زيارة إلى الصندوق الأسود للدولة المصرية (2 من 3)

زيارة إلى الصندوق الأسود للدولة المصرية (2 من 3)

25 ديسمبر 2018
+ الخط -
كيف يأتي الوزراء في مصر وكيف يرحلون؟ 

بعد دراسة مستفيضة لأساليب ووقائع التغييرات السياسية والوزارية في مصر في العقود التي أعقبت قيام ثورة يوليو 1952، تصل الباحثة الدكتورة مايسة الجمل إلى نتيجة مفادها أن مصادر تجنيد النخبة التنفيذية واختيار الوزراء لم تتغير من عهد لآخر، حيث ظل دور التنظيم السياسي وهيكله دوراً تابعاً لشخص الرئيس، ومن هنا تضاءلت احتمالات تغير النخبة الوزارية، وتضاءلت معها فرص حصول السلطتين التشريعية والتنفيذية على دور فاعل في عملية صنع القرار.

وخلال مقارنتها لأنماط تغيير الوزارات في عهدي عبد الناصر والسادات، تؤكد الباحثة أن التغييرات الوزارية التي أجراها عبد الناصر، كانت تعكس التغيير الذي يطرأ على توجهاته السياسية من مرحلة لأخرى، ولذلك فقد كان تركيزه أكثر على الكوادر التكنوقراطية المتخصصة للاشتراك في الحكومة في فترة الستينات، تعبيراً عن حرصه على وجود توافق بين الحكومة وما حدث من تحول في سياساته، وفي الإطار نفسه كان تعيينه لزكريا محيي الدين رئيساً للوزراء في أكتوبر 1965، خطوة محسوبة استهدفت توجيه رسالة إلى الإدارة الأمريكية تعلن عن بدء مرحلة سياسية جديدة، وذلك بإعفاء رئيس الوزراء "الاشتراكي" علي صبري، وتعيين شخصية ذات ميول "ليبرالية" ـ كما كان يراه البعض كذلك بغض النظر عن دقة التوصيف ـ لكنها تتصف بالحزم في الوقت نفسه.

ترى الباحثة أن التغييرات الوزارية التي أجراها السادات، لم تكن مرتبطة بالتغيرات السياسية في توجهاته، فقد كانت التعديلات الوزارية تتم في عهده لسببين رئيسيين: إما لعجز أعضاء الحكومة عن وضع توجهاته موضع التنفيذ، أو بعد اكتشافه عدم تحمسهم لتنفيذ تلك التوجهات، ومع ذلك هناك تغييرات ساداتية للوزراء يصعب تفسيرها، حيث كان السادات يعفي بعض الوزراء من مناصبهم لكي يعينهم في مناصب سياسية أخرى، دون سبب واضح لإعفائهم أو

لإعادة تعيينهم، كما كان تغيير رؤساء الحكومة في عهده يعكس محاولته تكريس وترسيخ توجيهاته، لا رغبته في تغييرها.

تضرب الباحثة مثلاً على ذلك باختيار السادات للدكتور عبد العزيز حجازي رئيساً للوزراء في عام 1974، ثم إعفائه من منصبه في عام 1975، وترى أن سبب الاختيار وسبب الإعفاء يوضحان طبيعة الدور المتوقع من رئيس الوزراء، وضعف الأهمية التي يعطيها رئيس الجمهورية لهذا المنصب، مؤكدة أنه خلافاً لما زعمه الكثيرون، فإن تعيين السادات لحجازي، لم يكن السبب في إطلاق العنان لسياسات الانفتاح الاقتصادي، وأن السادات رأى أنه بسبب اتجاهاته الليبرالية وخبرته الوزارية منذ العام 1968، سيكون الشخص المناسب لتنفيذ سياسة الانفتاح الساداتي، لكن حساسية مهمة حجازي وتداعياتها بعد ثلاثة شهور من إعلان سياسة الانفتاح، أدت إلى وقوع أحداث شغب محدودة في شوارع القاهرة تطالب باستقالة حجازي، وأعد ممدوح سالم وزير الداخلية وقتها تقارير تلقي مسئولية الأحداث على أسلوب حجازي في تنفيذ السياسات الانفتاحية، مع أن الوقت كان لا يزال مبكراً على تقييم جهوده بالسلب أو بالإيجاب، والملفت أن عدداً من الوزراء الذين عملوا في تلك الفترة مع السادات وأجرت معهم الباحثة مقابلات شخصية قالوا لها إن واقعة الشغب من المحتمل ان تكون مصطنعة من قبل ممدوح سالم، في حين أكد لها عبد العزيز حجازي أن الأحداث كانت ملفقة للإيقاع بينه وبين السادات.

