عندما يُزهر الحب

عندما يُزهر الحب

21 ديسمبر 2018
+ الخط -

تغيّر كلّ شيء في مجرى حياته فجأةً، حتى هندامه الذي أخذ يوليه عنايةً مُبالغاً فيها، أثار حفيظة من يحيط به، ولا سيما أنه في ما مضى كان يبدو بصورةٍ عادية مألوفة، وإن كان تصرّفه هذا يوحي بأن هناك جديداً في حياته، بدأ يلفتُ نظرات زملائه الآخرين، حتى أولئك العاملين خارج إطار المديرية التي يعمل فيها.

هذه المرّة ارتسمت الصورة واضحة، جليةً أمام عينيه، وتراءى له أنّ كل ما به مجرد مرام خفيّة، يَجبُ عليه الإفلات منها، فانفرد بنفسه لوضع الخطوط العريضة لكي يتمكن من محوها نهائياً من طريق حياته، المليئة بالشجون، والتخفيف من احتقانها الممضّ، إن أمكن.

كانت هذه الصور، باستمرار، تقف حجر عثرة أمام خطواته الأولى التي حاول تفجيرها، دون جدوى، بل بقيت حبيسةَ الأنفاس، بعيداً عن ظهورها للعلن، وبلورتها إلى واقع!!

نُعاس داخلي، وطَّد علاقة متينة لخلجات ذاتية، مفْرحة تارةً ومحزنة تارةً أخرى، دفعت به نحو تسييس بعضِ المشاهد التي أربكه اختلاقها، وراعه الكثير من الصور المؤنسة، التي حاول أن يبتعدَ عن الالتفات إليها، أو الاهتمامِ بها، وحتى المشاركة في مضمونها!!

انغماسه في بعض الواجبات الأدبية، وحبّه لعمله الصحافي، منذ الصغر، كرّسا له جهداً كبيراً للوصول إلى مبتغاه، وتحقيق نتائج حاول مراراً رسم الطريق الصحيحة له، رُغم ما يواجهه من صعاب في الوصول إليها، والابتعاد عن الخوض في هذه المتاهة، وبقي إصراره متسيّداً الحالة التي يعيشها... التي كانت تقف في مواجهة ترتيب البيت الداخلي الذي لم يألفه بعد، حال عودته من بلاد الاغتراب، وبعده عن البلد الأم، الذي لم يدم أكثر من أربعة أشهر ونيّف.. وحدها كانت كافية لكشف ما كان خافياً عن إدراكه.

لم يكن وقع الطاولة التي جلبتها له المديرية، التي يعمل بها موظفاً، يدلّ على أي نجاح أو تقدّم ُيحقق له طموحه الذي طواه الزمن مع مرور الوقت، رغم حلمه واجتهاده الذي لا نهاية له، ومحاولة مشاركاته الجادّة في مراسلة العديد من الصحف، والاستكتاب فيها، وحدها كانت كافية لتحسين صورة العلاقة التي يُحاول تأكيها، وإبقاءها حرّة طليقة، في صورة مخالفة لواقع يلفّه الغموض، والانغماس في متاهاتِ الحبّ الذي لم يكن يتوقع أنه سيزهر يوماً!!
في الغرفة التي يعمل بها التقاها، وكانت بداية الطريق الطويلة، ورغبته العنيدة في إبداء أي فكرة تُلفت نظرها.

حاولَ إشراكها في ما يكتب من موادّ صحافية. قرأت بعض ما كتب، وأبدت رأيها. قالت مستغربةً، وعلى محيّاها ارتسمت ابتسامة خفيفة:
ـ هل هذا الذي قرأت من نتاجك أنتْ؟ هل لديكَ القدرة على صوغ كلّ ذلك، وسرد هذه المواقف بكل بساطة؟!
أجابها، ونظراته تُراقب رسالتها الشفهية المنبعثة من ثغْرٍ مورِد، وأنفاس تضوّع برائحة الياسمين.
ـ نعم، هذا "شُغلي". وفي الواقع يعجبني رأيكِ!!

