صفحة من كتاب الفتنة التي لم تنم أبداً

صفحة من كتاب الفتنة التي لم تنم أبداً

18 ديسمبر 2018
+ الخط -
لم يحظ الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه بمكانته ومنزلته في قلوب المسلمين من فراغ، فقد كان واحداً من العشرة المبشرين بالجنة الذين بادروا إلى الإيمان بالرسول صلى الله عليه وسلم حين أنكره الناس، وتحملوا مسئولية نصرته وتأييده في أصعب الأوقات التي مرت به.

وقف عثمان إلى جانب الدعوة الإسلامية بثقله، في وقت كانت محتاجة فيه إلى نصرة غني مثله، وحين أوثقه عمه الحكم بن أبي العاص بن أمية وحبسه لكي يترك الدين الجديد ونبيه، أقسم عثمان: "والله لا أدعه أبداً ولا أفارقه"، هاجر عثمان إلى الحبشة ثم إلى المدينة وتحمل في كلا الهجرتين من العنت والمشقة ما لم يكن ينتظره ولا يطيقه، لم يبخل على المسلمين بماله في كافة المواقف الصعبة، وأصعبها إسهامه في تجهيز جيش العسرة في غزوة تبوك، وقيامه بشراء بئر من أحد اليهود ليشرب منها المسلمون، اختاره الرسول ليكون سفيراً له في صلح الحديبية استغلالاً لمكانته الرفيعة في قريش، كما كان قبل ذلك واحداً من كُتّاب الوحي، ليتم تتويج مكانته بتقريب الرسول عليه الصلاة والسلام له، وتزويجه ابنتيه رقية ثم أم كلثوم، ليحمل بسبب ذلك لقب (ذي النورين)، ويرد في مدحه والإقرار بفضله عشرات المرويات والأحاديث، من أشهرها قول الرسول عليه الصلاة والسلام في حقه: "لكل نبي رفيقي ورفيقي بالجنة عثمان".

لكن كل تلك الفضائل، لا تنفي أن عثمان بن عفان كان بشراً يصيب ويخطئ، وأنه حين أصبح رجل دولة ارتكب الكثير من الأخطاء، التي اختلف معه بسببها الكثيرون من أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام الذين لا يقلون عنه منزلة ومكانة، ولم يتحرج هؤلاء في أن يختلفوا مع عثمان ويعارضوه، لتشكل وقائع تلك المعارضة فصلاً مهماً من فصول مرحلة خلافة عثمان، التي كانت مرحلة فاصلة في تاريخ الإسلام، لا زال المسلمون يعيشون آثارها حتى اليوم، ومع ذلك لا زال من بينهم الكثير ممن يغضب ويلعن ويكفِّر، أو في أحسن الأحوال يتحرج ويتأذى، حين يتم فتح ملف الأخطاء السياسية التي ارتكبت في عهد الخليفة عثمان بن عفان، لنفهم كيف أثّرت على ماضينا، وكيف تواصل التأثير على واقعنا ومستقبلنا.


ربما كان خطأ عثمان رضي الله عنه الأبرز، أنه لم يهتم كثيراً بطبيعة التطور الذي حدث داخل صفوف المجتمع الإسلامي بعد اتساع رقعة الفتوحات في عهد سلفيه أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ولم ينتبه كما يجب إلى خطورة الصراع القديم الذي ظل مكتوماً ومستمراً تحت سطح المدينة بين بني أمية وبني هاشم، وهو ما عبّر عنه المؤرخ المقريزي في كتابه الشهير الذي "يبان" مضمونه بدءاً من عنوانه (النزاع والتخاصم بين بني أمية وبني هاشم)، وهو صراع كان البعض قد ظن أنه تم الانتهاء منه، بعد أن غرس الإسلام في نفوس المؤمنين به في مجتمع المدينة، فضيلة عدم الاعتراف بالعصبيات القبلية وعدم التعويل عليها، عملاً بقوله تعالى: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، لكن ذلك لم يتحقق بشكل كامل للأسف الشديد، فقد شهد المجتمع الإسلامي لحظات عديدة تفجر فيها هذا الصراع بشكل واضح، كان من أبرزها لحظة اختيار عثمان نفسه خليفة للمسلمين.