بعد شهرين من تلك الأحداث وبالتحديد في إبريل 1975، طلب السادات من الدكتور حجازي أن يقدم له تقريراً عن أداء وزارته، وكان متعارفاً على أن هذا الطلب يعكس عزم الرئيس على تغيير الحكومة بأكملها، لكن حجازي كما يقول للباحثة اندهش حين قال له السادات إن الوقت حان لتعيين حكومة جديدة، ثم طلب منه أن يرأسها وأن يختار فريقاً جديداً ليعمل معه، فكان الطلب الوحيد للدكتور حجازي هو ألا يعين ممدوح سالم وزيراً للداخلية مرة أخرى قائلاً بالنص للسادات: "لا أستطيع أن أترأس حكومة يعمل بها أشخاص لا يدينون بالولاء لي"، وهو ما تعلق عليه الباحثة بقولها إن الدكتور حجازي لم يدرك الخطأ الذي وقع فيه والذي أدى إلى الإطاحة به، وهو أن الولاء له لم يكن هو العامل المهم، ولكن الولاء لشخص الرئيس كان الأهم، ولذلك لم يمض أسبوع حتى تلقى عبد العزيز حجازي مكالمة هاتفية من الدكتور أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام وقتها يبلغه أن السادات قد قام بتعيين ممدوح سالم رئيساً للوزراء، لكن حجازي لم يصدق ذلك، لأن السادات لم يكن قد أبلغه برغبته في إقالته، فذهب في اليوم التالي إلى السادات ليقوم بتسليمه قائمة المرشيحن كوزراء في الحكومة الجديدة، "لكن ما حدث هو أن السادات فاجأني بإبلاغي اعفائي من منصبي كرئيس للوزراء"، وهو موقف تكرر بتنويعات كثيرة في عهد السادات وفي عهد مبارك أيضاً، كما رأينا في الشهادة التي كتبها الدكتور كمال الجنزوري عن تجربته في العمل مع حسني مبارك والتي سبق أن عرضت لها قبل ذلك بالتفصيل.

لم يكن حظ الوزراء الآخرين أفضل من حظ عبد العزيز حجازي، فقد روى أحمد كمال أبو المجد وزير الإعلام في عهد السادات للباحثة، كيف تعرض للتهميش شبه الكامل عن طريق حرمانه من المعلومات أثناء مفاوضات السادات مع هنري كيسنجر في أسوان، حيث لم يكتف السادات بعدم اصطحابه إلى المفاوضات، بل لم يهتم حتى بإبلاغه بما يحدث، وحين كان يرسل بأسئلة إلى السادات عما يمكن معرفته عن المفاوضات، لم يكن يتلق أي رد على أسئلته طيلة أسابيع، حتى تم اقصاؤه في التشكيل التالي للوزارة.

حدث ذلك أيضاً مع الدكتورة عائشة راتب وزيرة الشئون الاجتماعية في عهد السادات، والتي كانت تترأس في الوقت ذاته اللجنة التشريعية بمجلس الوزراء، والتي تراجع مشروعات القوانين قبل تقديمها إلى مجلس الشعب، حيث فقدت منصبها عندما رفضت مشروع قانون الاستثمار المعروض على المجلس، فأعفاها السادات على الفور من رئاسة اللجنة، واستبدلها بوزير العدل الذي وافق على مشروع القانون، ثم تم إخراجها بعد ذلك من الوزارة.

