نظرية القرود الخمسة والفلسطيني الجديد

نظرية القرود الخمسة والفلسطيني الجديد

19 ديسمبر 2018
+ الخط -
ترتبط نظرية القرود الخمسة بمسألة تتعلق بالذكاء الاصطناعي وعلم الإدارة، كما يطرحها آخرون كنظرية اجتماعية تحكي واقعا معينا لمجتمع من المجتمعات البشرية. "قصة القردة" هذه توضح ما يعانيه المجتمع الفلسطيني ككل والضفة الغربية بشكل خاص، من صعوبات في التغلب على مخاوفه بعد سنوات طويلة من سياسة القمع والمضايقات المتبعة من قبل قوات الاحتلال وأجهزة أمن السلطة الفلسطينية.

وفي توضيح لخلفية النظرية، قام فريق بحثي بوضع خمسة قرود في قفص كبير وعلقوا في منتصفه حزمة من الموز، ووضعوا تحتها سلما صغيرا، وبعد فترة قصيرة صعد أحد القرود الخمسة السلم للوصول إلى الموز، وما أن وضع يده عليه حتى فتح الفريق خرطوم ماء بارد على القرود الأربعة الباقية فأرعبوها، وبعد قليل حاول قرد آخر محاولة القرد الأول نفسها، ففتحوا خرطوم الماء البارد مرة أخرى على بقية القرود، وكرروا تلك العملية مرات عدة! وبعد فترة وجدوا أن أي قرد يحاول الصعود للموز فإن بقية القرود تهرع لمنعه وردعه عن غايته.

وهكذا قاموا باستبدال القرود واحداً تلو الآخر، وتكرر معهم مثل ما حدث مع السابقين من ضرب وزجر من بقية المجموعة عندما يحاول أحدهم الوصول للموز من المجموعة ككل حتى من القرد الجديد، حتى استبدلوا كل مجموعة القرود القديمة بقرود جديدة. واستنتج الباحثون أن أي قرد جديد يحاول الوصول إلى الموز ستنهال عليه بقية القرود بالضرب دون أن يعلم أي منها لماذا وما السبب وراء ذلك سوى أن هذا ما وجدوا أنفسهم عليه.


وهذا السيناريو قد يكون ملخص تجربة استنساخ الفلسطيني الجديد المرعوب من العودة لمربع الثورة والمقاومة، حيث إن تسلسل الأحداث وتطوراتها في الشارع الفلسطيني يعكس مثال ما يقرب من 4 ملايين مواطنٍ يعيشون داخل قفص اسمه الضفة الغربية، يحملون على أكتافهم أثقال الماضي، ويبدو أن أورام الخوف وفقدان الأمن ما زالت تتفشى في عقولهم، حيث كوابيس الفلتان الأمني والفوضى التي ارتبطت بها، وما حل لاحقاً من عودة سيطرة الأجهزة الأمنية على مفاصل الحكم في المدن الفلسطينية بالتنسيق مع قوات الاحتلال، لتبدأ حقبة أخرى امتازت بضغط أمني وقمع مسلط فوق رؤوسهم، فكان لافتاً أن كثافة الضغط قد أحدثت تغييراً عميقاً في طريقة تفكير أفراد المجتمع وتحديد أولوياتهم، حتى وصلت إلى طريقة تصرفاتهم وطبيعة علاقاتهم في ما بينهم، لتبدأ حالة مجتمعية مسكونة بالرعب والريبة وانعدام الثقة..

وفي الحالة الفلسطينية فإلى جانب السيطرة المؤسساتية التي تفرضها أجهزة السلطة، فإن تلك الأجهزة قد تنافست مع مخابرات الاحتلال في سياسة تجنيد المواطنين العاديين كمخبرين، حتى أضحت شبكة العملاء الرسميين وغير الرسميين فاعلة باستمرار في الشارع الفلسطيني، وتنشط هذه الشبكة في كل الاتجاهات، تراقب كل ما يصدر من أقوال الآخر، ونشاطاته المهنية، وعلاقاته، وتحركاته. فجارك، وصديقك، وشقيقك، أي منهم قد يكون مخبراً، وهو ما يجعله شبحاً يحوم حولك في كل لحظة.