وضعت المجلة التي بين يديها جانباً، بعدما قرأت بعضاً من كتاباته، وقالت وهي تقوم من فوق الكرسيّ مستديرةً بظهرها اتجاه الباب الداخلي للغرفة، استدارةً خفيفة، محاولةً إغلاق ستارة النافذة المفتوحة المطلّة على حديقة المبنى الذي يقضي فيه ساعات طويلة، لمتابعة أعمال المديرية في تسوية ما يُطلب منه من خدماتٍ عُماليّة.

ـ آمل أن تستمرّ في مثل هذه الطريقة الجميلة في الكتابة. لا بأس بها. محاولات جادّة، ولكن يلزمها برهة من الوقت.. وتابعت حديثها: أسلوبك بحاجة للتركيز، وإضافة بعض الصور التي تُؤسّس لإطار فني تُشعر فيه القارئ المتابع بعمق الموضوع، وبعض الإيحاءات الأخرى. قالتها بكبرياء، وبطريقة فيها تعال وأستذة، هذه المرة، وتابعت مكملةً كلامها بسخرية.

ـ أعتقدُ أن إمكاناتك لا بأس بها، وأرجو أن تكون محاولاتك الصحافية هذه المرّة تنهج مواقع أخرى، وتلقي الضوء عليها بدقة، وبصورةٍ خاصة، تلك المواقع المهمّة في حياة المواطن.. والكتابة عن واقع الريف تحديداً، الذي لا يزال بحاجة للكثير من أوجه التخديم، ونقل واقع المعاناة التي يعيشها الفلاح هناك، وتصويره بكل أبعاده!؟

ـ رأيُكِ سليم. قالها زاهد.. وفي داخله آثار هذا الاستهجان المبطّن ببعض ردود الأفعال.. لم يستطع أن يُكمل الرد تزلّفاً لمشاعرها.. وتوطيداً لعلاقة حميمة يُريدها أن تتمّ، وتكلّل بالتالي بزواجٍ ثانٍ بعد زواجه الأول، الذي امتدّ لأكثر من ثماني سنوات، وهو الآن يُدرك أنه لم يعرف الحبّ سابقاً الذي طالما تمنّى أن يعيشه طوال تلك السنوات الطويلة التي انقضت!
مضت بعض الدقائق داخل الغرفة، التي يقبع بها عدد من الزملاء الموظفين العاملين في المديرية.

أحد مهندسي الطرق، وهو من الموظفين، الموجودين بين الزملاء العاملين، قال:
ـ ما سرّ وجودك في هذه الغرفة تحديداً؟ أرى أنه كان لزاماً عليك أن تستغلّ نفوذك في الغرفة المجاورة لمفتشي الرقابة، الذين هم وحدهم من بين العاملين في الدولة لهم حظوة خاصة، ونداؤهم ملبّى!

ـ قال زاهد: بالتأكيد.. بالتأكيد. هذا هو الواقع الذي نعيش صوره! وما أدراكَ أنتَ، حتى إن هناك لفيفاً من الصحافيين المتطفّلين الذين ليس لهم أي علاقة بالعمل الصحافي، حاولوا تقليد المفتشين، وهم ـ للأسف ـ من الأميّين، غير قادرين في الواقع على "فكّ" الخطّ، وهناك الكثير منهم، في هذا الوقت بالذات!

استدار المهندس المشرف على بعض مشاريع الطرق، وقال بلهجةٍ حادّة: كلامك يا أخ زاهد صحيح. فهل من المعقول ظهور أمثال هؤلاء الصحافيين بهذا الكم الهائل، وكثرتهم بهذا الشكل أثارت العديد من التساؤلات الصارخة!!
ثم أضاف قائلاً بلهجة فيها الكثير من المرارة:
ـ كنا نعرف أن المجموع الكلّي لعدد الشباب المهتمّين بهذا العمل، لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة.. فما سبب انتشار هذا العدد من المتصحّفين، الذين صار يُطلق عليهم سمة المراسل الصحافي؟ وهذا ما أساء لصاحبة الجلالة المبجّلة!