تضرب الدكتورة مايسة مثلاً آخر على أسلوب تعامل السادات مع نخبته التنفيذية، بتعيينه لمحمد إبراهيم كامل وزيراً للخارجية في عام 1977، كان كامل عائداً وقتها من بون، حيث كان يعمل سفيراً لمصر في ألمانيا الغربية، وعند وصوله إلى منزله أبلغته أسرته أن خبر تعيينه وزيراً للخارجية قد أذيع تواً في وسائل الإعلام، ولم يكن قد تم أخذ رأيه في الموضوع، وفي اليوم التالي طلبت منه الرئاسة أن يتوجه إلى مدينة الإسماعيلية حيث كان السادات مجتمعاً مع رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيجن، وتم إبلاغه بحضور الاجتماع مع أنه لم يكن قد أدى اليمين الدستورية بعد، كما لم يكن على علم بما جرى من قبل بين السادات والإسرائيليين، ليكون مؤهلاً للاشتراك في المحادثات، ثم فوجئ بتعامل السادات مع المسألة باستخفاف شديد، إذ طلب منه تأدية اليمين فوراً، وفي حضور مناحيم بيجن نفسه، وهو ما رفضه إبراهيم كامل بتأدب وهدوء.

حين أصبح محمد إبراهيم كامل وزيراً لم يسلم عمله من تدخل السادات المستمر، فبعد قليل من تعيينه انعقد المؤتمر الإسلامي في العاصمة السنغالية داكار، وشاركت مصر في المؤتمر بوفد رأسه نائب رئيس الوزراء محمد حافظ غانم، وطلب غانم نصيحة ابراهيم كامل حول الموقف الذي يجب أن تعلنه مصر في المؤتمر الذي كان سينعقد بعد زيارة السادات للقدس التي أدت إلى تدهور علاقات مصر العربية والإسلامية، فنصحه محمد إبراهيم كامل بأن يعلن في المؤتمر أن مصر تسعى إلى سلام شامل، وأنها لن تعقد معاهدة سلام منفصل بعيداً عن أشقائها العرب والمسلمين، وسمع حافظ غانم النصيحة وعمل بها، لكنه عند عودته من المؤتمر تلقى من السادات وعلى مرأى ومسمع من باقي الوزراء توبيخاُ شديد اللهجة، كما لو أنه كان طفلاً صغيراً، وحاول محمد إبراهيم كامل الاحتجاج موضحاً أنه هو الذي نصحه بذلك، لكي تحافظ مصر على علاقاتها بالدول العربية والإسلامية بأكبر قدر ممكن، لكن السادات كما روى إبراهيم كامل للباحثة قال له أمام الجميع: "أنا الوحيد الذي يعطي التوجيهات الخاصة بالسياسة الخارجية"، وكان ذلك موقفاً من المواقف التي تراكمت وأدت إلى استقالة محمد إبراهيم كامل التي كان لها تأثير صاخب، والتي كتب تفاصيلها في كتابه الشهير عن السلام الضائع في كامب ديفيد.

عن الضغط وجماعاته
مع أن مصطلح (جماعات الضغط) يمتلك أهمية في الحياة السياسية في أي بلد في العالم، إلا أنه يثير على الفور السخرية في بلادنا المنكوبة، ومع ذلك قررت الباحثة الدكتورة مايسة الجمل أن تتجاهل الواقع الهزلي وتطرح سؤالاً جاداً عما إذا كانت الأحزاب السياسية في مصر تشكل جماعات ضغط تؤثر على عملية صنع القرار، لتصل إلى نتيجة لا تثير الدهشة، تؤكد أنه لا الأحزاب المعارضة ولا حتى الحزب الحاكم لمصر، كان يمتلك أي تأثير على الحياة السياسية، وأن فاعلية كل هذه الأحزاب في صنع القرار كانت منتفية، فضلاً عن فشلها في أن تكون مصدراً من مصادر تجنيد النخبة السياسية، أو أن تكون ذات تأثير في خيارات النظام السياسية.

