حذاءاً جديداً، وكان يزيد الحكاية تعقيداً أن قدمه اليسرى أكثر فلطحة من اليمنى، ولذلك لم يصدق نفسه حين وجد حذاءاُ يفهمه من أول مرة، حتى حين قام بتفصيل أحذية مريحة، لم يجد فيها نفس العزاء الذي منحه لك ذلك الحذاء الإنجليزي النادر، والذي أصبح مع الوقت جزءاً من شخصية صديقنا، ولم يكن يعرف أنه سيرتبط بأكثر ذكرياته ألماً. 

 لم تكن زوجته مخطئة، حين لامته لأنه سيصلح الحذاء للمرة الرابعة، خاصة أنه كان يحرص على الذهاب إلى صنايعي بعينه يمتلك ورشة صغيرة في شارع حسن صبري بالزمالك، وكان يأخذ منه الشيئ الفلاني في كل مرة، مما جعل مجموع نفقات إصلاح الحذاء أغلى من ثمنه، وربما كان هو مخطئاً، حين أساء اختيار الرد، فقال لها إن حرصه على الحذاء ووفاءه له، ينبغي أن يريحها نفسياً، لأنه يعني أنه لن يتخلص منها بسهولة، مثلما فعل بعض أصدقائهما بالآخر، ليفاجئه غضبها العارم لأنه شبهها بجزمة معفنة، فقررت أن تثأر لنفسها باتهامه بالبخل والنتانة، وصارحته بأنها أصبحت تخجل منه كلما ارتدى الحذاء في خروجة مع أصدقائهما، وأنها تستغرب بروده الذي "يكسِف" في التعامل مع التعليقات الساخرة من حذائه، لتتطور المسألة فجأة إلى وضعه في اختيار بينها وبين الحذاء، مصممة على أن يقذف به فوراً من الدور الثامن، وإلا تركت له البيت، ليواصل خطأه التاريخي بالقول ضاحكاً إنه يفضل رميها من الدور الثامن، لأنه لم ير من الحذاء أي نكد ولا وجع دماغ. 

ستعلمك التجارب السابقة، ألا تقول أبداً لمن يحكي لك حكايات كهذه، إن الزيجات والعلاقات الإنسانية لا تنتهي لأسباب تافهة، تكون في حقيقة الأمر "تلكيكة" للخلاص من حياة مليئة بالمشاكل التي يهرب الطرفان من مواجهتها، بل عليك أن تكتفي بهز رأسك وأبداء أسفك، وحين يلح الشاكي في معرفة رأيك فيما حدث، سيكون عليك أن تتحدث عن عبثية الحياة وعن قدرتها على الفرز وكشف حقائق الآخرين، ولكي تبدو جاداً وأنت تقول ذلك، إياك أن تطاوع نفسك وتسأل صديقك عن مصير الحذاء، ولماذا لم يعد يرتديه؟. 

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.