تدخّل زاهد في الحديث وهو يقول:
ـ كيف يُسمح، إذاً لمثل هؤلاء المتطفّلين إشراكهم في إعداد الريبورتاجات، والاستطلاعات الصحافية، التي تهمّ شريحةً واسعةً من الإخوة المواطنين، ويتم نشر الموادّ التي يُعدّها لهم لفيفٌ من المتمكنين في هذا الإطار، إلّا أنَّ النجاح سيكون، بالتأكيد من نصيب الصحافي المجتهد، القابع وراء الكواليس، القادر على إيصال الفكرة ببساطة، وبلورة أفكارها، بحيث يُمكن أن تتوضح الصورة الفعلية لصحافة صادقة، موضوعية، تُحاكي الضمير الحيّ الذي يمكن به أن يحيى الوطن.. وإلّا فلا.

استمر النقاش طويلاً، وخرج المهندس فاتح متألماً، بعد سماع هذه المناقشة التي ليس فيها من خاسر سوى المتلقي، المتابع لما يُنشر على صفحات الصُحف.
أشارت عقارب الساعة إلى التاسعة والثلث صباحاً.. وبدأ عدد الموظفين يكتملُ نصابه، وراحت إحداهن تحضّر مائدة الإفطار الصباحيّة، والأخرى أخذت تغسل أكواب الشاي، والثالثة تُنظف سطح الطاولة، ومن بين العاملين الموجودين في الغرفة محمود، وهو رجل طاعن في السنّ، ووجوده شبه نادر، نتيجة سفره المتواصل إلى العاصمة لتخليص عددٍ من معاملات الإخوة العاملين في المديرية، وإنهاء بعض الأعمال الخاصة بهم لقاء مبلغ زهيد من المال..
وحده، زميله زاهد، الحاضر الدائم، الذي لم يفته أي يوم بحضور ‍جلسات الزميلات العاملات الستّ اللاتي تجمعهن غرفة لا يتجاوز تعداد الطاولات فيها الأربع.. واحدة منهن لزاهد، وأخرى لمحمود، والاثنتان الباقيتان لمن يصل قبل من الزميلات.. العاملات في القسم.
هذا اللقاء الجماعي الصباحي، للعاملين في الغرفة، لا يدوم أكثر من ساعات معدودة، بعد تناول طعام الإفطار الصباحي الذي اعتادوه، وفي الثانية ظهراً، على أبعد احتمال، يبدأ العدّ التنازلي بمغادرة الغرفة، وحدهما أمل وناديا، تبقيان إلى نهاية الدوام الرسمي، وحضور زاهد في هذه الحالة يُثير العديد من الشُبهات على الرغم من اختلاقه أعذاراً مقنعة تُبرّر وجوده بين هاتين الزميلتين، وإشراكهما في الحديث، حول رسم صورة لمستقبل يُشير إلى شيء ما جديد لا بد أنه يكتمل..



إعجابه الشديد بالآنسة أمل ونظراتها، ومحبته لها فاقا التصوّر..
"هل هذا يعني الحب الذي فقده منذ زمن طويل!" هذا ما قاله زاهد.
أخذ يُتابع حركاتها بكل دقّة، بنظراتها المتوثّبة، حيث كانت هناك إضافات جديدة رسمت لشخصية متزنة يغلب عليها إطلالة بهية، ما ترك لدى الأستاذ زاهد قصوراً حقيقياً كلّما أراد الولوج إلى قلبها، دفع به إلى محاولة الإيحاء ولو بالإشارة.
فترة الإفطار طالت هذه المرّة، وتمنّى لها أن تدوم اليوم بكامله، نتيجة استمتاعه برؤية أمل، التي حفرت في قلبه جرحاً عميقاً من الصعب أن يندمل!