وإذا كان ذلك مفهوماً عند دراسة أوضاع أحزاب المعارضة التي حرمت من المشاركة السياسية الفعالة منذ سمح لها السادات بالوجود الشكلي، فإن انعدام فعالية الحزب الحاكم كان يحتاج إلى تفسير، لأن الحزب لم ينجح في خلق أي قاعدة تأييد عريضة، بشكل يجعله قادراً على ممارسة تأثير على عملية صنع القرار، إذ أن علاقته برئيس الجمهورية في كافة العهود، جعلت الحزب خاضعاً لرغبات الرئيس وليس العكس، ولم تكن التوجهات السياسية المختلفة تأتي نتيجة

لخيارات الحزب الحاكم، بل نتيجة لخيارات الرئيس وحده، بشكل جعل الحزب "الحاكم" منعزلاً بالكامل عن مجال صياغة السياسات، فعلى سبيل المثال لم يحدث قط أن بادر الحزب الحاكم، سواءاً كان الاتحاد الاشتراكي أو حزب مصر أو الحزب الوطني الديمقراطي، باقتراح أية توجهات سياسية للبلاد، لكي يقوم بحشد التأييد اللازم لنظام الحكم حين يستجيب لتلك التوجهات التي اقترحها. على سبيل المثال لا الحصر قام عبد الناصر على الملأ في عام 1966 بتوبيخ قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي لفشلها في تعبئة الجماهير، وفي العام 1976 اعترف السادات بعدم جدوى الحزب الحاكم وقام بحل الاتحاد الاشتراكي، وفي العام 1991 نشرت صحيفة (الأهرام) تصريحات لحسني مبارك يؤكد فيها اهتمامه بإعادة تنظيم الحزب الوطني بسبب فشله في الوصول إلى الجماهير وتمثيلها.

فيما يتعلق بتأثير قطاع رجال الأعمال كقوة ضغط وبالتحديد خلال فترة السبعينات، التي افترض البعض أن رجال الأعمال امتلكوا فيها تأثيراُ قوياً ومنظماً، من خلال رصدهم لعلاقة عثمان أحمد عثمان بالسادات، ترى الباحثة عدم صحة ذلك الافتراض، وتؤكد أن ازدهار قطاع رجال الأعمال خلال عهد السادات لم يحدث نتيجة أي ضغوط مؤسسية منظمة مارسها رجال الأعمال، بل تم من خلال شبكة علاقات شخصية غير رسمية، وهو ما يجعل ذلك التأثير رهناً بوجود أفراد وعلاقات معينة، وبمجرد انقضاء هذه العلاقات لا يبقى هناك أي تنظيم هيكلي يمكن أن يترك أثراً على السياسات الرسمية، وتضرب مثلاً للتأكيد على ذلك، ببدء مسار عملية الخصخصة التي بدأت منذ عام 1986 وظلت متعثرة حتى أواخر الثمانينات، وهو ما يعني أن رجال الأعمال لو كانوا قد نجحوا وقتها في تشكيل قوى منظمة مؤثرة، لكان قد تم الإسراع في عملية الخصخصة في تلك الفترة، لكن ذلك لم يحدث إلا حين قررت الدولة نفسها الإسراع في الخصخصة، بدءاً من عام 1991، حين جعل صندوق النقد الدولي من تحرير الاقتصاد شرطاً فعلياً مسبقاً لحصول مصر على المعونات، فضلاً عن أن برنامج الصندوق وقتها لم يتفق تماماً مع مصالح القطاع الخاص في مصر، لأنه اشترط التحرير الكامل لحركة الصادرات والواردات، وهو ما كان سيؤدي لتعويق نمو الصناعات المتوسطة والصغيرة في مصر، ولو كان هناك ما يعرف بمجموعات ضغط تمثل رجال الأعمال، وتتمتع حقاً بأي نفوذ على مسار الإصلاح الاقتصادي، لحاولت مقاومة هذا الشرط بالتحديد، لكن ذلك لم يحدث بشكل مؤثر أو ملموس.