علاوة على ذلك، أثرت ضغوط المسائل الأمنية أيضاً على الإيقاع اليومي لحياة المواطنين وعلى حركتهم وعلى إمكانيات الحياة المعيشية والتبادل المتاحة أمامهم. وبالتدريج، انسلخت شريحة من الفلسطينيين عن حاضنة المقاومة والمربع الوطني وانصهرت في دوامة البحث عن الهدوء والأمان ومحاولة توفير شروط معيشية أفضل، حيث نسوا او تناسوا أن الأمن الوهمي لم يكن ليأتي إلا ثمناً لحلم الوطن المسلوب.

ومن الطبيعي فلسطينياً أن تتوسع شريحة العازفين عن الهم الوطني، وهي نتيجة طبيعية للضغط المكثف الموجه من الاحتلال والسلطة الفلسطينية وفي ظل طريق المفاوضات المسدود والانقسام الداخلي، مع ارتفاع حدة الأزمتين السياسية والاقتصادية، وهو ما ترك الشباب الفلسطيني غير مبال سياسيا ولا حزبيا، فمهما كان التناول السياسي مهما، فإن هناك ما هو أهم: لقمة العيش!

وكما في سيناريو النظرية وعلى مدار السنوات الطويلة المرهقة بدأت تتعزز صورة الفلسطيني الجديد الذي بزغ نجمه في الضفة الغربية هو ذلك الشاب الوطني الباحث عن أداة تحرر وحياة رغيدة مع الحد الأدنى من حقوقه المشروعة، لكنه وفي الوقت نفسه يريدها غير مكلفة بشريا، وعليه فإن هناك إجماعا فلسطينيا معنيا بإنهاء سلطة الاحتلال الصهيوني وتسلط الأجهزة الأمنية الفلسطينية ولكن يجب أن يأتي التغيير دون أن يؤدي ذلك إلى المساس بنسيج حياة المواطن وروتينها ودون الحديث عن التضحيات على اختلاف أشكالها.

وإبان انتفاضة القدس الأخيرة وما عشناه خلال الفترة الماضية من حالة التفاف شعبي مع الشهيدين أشرف نعالوة وصالح البرغوثي، ففي حين انهمكت دعاية الاحتلال والأجهزة الأمنية في محاولة صرف الأنظار عن هذا الواقع وتجميل الاحتلال والاستيطان وسياسة فرض الأمر الواقع وتبرير القتل وشلال الدماء، لم يكن الاحتلال وأعوانه قد وضعوا في حسبانهم انخراط شريحة جديدة من الفلسطينيين خلال مواجهات المدن والقرى والمخيمات.

حيث حملت وسائل الإعلام العديد من الشواهد على بوادر عودة جيل ناشئ لم تنجح دعاية الاحتلال والأجهزة الأمنية في كسب قلوبهم وعقولهم، تجدهم مبادرين لدعم الفعاليات الوطنية في مختلف الميادين يقفون سداً أمام جنود الاحتلال وعناصر الأجهزة الأمنية غير آبهين بتهديداتهم واعتداءاتهم.

ولكن وكما في تراثنا الفلسطيني، قيل سابقاً: وبذور سنبلة تموت ستملأ الوادي سنابل، فإن بذور القديم بقيت، وما زالت ذاكرتنا تحمل الكثير منها، خصوصا إذا ما تعلق الأمر بحقوق شعبنا في الحرية والاستقلال، وعليه سيبقى الرهان الذي يدور النقاش حوله في الدوائر السياسية، مع استمرار التجربة وكثافة الضغط وسيطرة الأجهزة الأمنية، هل ستغلب كفة الجموع وتنهض لتكسر القيد وتنال حقوقها، أم ستميل كفة الجلاد وستكف الجموع عن محاولة المطالبة بأرضها وحريتها؟