في كتابه (عثمان بن عفان بين الخلافة والملك) يعرض الدكتور محمد حسين هيكل وقائع اختيار عثمان وما صاحبها من صراعات، معتمداً على أبرز المصادر التاريخية، التي تجمع على أن أكثرية المسلمين الحاضرين في المدينة، كانت تؤيد تولي عثمان للخلافة بدلاً من علي بن أبي طالب كرم الله وجهه، وهو ما فسّره بعض المؤرخين بأن الناس مالوا إلى رجل لا يكون كخليفتهم الراحل عمر بن الخطاب حزماً وشدة وانصرافاً عن الدنيا وصرفاً للناس عنها، وقد كان عثمان هذا الرجل ولم يكنه علي، كما أن بني أمية طغت دعايتهم الانتخابية ـ بتعبيرنا المعاصر ـ على دعاية بني هاشم، واستغلوا غناهم ونفوذهم في كسب قلوب الناس لصالح عثمان، وأياً كانت الملابسات المحيطة بما جرى، وأياً كان تفسيرنا لها، فما حدث بالفعل أن الغالبية اختارت عثمان للخلافة، ووجب على الجميع الإذعان لاختيارها، وهو ما بادر علي بن أبي طالب بنفسه إلى فعله، حيث يروي ابن سعد في الطبقات الكبرى أن علياً كان أول من بايع عثمان، وفي رواية أخرى أنه كان ثاني من بايعه، أما الروايتان اللتان أوردهما ابن جرير الطبري والقائلتان بأن علياً تلكأ في مبايعة عثمان، وأنه قال لعبد الرحمن بن عوف: "خدعتني وإنك إنما ولّيته لأنه صهرك ولشاورك كل يوم في شأنه"، وأنه قال في رواية أخرى لبني أمية: "ليس هذا أول يوم تظاهرتم فيه علينا"، فقد أثبت المؤرخ ابن كثير أنهما روايتان مردودتان، تم وضعهما واختلاقهما لأغراض سياسية بعد زمن طويل مما جرى في المدينة في ذلك اليوم المؤسس والخطير.

بالتأكيد كان هناك من لم يرض ببيعة عثمان، ولم يكن سعيداً بها، لكن الجميع سلّموا ببيعته علناً، ولم يحدث تمرد ملحوظ أو واسع النطاق ضده، ليبدأ عثمان في مزاولة مهام عمله كخليفة، ومع أن كثيراً من المؤرخين يرى أن مدة خلافة عثمان تنقسم إلى ست سنوات سعيدة وهادئة، وست سنوات من الاستياء والسخط والبلبلة، فإن المؤرخ والمفكر التونسي الدكتور هشام جعيط في كتابه المهم (الفتنة) يعتبر أن ذلك التقسيم "تبسيط مخل للأمور"، لأن جذور السخط على عثمان، والتي جعلت الثائرين عليه يتهمونه أنه "بدّل وغيّر"، بدأت بالتحديد بعد مرور عام فقط على بدئه بممارسة مهامه كخليفة، عندما قام بتعيين شقيقه من أمه الوليد بن عقبة والياً على الكوفة، بدلاً من الصحابي الكبير سعد بن أبي وقاص، وكان الوليد ممن أسماهم النبي صلى الله عليه وسلم بعد فتح مكة بـ "الطلقاء" الذين خلّى الرسول سراحهم يوم فتح مكة بعد أن قدر عليهم، ولم تكن تلك مشكلته الوحيدة، فقد كان يشيع بين الناس أن القرآن الكريم وصف الوليد في إحدى آياته بصفة الفاسق ولكن دون ذكر اسمه، ـ انظر البلاذري في (أنساب الأشراف) ـ ولذلك كله أثار تعيين الوليد استياءاً شديداً، زاد بعد ذلك بعام حين قام عثمان بتعيين ابن عمه وشقيقه من الرضاعة عبد الله بن أبي سرح والياً على مصر، بدلاً من عمرو بن العاص الذي قام بتفح مصر، وكانت هناك روايات متعددة ترتبط باسم ابن أبي سرح تقول أن النبي صلى الله عليه وسلم سبق له أن أعلن هدر دمه، لأنه كان يدعي علناً القدرة على الإتيان بآيات محكمة كآيات القرآن الكريم.