تصل الدكتورة مايسة الجمل في ختام هذا الجزء من دراستها إلى نتيجة مفادها أن الرئيس المصري وبرغم أنه يبدو كأنه مطلق السلطة، لكن الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والدولية كانت تمثل في نهاية المطاف ضوابط تحكم سياساته، لأن تجاهله المتكرر لها، يمثل تهديداً لحياته نفسها، وليس لبقائه في الحكم فقط، ومع ذلك فإن غياب أي تنظيمات أو حركات سياسية أو جماعات مصالح منظمة، يؤدي إلى أن مراعاة الاعتبارات الاجتماعية والاقتصادية والدولية أو تجاهلها، لا ينقص من سلطة الرئيس المطلقة في تحديد توجهات سياساته، لأن تلك

الاعتبارات تظل محددات لنتائج توجهاته، وليست محددات لعملية صياغته لهذه التوجهات، وهو ما كان سيختلف بالطبع لو كان هناك تحركات شعبية منظمة تمارس ضغوطاً عليه منذ اللحظة التي تسبق اتخاذه للقرار، حتى لو كانت هذه التحركات من خلال حزب حاكم نشأ عبر تمثيل حقيقي لقواعد شعبية عريضة، ولم ينشأ بشكل كارتوني عبر قرار رئاسي مسبق.

هامشية النخبة الوزارية
ترى الدكتورة مايسة الجمل بعد دراستها المستفيضة للحياة السياسية في مصر بعد ثورة يوليو 1952 أن للنخبة السياسية المصرية دوراً هامشياً في عملية رسم التوجهات السياسية، وتؤكد على فرضية أن مجلس الوزراء الذي يمثل قلب السلطة التنفيذية هو كيان إداري وليس سياسياً، ومع ذلك فهو يتمتع بدرجة من السلطة السياسية، حيث يمارس الوزراء درجات متفاوتة من التاثير السياسي، يتوقف على مدى تحقيقهم للتوجهات السياسية لرئيس الدولة. ومع أن السلطات التنفيذية والتشريعية في مصر تقتسم نظرياً مسئولية رسم وتنفيذ التوجيهات، إلا أن ما يحدث على أرض الواقع، هو أن دور السلطة التشريعية يقتصر على مجرد الموافقة الروتينية على رغبات السلطة التنفيذية، أما مجلس الوزراء فنظراُ لأن رئيس الجمهورية هو الذي يعين أعضاءه دون تمتعهم بأية صفة تمثيل سياسي أو شرعية سياسية على المستوى الفردي، فإن الرئيس في نهاية الأمر يظل المسئول عن وضع السياسات وكذلك عن الأداء التنفيذي للوزراء، ومن هنا جاءت تفاهة الحيلة التي كان ـ ولا يزال ـ الكثير من الكتاب والإعلاميين يلجأون إليها لمهاجمة الوزراء وتحميلهم مسئولية الأخطاء والكوارث وشكواهم إلى رئيس الجمهورية، برغم علمهم أنه لا أحد من أولئك الوزراء يجرؤ على التصرف دون إذن وعلم رئيس الجمهورية.