أيام طويلة مرّت دونما فائدة، واكتمال المشوار الذي رسمه زاهد للفوز بهذا الملاك الذي أثار لديه فضولاً غريباً، حتى زوجته كان لديها معرفة بكل هذه القصص، التي تناقلتها ألسنة الزملاء في المديرية، وتتويج هذه القناعة بزواج مشرّف، وهذا ما أراده.. إلا أنَّ محاولاته هذه باءت بالفشل، لأنها رفضته أكثر من مرّة، وهذا ما أثار حفيظته بشوقٍ كبير للاقتراب منها أكثر فأكثر..
استمرارها في هذا التعنّت، دفع به نحو الامتثال إلى الواقع الذي عاشه خلال سنوات انقضت من عمره الزمني!
فكر مليّاً في اتخاذ موقف ما.. حاول الابتعاد كلياً عن غرفتها التي تشاء الصدف أن يتمّ إجراء بعض التنقلات بين الموظفين في المديرية التي يعمل بها، وبإمكاناته، استطاع أن يُؤسّس لغرفة جديدة خاصة به، وبالأوراق الكثيرة التي لها علاقة بالعاملين في المديرية التي يعمل فيها محاسباً..
أمام هذا التجافي الأسود من قبلها، ولعنتها له، وقع بين اختيارين: بين أن يُقلع بعيداً، حيث بلاد الاغتراب ويتركها دون أن يلتفت خلفه، ويوفّر كبرياءَه، وأَنَفَته، لأنه لا يملك بالقرب منها إلا الخاطر المكسور، ولا سيما أنه مولع بالسفر والترحال، أو يبقى علّها يوماً تكسر هذا الجدار من اللامبالاة الذي وضعته أمامها.. ولكن هيهات للسفر أن يُبعده عنها ما دام الشوق في قلبه يتأجج يوماً بعد يوم، وهذا ما دفعه للبقاء في العمل الوظيفي رغم ما يُصاحبه من معضلات، وبصورةٍ خاصة، من الزملاء الذين تربطه وإياهم أعمال خاصة لها طابع صحافي.
صور هامشية بدت تنساب في مخيلته، أخذ يتخيلها في كل موقع في العمل، في الطريق، في البيت، وهو راكب السيارة، في مكتبه الصغير، الملجأ الوحيد الذي يكتب فيه بعض مشاهداته.
فكّر بها ملياً واستدعى إلى ذهنه كل ما يمكن أن يجول بوجدانه من كلمات قد تُخفّف عنه عبء المعاناة التي يعيش مرارتها.

كتب لها يوماً مخاطباً:
"قد يكونُ فتات الخبز الذي نقتاته هو المطلب الملحّ في حياتنا، وهذا ما يدعونا للالتزام.
التزامنا بالكثير من الواجبات الأدبية - الخلقية التي قد تكون هي التي أبعدتنا عن بعضنا البعض إلى حدٍ ما، ومحاولاتي الجادّة - وحدها كانت محوراً هاماً، تركت انطباعاً مؤلماً في مجرى حياتي، حيال ما يعتريني من بعض المشاهد التي أجدُ أنها بحاجة فعلاً للحسم، وتتويج ذلك كان موسوماً بأناشيد مأتمي الصادقة!

لن أغالي إن قلت بأن الإنسان من الصعب أن يجد الاختيار الذي يبحث عنه، وإن كان مجتهداً في ذلك، واختياري لك، نابع من صميم قلبي الذي يُكابد بُعدك عنه، وأنا مقتنع بهذا الاختيار الذي وجدته، ما يعني خلاصي من رمادية الحياة التي عشتها، والتي كادت أن تقضي على ما في الدنيا من ألوان جميلة، لولا ما تحليت به من الأمل، الذي هو سرّ من أسرار تجديد حياتي المأسوف على شبابها!!

عزيزتي..
يا أحلى أنغام الصبا الذي أيقظ فيّ المودة، والسعادة، والهناء، والراحة الأبدية، التي افتقدتها طوال الأيام الماضية، وجدتها بمجرد لقائي بك، ومتابعتي لكل خطوة تخطينها، وهمسة تبوحين بها، ولكل نظرة ترمينها بسهام عينيك الجارحتين، المولعتين عشقاً، وحناناً، تفيضُ به أحضان وجدانك!

