محاولات

محاولات

18 ديسمبر 2018
+ الخط -
تجري الأقدار بحكمة وإن لم ندركها، وبلوغ المأرب ليس هينًا على الإطلاق، كما أنه ليس مستحيلاً إن تمسكنا بالأمل وواصلنا العمل. لم تكن الحياة سهلة يومًا، ومن ظن ذلك فهو واهم، لكننا نرى الناجحين يتعاملون مع الحياة بمرونة، وقلَّ من استعمل المرونة وخاب؛ فاجتهد وثابر ولا تتعجل الوصول.

ويحدث أن تبدع في عملك وتخلص له، ثم لا تحصد نتيجة فورية، ويُسلِمك اليأس إلى ترك الميدان، ولو تمهلت قليلًا لوقفت على نتائج عظيمة وخطوات مؤثرة، كنت تبصرها لو تمهلت وتحليت بالمرونة؛ فقد تفتح بابًا جديدًا لنجاح أكبر مما توقعته من قبل، وقد تضعك في مكانة أرفع مما هيأت نفسك لها.

من ذلك مثلًا، أن كتب، ثروت أباظة، حوار مسرحية "المعتمد بن عباد" بطلب من المخرج فتوح نشاطي، لكن مدير الفرقة القومية الأستاذ، يوسف وهبي، رفض المسرحية! رفضها بعد مجهود مضن تكبده أباظة، وكان الأمر محبطًا لاسيما أن النص ممتاز، ولكن عوامل أخرى وأدت مجهود أباظة؛ فقيل إن السبب في رفضه للعمل يرجع إلى خلافات شخصية بين يوسف وهبي وفتوح نشاطي. تخيل أن تكون عاطلًا وتأتيك فرصة عمل؛ فيتقافز قلبك بين ضلوعك وتلتمع الأماني في رأسك، ثم تعرف أن خلافًا بين وهبي ونشاطي أجهزا على فرصتك بصورة غير مباشرة! هل تباشر عملًا بعدها بنفس الحماس؟ هل تزهد في الحياة وتتقوقع على نفسك؟ هل تفكر في الانتحار؟!


لم يفكر أباظة في ذلك، وأسعفته مرونته؛ فأثناء التحضير لكتابة المسرحية، قرأ أباظة كتاب رينهارت دوزي عن الأندلس، والذي ترجمه للعربية كامل كيلاني، وأعجب أباظة بشخصية "ابن عمار" ودوره في بلاط ابن عباد؛ فلما فقد الأمل في المسرحية وتوفي والده، أراد أن يتغلب على أحزانه بالكتابة وكتب رواية ابن عمار. كان عليه أن يبذر الحب وأن يكتب فحسب، والتوفيق من عند الله".

توجه إلى مستشار النشر بدار المعارف الشاعر "عادل الغضبان"، وكان اسم أباظة معروفًا لكتابته التمثيليات الإذاعية وقتها، ومضى العقد مقابل خمسين جنيهًا عن كل طبعات الكتاب. نشرت الرواية سنة 1954 ثم صدر قرار وزاري بتدريس رواية ابن عمار للمرحلة الإعدادية.

محاولات أباظة المتعددة شكلت طريقه، ولو أنه أوقف نفسه على ضياع فرصة مهما كانت ثمينة، ما كان ليبدع في عمل سبقه إحباط أو إخفاق أو فتور طويل. لا حرج أن تكبو أو تتراجع؛ فرجوع السهم ليس عارًا، بل بداية انطلاقة أقوى وبشير خير وبركة. الحرج كل الحرج أن تقف جامدًا في مكانك، أو أن تقلع عن أحلامك، وليس معنى رفضك مرة أو أكثر أنك محسود أو لا حظ لك في هذا الكوكب، لكن ربما إشارة لشق قناة جديدة نحو هدفك، وكل ما عليك أن تتابع المحاولات بمرونة وثقة في وعد الله "أنِّي لا أضيع عمل عامل منكم".

إن مرونة الرجل في بيته تحبب فيه أهله، وترفع قدره في قلوبهم، وتقلل من المشاكل النفسية عنده، وتسمح له بالنظر في عواقب الأمور وإيجاد البدائل المناسبة، وهذا ينسحب على كل مجالات العمل والحياة. لم يدرس الأصمعي في هارفارد، ولم يحضر دورات التنمية البشرية، لكن اسمه يأتلق في سماوات الأدب والشعر واللغة، وكان بسليقته الفذة يتعامل مع الأمور بمرونة غير معهودة.

جلس يطلب العلم على أيدي شيوخ كبار أمثال أبي عمرو بن العلاء، والخليل بن أحمد الفراهيدي، وأبي محرز خلف بن حيان الأحمر، وشعبة بن الحجاج وغيرهم. تردد الأصمعي على حلقة الخليل ليتعلم العروض؛ فلم يحرز تقدمًا فيها، وفي بعض الأيام سأل الخليل عن "معصوب الوافر"؛ فقال الخليل: يا أبا سعيد! كيف نقطِّع قول الشاعر: (إذا لم تستطع شيئًا فدعه وجاوزه إلى ما تستطيع)؟ فعلم الأصمعي أنه لا قبل له بالعروض، وصبَّ جل اهتمامه على رواية الشعر والنوادر والغريب؛ فأصبح علمًا من أعلام اللغة.

تذكر "ليس للإنسان إلا ما سعى"، وأنه ليس "للإنسان ما تمنى"، ما لم يشفع تلك الأماني بالمتابعة والمحاولات وسلوك الدروب وطرق الأبواب، ومن سار على الدرب وصل ومن طرق الباب سمع الجواب.

دلالات