تؤكد الدكتورة مايسة فرضيتها عن هامشية النخبة الوزارية المصرية وكونها نخبة بيروقراطية، لا نخبة سياسية، من خلال دراستها لبقاء واستمرار كوادر هذه النخبة في ظل سياسات ذات توجهات مختلفة ومتناقضة، فبعض المسئولين استمروا يشغلون مناصب منذ عام 1952 وحتى أواخر السبعينات، وبعض من انضموا إلى النخبة الوزارية في السبعينات ظلوا يشغلون مناصب وزارية حتى التسعينات، وهو ما لا يمكن أن يتحقق لأي نخبة وزارية في العالم، إلا إذا كانت تتصف بدرجة عالية من البيروقراطية والبعد عن التسيس، وتضرب مثلاً على ذلك بقيادات التنظيم الطليعي في الاتحاد الاشتراكي في عهد عبد الناصر مثل ممدوح سالم وفؤاد محيي الدين وسيد مرعي وعزيز صدقي وعبد العزيز حجازي ومحمد حافظ غانم وغيرهم، والذين تولوا جميعاً مناصب سياسية في عهد السادات، وعملوا لخدمة سياسات كانت تتناقض مع تلك التي دافعوا عنها في الستينات، وهو ما ينطبق على كثير من اسماء النخبة الوزارية في الثمانينات والتسعينات، والتي كان عدد كبير من أفرادها مرتبطاً بالتنظيم الطليعي ومنظمة الشباب في عهد عبد الناصر.

خلال محاولتها لرسم صورة الخصائص السياسية والاجتماعية للنخبة الوزارية في عهد السادات، والتي بلغ عدد أفرادها 174 وزيراً خدموا في الفترة ما بين 1971 وحتى عام 1981، تنبهنا إلى أنه كان من بين هذا العدد الكبير سيدتان وسبعة وزراء أقباط فقط، وكان يغلب عليهم الانتماء إلى المناطق الحضرية، حيث كان 20.5% منهم من مواليد القاهرة ـ بينما كانت نسبة مواليد القاهرة بين وزراء عبد الناصر 34.8% ـ في حين جاءت محافظة الدقهلية في المركز الثاني من بين المدن التي ولد فيها وزراء عهد السادات، وكانت الإسكندرية هي التي تحتل ذلك المركز في عهد عبد الناصر لتتراجع في عهد السادات إلى المركز الثالث.

فيما يتعلق بالانتماء المدني والعسكري للوزراء الساداتيين، كانت الغلبة للمدنيين حيث بلغ عددهم 143 وزيراً بنسبة 82.2%، في حين بلغ عدد ضباط الجيش 27 وزيراً بنسبة 15.5%، وبلغ عدد ضباط الشرطة أربعة وزراء، وفي عهد عبد الناصر كانت الغلبة للوزراء المدنيين أيضاً، ولكن بنسبة اقل، حيث بلغت نسبة الوزراء المدنيين 66.4% وبلغت نسبة الوزراء العسكريين 33.6%، مما يكشف أن المشكلة لم تكن في طبيعة الانتماء السابق للوزير، ولكن في مجمل النظام الذي يفضل الوزير الذي لا يمتلك موقفاً سياسياً أو خبرة سياسية، ويفضل عليه الوزير المستعد فقط لتلقي الأوامر وتنفيذها. من المهم هنا الإشارة إلى ملاحظة تنقلها الكاتبة عن الباحث ريتشارد هرير ديكمجيان في كتابه (مصر تحت حكم ناصر: دراسة في الديناميكية السياسية) يقول فيها: "ان المرء لا يجب أن ينخدع بذلك التفوق العددي للمدنيين على العسكريين الذي قد يصل إلى الضعف، لأنه على الرغم من أن هذه النسبة تعكس بوضوح مدى اعتماد النظام على النخبة المدنية خاصة في المجالات الفنية، إلا أنه يجب ألا ينظر إليها على أنها مؤشر صحيح على القوة النسبية لهذه النخب، فمعظم هؤلاء المدنيين كانوا أداة في يد العسكريين، كما أنه نظراً لأن أياً من المدنيين لم يكن له قاعدة من القوة خاصة به، فإن أياً منهم لم يظهر كزعيم سياسي حتى في أوقات الاضطراب التي أعقبت هزيمة عام 1967".