أنيقة المظهر أنتِ، جميلة القدّ الممشوق الذي يفوح عطراً، واتزاناً.
موردة الخدين، يعلو ذلك حجاب ناصع معطّر، أضفى على شخصيتك الهادئة هاجساً وكبرياءَ جليلة، وإطلالة تفيضُ أنوثةً أجدُ فيها كمال شخصيتك الصارخة! إنكِ عندي أغلى من كل ما يمكن أن أمتلكه يوماً ما، من سيارة أميركية ذات سعر جنوني، أو جوهرة ثمينة تفوق بقيمتها، أكثر من مئة مليون دولار أميركي، إذ لا يمكن أن أفضّلها عليك، ومن الصعب أن أستبدلها بك، أو أفكر استبدالك بها!

عزيزتي الحبيبة..
مهما حاولتُ إنصافك فلن أقدر على ذلك، وحدك القادرة على تحمّل همومي، وحفظ أسراري، وتحرير قيودي، ورسم طريق حياتي، ولجْم أفكاري التي أُحبطت!
وإن قالوا، مهما قالوا عنك، فأنتِ كما أنتِ، وردة جورية أحسدُ كلّ من يستطيع الاقتراب لاقتطافها، وهنيئاً لمن يفوز بها.. ويا..
وان كنتِ في سنّ تجاوزت مداها الخمسمئة عام، فلن أختار سواكِ ولم أفكر بغير ذلك!
هذا البوح ليس مجرد نزوة عابرة، يُراد من خلالها الوصول إلى هدفٍ سام أدافع عنه وأبحث عن صفة تُراود أفكاري التي إن أمكن أن أعتبرها متحضّرة إلى حدٍ ما! وإنما هي في مضمونها حقيقة مطلقة، نابعة عن قناعة تامة، وشخصية متزنة!
آفاق التحضّر، وإن تعدّت برنامج الزمن الواحد، والغاية الواحدة، فإن سؤالي الدائم الحاضر هو كيف تقضين أوقاتك؟ من تُعاشرين؟ ما هي محاولاتك في مشاركات الآخرين؟ أين ترمين بسهامك؟ من يَلفت نظرك؟ من تنتظرين؟ وعلامَ تتحدّين؟!
صور، وصور عابرة، متعدّدة تُراود مخيلتي، أحاول إيضاحها لتكونَ قريبةً إلى وجدانك.

أيتها الوردة الفارسية..
عطرك غطّى على كلّ مَن حَولك، وبلور سعادة المحيطين الذين يتابعونك بنظراتهم المبتورة، الساخطة، وهذا من حقّهم!
لن ألتزم الصمت، لا.. وألف لا..
صورتك دائماً مطلّة بصفائها أمام ناظري.. ولا يمكن مسخها، أو تأطيرها، أو حتى إغفالها.. وقلبي بحاجةٍ لكلمة حلوة منك قد تبعث فيه الحياة من جديد، وتُعيد له بوادر الحبّ الذي طواه الزمن، بصدّك وبُعدك عنه الذي لا أجدُ له مبرّراً!".
وفي رسالةٍ أخرى حاولَ أن يُبحر أكثر فأكثر في وجدانها مؤكداً عشقه لها، رغم تجاهلها، فكتب مخاطباً:
"إحساسٌ غريبٌ فعلاً، أخذ ينتابني، وأنا أحاول بصورةٍ أو أخرى، أن أتغلّب على مشاعري المرهفة تجاهكِ، وتدفعني، وبقوة، إلى أن أجازف وأبوح لكِ ببعض ما لدي من كلمات احتفظتُ بها لذاتي، وددتُ لو أنكِ عرفت مضمونها لاختلف مقياس العرف عندك.
لن أستسيغ من هذه التجربة المبحرة مبرّراً لأبيح لنفسي قول ما أشاء، إلا أنَّ بذور الحقيقة تقول: بأنَّ هواكِ سحرني، ودفع بي إلى المكوث طويلاً، بعيداً عن أن أبوح، عن كلماتٍ صبرتُ طويلاً لأنقلها إليك، ولتكون بعض هذه الكلمات، التي أعرفها بأنها ماجّة، مبتذلة، مجرد خيوط رفيعة تصلني إلى بداية فؤادك الذي أحسّ بنبضاته، وأحاولُ مراراً أن يكون لي شرف القرب منكِ، والتحدث إليكِ، ومعرفة وجهة نظركِ الأحادية، وهذه مراميّ التي طالما اجتهدتُ للوصول إليها.

