الضحك والوَشّة في الرأس

الضحك والوَشّة في الرأس

21 ديسمبر 2018
+ الخط -

كنا نتحدث، في إحدى جلسات "الإمتاع والمؤانسة" التي انعقدت في بلدة الريحانية التركية أواخر سنة 2012، عن الضحك. 

قال أبو النور: أنتم تعلمون أن الضحك هو من الأشياء الجميلة الآخذة بالانقراض من حياتنا، حتى ليتخيل المرء أن مؤرخي الأجيال القادمة، حينما سيقومون بدراسة حياتنا، سيذكرون في هوامش تلك الدراسات العبارة التالية: وكان أجدادُنا يمارسون عادة غريبة، هي أن الواحد منهم، في بعض الأحيان، يفتح فمه على مصراعيه، حتى لتظهر لَهَاتُه، ويهتز جسمه، وتنطمر عيناه، ويصدر أصواتاً من قبيل هه هه كه كه.. ويحمرّ وجهه، وتنفرج نفسيته.. ويقولون في وصفه إنه: يضحك!

قال أبو مراد مستفهماً: ممكن نعرف أيش مناسبة هذا الحديث؟ 

قال أبو النور: اتصل بي قبل قليل صديقي مازن، من النمسا التي وصل إليها قبل ثلاث سنوات نازحاً من سورية، هارباً، مثلما هربنا نحن جميعاً، من معتقلات ابن حافظ الأسد وبراميله وقذائفه المدفعية والصاروخية.. استعرضنا، أنا ومازن، بعض الذكريات القديمة. هناك حادثة عندما تُذكر أمام مازن يفرط من الضحك، وأنا تقصدتُ تذكيره بها فضحك كثيراً، وقال لي إنه لم يضحك بهذا الصفاء منذ ما قبل بداية الثورة.. 

قلت: عفواً أخي أبو النور، قبلما تسترسل في حديثك، ممكن تحكي لنا عن الحادثة التي بتخليكم أنت ومازن تضحكوا؟

قال: طبعاً ممكن. الحقيقة أن مازن يكره عديله (زوج أخت زوجته) الملقب "أبو فلان" بشدة، وذات مرة كنا مشاركين في عرس، ومازن جالس معنا، وكان عديله أبو فلان يرقص على بعد أمتار منا، فقمت أنا وطلبت من أبو فلان أن يأتي ويرقص ضمن دائرتنا، فجاء، وكما تعلمون، تقتضي أصول اللياقة في الأعراس أن نصفق له جميعاً، وبضمننا مازن، فكان يصفق له رغماً عنه، بينما وجهه مكفهر، ويقول له: يبعت لك حمى وداء السل، تضرب في منظرك شقدك غليظ. وبعد هذه اللقطة صرنا نتحين قيام أبو فلان للرقص مرة أخرى، ثم نأتي به إلى دائرة مازن ليرقص ومازن يصفق له ويدعو عليه بالحمى وداء السل، حتى غضب منا وقال: 

- علي الطلاق ما في حدا أغلظ من عديلي أبو فلان غيركم.

ضحكنا، وقال أبو عمر: بالفعل قصة حلوة.  

قال أبو النور: من حسن الحظ أن الحكي بين الأصدقاء المتباعدين في هذه الأيام لا يكلف شيئاً، المهم تكون متصل بالإنترنت وبتحكي على التشات أو فايبر أو واتس أب.. ساعة ساعتين، قد ما بدك، وببلاش. منشان هيك سرحنا أنا ومازن بالحكي. ومن جملة الحديث قال لي إنه التقى ابن بلدنا "أبو أيوب" بالصدفة هناك..

تعجب الخال أبو محمد وقال: كمان أبو أيوب صار في النمسا؟

قال أبو النور: وفي العاصمة فيينا إكراماً لخاطرك. ولكن النكتة ليست هنا. النكتة أن أبو أيوب عندما كنا نلتقيه في سورية كنا نعاني معه من كثرة الوَشّ.

وشرح لنا أن الوَشّ مصطلح حديث، يعود بالتحديد إلى الستينيات والسبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، والكلمة ذات منشأ تلفزيوني، فبعد انتهاء الإرسال في القناة الوحيدة التي كنا نشاهدها في تلك الأيام، وتُعْرَف باسم القناة الأولى، كانت تظهر على الشاشة حركة تماوجية ضوئية كنا نسميها (البَرْغَلة)، تترافق مع صوت يشبه صوت إلقاء قطعة العجين "العوامة" في وعاء الزيت المحمى: وش ش ش.. هذا هو الوَش، وأما المعنى الاصطلاحي للكلمة فبقي يتطور حتى أصبح يعني اللوثة العقلية، فيقال: فلان واشش. أو: في عقله وَشّة.. أي إن عقله يأخذ ويعطي ويتماوج و(يتبرغل) ويصدر صوت الوشيش. والرجل الذي يوش تراه يتحدث للآخرين قائلاً كلاماً ليس منطقياً، وليست له مناسبة، وليس له طعم، وفي الوقت نفسه لا يتوقف عن الكلام. 

وقال أبو إبراهيم: أفهم من هذا الحكي أن "أبو أيوب" عندما يوش يحتاج إلى مستمعين. 

قال أبو النور: طبعاً.

قال أبو إبراهيم: وهل يوجد في فيينا أناس مستعدون لأن يسمعوا وَشِيْش أبو أيوب؟!

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

للحديث صلة

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...