أما عن الخلفية التعليمية للوزراء فقد احتل المهندسون المركز الأول بين أفراد النخبة في عهدي عبد الناصر والسادات، 20 في المائة في عهد عبد الناصر و26.5 في المائة في عهد السادات، وهو ما يشير إلى احتلال التصنيع مكان الصدارة وقتها في قائمة أولويات النظام الحاكم، أما التخصص في القانون فقد جاء في المرتبة الثانية بين الوزراء في العهدين، بعد أن كان يحتل المرتبة الأولى في عهود ما قبل الثورة، ففي عهد السادات جاءت النسبة 20.1 في المائة، في حين انخفضت هذه النسبة كثيراً في عهد عبد الناصر لتصل إلى 13.7 في المائة، وهو رقم شديد الدلالة. في العهدين أيضاً جاء تخصص الاقتصاد وإدارة الأعمال في المرتبة الثالثة، حيث بلغت نسبة الوزراء الحاصلين على درجات في الاقتصاد وإدارة الأعمال 9.2 في المائة في عهد عبد الناصر، و19 في المائة في عهد السادات.

أما عن المستوى التعليمي فقد كان 76 وزيراً من وزراء عهد السادات من الحاصلين على درجة البكالوريوس أو الليسانس، ثم تلاهم 27 وزيراً حصلوا على الماجستير أو الدبلومات العليا، بالإضافة إلى وزيرين لا يحملان مؤهلات جامعية، مقارنة بوزير واحد في عهد عبد الناصر، أما نسبة حاملي الدكتوراة داخل الوزارات المتعاقبة في عهد السادات فقد ظلت

تتناقص، حيث كانت في وزارة مايو 1971 تحتل نسبة 44.1 في المائة، لتصل في وزارة مايو 1980 إلى 26.5 في المائة فقط. في الوقت نفسه كان هناك من بين وزراء عهد السادات 67 وزيراً حصلوا على درجاتهم العملية من الخارج بنسبة 43.7 في المائة، معظم هذه الدرجات كانت من بريطانيا: 29 وزيراً، والولايات المتحدة: 22 وزيراً، وفرنسا: 13 وزيراً، بالإضافة إلى أربعة درجات علمية من الاتحاد السوفيتي وتشيكوسلوفاكيا، أما في عهد عبد الناصر فقد كان عدد الحاصلين على درجات علمية 64 وزيراً منهم 58 وزيراً حصلوا عليها من الخارج.

تلاحظ الباحثة عند دراستها للخلفية الوظيفية لوزراء السادات أن وظائف السلك الجامعي كانت أكبر مصدر لتجنيد أفراد النخبة الوزارية بنسبة بلغت 35.1%، ثم وظائف الجهاز البيروقراطي للدولة بنسبة بلغت 25.9% ثم المؤسسة العسكرية بنسبة بلغت 15 في المائة، ثم القضاء بنسبة بلغت 16 في المائة، كما لاحظت أن متوسط العمر عند دخول الوزارة لأول مرة في السبعينات كان 53 سنة، وكان متوسط فترة العمل في الجهاز البيروقراطي قبل دخول الوزارة يبلغ 21 سنة، وهو ما يعني أن 42 في المائة من وزراء السادات قضوا أكثر من ثلثي حياتهم العملية في جهاز الدولة البيروقراطي، كما أنه من بين 73 وزيراً عملوا في الجهاز البيروقراطي قبل انتقالهم مباشرة إلى الوزارة، كان هناك 44 وزيراً يعملون في ديوان مجلس الوزراء، ومن بين هؤلاء الأربعة والأربعين كان هناك 12 محافظاً وثمانية نوب وزراء وسبعة مساعدي وزراء و12 وكيل وزارة ونائب لمحافظ البنك المركزي واثنان من مستشاري رئيس الوزراء واثنان من مستشاري الوزراء. ومن بين 174 شخصاً هم وزراء عهد السادات كان هناك 77 وزيراً فقط قد مارسوا العمل السياسي قبل انضمامهم إلى الوزارة، تولى نصف هؤلاء تقريباً مناصب سياسية، وكان متوسط فترة عملهم السياسي قبل التعيين في الوزارة سبع سنوات، وهي فترة قصيرة لا يمكن أن تكسب صاحبها خبرة سياسية، خصوصاً في حياة سياسية تظل الحركة فيها مقيدة بقيود كثيرة، أما أكثر من نصف وزراء فترة السبعينات، حوالي 57 في المائة منهم لم يمارس أي منهم أي عمل سياسي قبل دخوله الوزارة.