يا جميلتي،،،
هل أنتِ ساحرةٌ بوجدانكِ الرفيع؟ أم رائدةٌ بإحسانكِ المتواضع؟ أم بريئة بخطواتكِ المتوثبة الهادئة، التي أجدُ أنها جزءٌ من إغراءاتك التي أوقعتني بمصائِدك، أم أنَّ الذي زاد من ارتباطي بكِ عنجهيتك، التي أرى أنك بعيدةٌ عنها.. ويبقى لنضارة وجهكِ السموح الإطلالة، وانتمائك لأسرة محافظة، وتميّزك عن بقية أقرانك، من هم من صُلْب جذورك، زاد من قناعتي بك، أكثر فأكثر.
هذا كلّه أسّس لهذه الشابّة الوسيمة المحيّا، الخجولة بطباعها، الندية الوجنة ـ غير المنْصِفة ـ التي وقفت عاجزةً عن قذف كبريائها بحضن مَنْ أحبها.. وهذا ما أرادت".
محاولات البوح هذه التي أفاضها لم تُثمر عن شيء جديد، حيال هذا الهياج النفسي، الذي عاشه فترةً من الوقت، بينه وبين نفسه، حتى يتمكن من إيصال فحوى ما يدور بخلده إلى من أحب دون جدوى.
ذات مرّة، واجه الموقف بكلّ حزم، دخل غرفتها، وأطل عليها بتحية، وردّت بمثلها، وفوجئ بخروجها من الغرفة مباشرةً دون أن تكترث له.. هذا التصرف أصابه بإحباط شديد، حاولَ أن يفهم بأن هذا الفعل ربما جاء مصادفة.. واستمرت المحاولات، وبقي هذا الحلم الوردي متيقظاً وأينع بداخله حبّاً لم يُثمر بعد، وانتظاره لها قد يطول وقد يقصر، وما زال مصرّاً على متابعة خطواتها، والامتثال لسحر عينيها المشغوفتين، وبُحة صوتها في بعض ما تقوله بلسانها، ولطولها الفارع، وأناقة هندامها الملفت، وزهو أنوثتها ما يضفي على وجدانه عشقاً قد يُزهر حبّاً في قلبها.

محاولات كثيرة، وأخرى لم تُجدِ، إلا أنّه أصرّ على الدخول إلى قلبها، عنوةً، رغم ما يُحيطُ به من قيود تقفُ أمام نقل خطواته التي تسمّرت في مكانها، وفجأة تحوّل الموقف إلى حوار شابه التحدّي، وان كان على غير عادته، هذه المرّة، إلا أنه أخذ أبعاداً اختلفت فيها الموازين التي حدّدت هذه السوية لتلك الفتاة التي كان يرى فيها الكثير من الرقة، والأنوثة، والخجل المفرط، الذي ما إن انفجر، حتى دعاها الموقف لهذا التصرف المبتذل والرخيص، وإن كان لا يستدعي كل هذا التهجّم، وهذا الاندفاع الذي أظهر في الواقع عدم إدراكها، وتفهمها للعلاقات الإنسانية، الوجدانية الحضرية، التي تربط بين الناس عموماً وبين الرجل والمرأة بصورة خاصة.