كذلك فإن حزب النظام الحاكم سواءاً الاتحاد الاشتراكي أو الحزب الوطني ظل المصدر الوحيد الذي يعمل كمصدر لتجنيد أفراد النخبة الوزارية، وأصبح مستقراً لهم بعد تركهم مناصبهم الوزارية، فقد جاء مائة في المائة من وزراء السادات الذين كان لهم تاريخ حزبي قبل الوزرة من الاتحاد الاشتراكي الذي أسببه عبد الناصر، ولذلك تؤكد الدكتورة مايسة الجمل على محدودية عملية تداول النخبة في الحياة السياسية المصرية، حيث يغلب على هذه النخبة عملية إعادة التدوير سواءاً في مصادر تجنيد الوزراء أو المستقر الوظيفي والسياسي الذي يلجأون إليه بعد تركهم الوزارة، حيث يعود أغلب الوزراء إلى الوزارة أو يتولون مراكز عليا داخل الجهاز البيروقراطي، أو كمستشارين في رئاسة الجمهورية أو مجلس الوزراء أو يرشحهم الحزب الحاكم لشغل مناصب قيادية في مجلس الشعب، وقليل منهم من يعودون للتدريس في الجامعة أو يتجهون للقطاع الخاص، لتكشف عملية إعادة التدوير هذه أن ظاهرة الخروج من صفوف النخبة غير معروفة بصفة عامة في مصر، لأن ما يحدث هو عملية تنقل لأفراد النخبة الوزارية داخل الإطار الأوسع للنخبة السياسية، وليس عملية استبدالهم بآخرين.

من الملفت أن جميع من التقت بهم الباحثة من الوزراء، قللوا من أهمية التفوق المهني كمعيار للتمييز عند اختيار الوزراء، بل وكانوا أكثر حسماً في رأيهم ذلك من باقي من التقت بهم من المحللين والكتاب، حيث قال لها الدكتور أحمد كمال أبو المجد مثلاً إن "الوسطية كانت هي المعيار الذي يعول عليه عند اختيار الوزراء وليس التفوق المهني"، والوسطية هنا كما تشرح الباحثة تعني الافتقار إلى التزام أيديولوجي واضح، أما الدكتور عبد العزيز حجازي فقد قال لها إنه كان يرشح الوزراء الذين كانت له معرفة سابقة بهم اجتماعياً أو مهنياً، ويعترف لها بأنه اختار مرة شخصاً لوزارة الزراعة، لأنه سمع عن كفاءته، ثم ندم على هذا الاختيار، لأنه اتضح أنه كان يفتقر إلى الكفاءة الشخصية والمهنية، مؤكداً أنه لو كان يعرفه من قبل لما كان قد ارتكب هذا الخطأ الذي ندم عليه، ولك أن تتخيل كيف يمكن أن ترتكب في ظل نظام سياسي عشوائي كهذا أخطاء وخطايا، لا ينفع معها الندم.

....

غداً بإذن الله، نختم باستعراض بعض الشهادات التي أدلى بها وزراء عهدي عبد الناصر والسادات للباحثة: ـ سيد مرعي: لم يكن لي ولا لغيري دور في صنع السياسات ـ يحيى الجمل: السادات اختارني لأني منوفي وحجازي اختارني لأننا كنا شركاء عمل ـ كيف ساعد جهاز المخابرات عثمان أحمد عثمان على تمتين نفوذه السياسي وكيف استطاع لوحده البقاء مقرباً من السادات ـ لماذا فشل سيد مرعي في الحفاظ على موقعه السياسي بينما تمكن رفعت المحجوب ومصطفى خليل وأسامة الباز من البقاء الطويل؟

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.