كان الانفجار في مساء يومٍ مشؤوم، وكانت النهاية لعلاقة شابها الإخلاص والوعي، من طرف واحد، قوامها الصدق والمحبة الخالصة، والاحترام لشخصية حملت في إهابها الودّ، إلا أنّ تجلّي الصورة بهذا التداعي المفزع، تركَ الكثير من إشارات الاستفهام، وعلامات التساؤل حيال تلك الشابّة التي لا تزال لها مكانتها في وجدانه، وإن تجاوزت بتصرفها هذا حدود المعقول، وكشّرت عن أنيابها، ويبقى للروح التي أثارت هذه القضية، وتحديها بعض الأمل في محاكاة جديدة، فرحة، تغسل ما كان بدر من كل هذه التيارات، المناوئة، وإبطاء حركة جريانها في هذا الوجه الصدئ، الذي لا يمتثل بكل أوجهه المطلية إلا لقلّة من المخلصين...
لقد مادت الأرض تحت قدميه، وهو يرى الوجه البشع الذي كانت ترتديه نتيجة ذاك الموقف الذي حدث في مساء يومٍ معْلَن!!
فاللقاء الذي كاد أن يجمعهما تحوّل فجأةً إلى حوارية متأججة، نارية، استوعب كلماتها الجارحة بتواضعٍ جم، وتقبّلها بكلِ عنفوان، وبقيت كبرياؤه تُعذّبه نتيجةَ هذا اللقاء الذي لم يكن يتوقع أن يكون بهذا الأسلوب الخشن الذي أشار إلى أن هناك أسراراً عميقة، وعميقة جداً تحتفظُ بها لنفسها لم تُعلنها!
تصرّف وإن كان يُجسّد التجنّي الذي لم يكن من حقّها، وإن مثل هذا الموقف المتصف بالحمق، والانفعال لا يمكن أن يبدر عن فتاة متزنة، تحمل صفات النبل والأصالة، المنحدرة من جذور عميقة، مشهود لها بالوعي والمعرفة والتبصّر.

صورة ما حدث تنمّ عن تفاهة الموقف، وقصر النظر، لهذه الشخصية التي كان يرى فيها ملامح إنسانية، متحضّرة وراقية، لكن الموقف المفاجئ كشف عن حقيقة مخيفة فيها صورة لشخصية مهزوزة العواطف، غير مبالية، متقلّبة المزاج.
وتبقى حقيقتها، باعتقاده، لا لبس فيها، وتصرّفها هذا يُوحي عن بؤس وسذاجة متأصلة فيها، وإن تحمّلت مساوئ الدهر، والزمن الذي تركها عُرضةً لهذا الموقف الحزين المؤلم، وقفت حياله، متأسفةً بينها وبين نفسها، كما هو عهده بها، حاملةً لبذرة الخير الذي افتقده، والالتزام الذي طواه الزمن، وتمنى أن يكون موقفها بغير هذه السلبية المخجلة التي ظهرت بها، وكشفت عن هوية شابه، متشائمة، متأثرة بالمحيط، فاقدة الأمل بفارس الأحلام الوردية الذي طال انتظاره، وها هي الشمعة، تطفئ شعلتها ببطء شديد، متأثرةً بالصديقات، المثل، اللاتي كسبن الوقت، وشموع المستقبل، الأطفال، الذين هم نُسغ الحياة وأملها الذي لا يمكن الاستمرار دونه، وإن لم يكن لهذه النهاية أن تستمر بمثل هذه السوية التي كان يرى فيها الروح التي أعادت إليه بريق الأمل، الذي افتقده خلال السنوات التي قضاها في رحاب بهو عميق، لمْ يَصحُ منه بعد، وفي قرارة نفسه، فإن الأمل ما زال تحقيقه يحتاجُ لوقتٍ طويل، وطويل جداً، وقد يدوم فترة أطول دون مبرر، فأيّ نهاية يمكن أن يعي تجديدها، ما دامت الصورة استمرت هامشية، بالرغم من وضوحها..

وبقي السؤال محيّراً وحاضراً في مخيلة زاهد، لماذا هذا الموقف؟ هل هو الإرث الشخصي لها؟ أم القيود الاجتماعية التي تحكم وتحدّد نظرة الإنسان بعيداً عن وعيه ومعرفته؟ أم أنَّ الصورة الجميلة التي أرادها أن تكتمل انكسرت، ولم تنْفَع معها الإغراءات التي قدمها، والتنازلات الكثيرة التي قد حطّت من شأنه؟ وهذا مما أثار تياراً عكس جميع المزايا التي حاول أن تكون في متناول يدها، ليتوّج هذا الحب، بزواج ظنه موفقاً، إلا أنَّ الحبّ العميق الذي حمله لها ما زال مزهراً في قلبه، لم يذبل بعد!!

6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.