لم يكن سبب الغضب الوحيد هو تعيين عثمان رضي الله عنه لاثنين من أقاربه المثيرين للجدل في مناصب مهمة، بل تضاعف الغضب بعد أن لاحظ الكثيرون أن عثمان يجزل العطاء لأقاربه ويتحيز لهم، وكان يجد لنفسه في تلك القرارات مبرراً شرعياً، كما يذكر سيد قطب في كتابه (العدالة الاجتماعية في الإسلام)، مشيراً إلى أن بعض الصحابة عاتبوا عثمان على تحيزه لأقاربه بعكس ما فعله من قبله أبو بكر وعمر فقال للمعترضين: "منعا قرابتهم ابتغاء وجه الله وأنا أعطي قرابتي ابتغاء وجه الله"، ويروي سيد قطب في هذا الإطار أيضاً قصة تغيير عثمان لخازن بيت المال الصحابي الجليل زيد بن أرقم، والذي بكى عندما رأى عثمان يمنح زوج ابنته يوم عرسه مائتي ألف درهم، وقال لعثمان بغضب: "هل تأخذ هذا المال من بيت المال عوضاً عما كنت تنفقه في سبيل الله في حياة الرسول صلى الله عليه وسلم، والله لو أعطيته مائة درهم لكان كثيراً"، فعزله عثمان غاضباً مما قاله.

تضاعفت تأثيرات كل هذه القرارات مع ظهور نتائج وعواقب الترف والرخاء الاقتصادي التي كانت قد بدأت بالتحديد في عهد عمر بن الخطاب مع توسع الفتوحات الإسلامية، ـ ولذلك حديث آخر سنعود إليه مرة أخرى ـ فكما يذكر المفكر العراقي علي الوردي في كتابه (وعاظ السلاطين)، فإن القنبلة الاجتماعية الناتجة عن عواقب الترف، كان عمر قد منع بقوته وحزمه انفجارها، لكنها كان محتوماً أن تنفجر، ولذلك فإن من الظلم لعثمان ما يذكره بعض المؤرخين أن ضعف عثمان الإداري هو الذي أدى إلى انفجار القنبلة الاجتماعية، فالحقيقة أنه ربما كان من سوء حظ عثمان أن الفتوحات توقفت إلى حد كبير في عهده، لتصبح مجرد طلعات للقضاء على تمردات بعض الأمصار أو التوسع عبر البحار، وحين تلقى عثمان النصح من أحد ولاته وهو عبد الله بن عامر، بأن يأمر الناس بجهاد يشغلهم عنه، لم يستمع عثمان إلى النصيحة "اللئيمة"، وظن أن من الأفضل له الانشغال بشئون الداخل، لكنه اتبع سياسة جديدة خالفت سياسة سلفه عمر، فقد أطلق حركة الأغنياء الذين كان عمر قد حجزهم في المدينة، وسمح لهم بالسفر، وزاد العطاء المالي المخصص للصحابة الذين أسلموا بعد فتح مكة، وكان عطاؤهم قليلاً في أيام عمر، كما ترك الأغنياء يؤدون الزكاة إلى الفقراء بأنفسهم ومعرفتهم، بدلاً من تسليمها إلى المكلفين بجباية الزكاة، وهو ما أدى إلى إهمال كثير من الأغنياء لأداء زكاتهم وتضخم طبقة أصحاب الثراء الفاحش.

أدت هذه التصرفات كما يرى علي الوردي إلى حدوث فجوة نفسية بين عثمان وأغلب المحكومين من متوسطي الدخل والفقراء، خصوصاً كما أسلفت أن كثيراً منهم استبشروا به خيراً لأنه سيقوم بتحسين ظروفهم الاقتصادية، وهنا يتفق عباس محمود العقاد مع علي الوردي مؤكداً أن عثمان كان كلما حاول التقرب من رعاياه، وقف أقرباؤه حجر عثرة في طريقه ليفسدوا تلك المحاولات. وهنا يمكن أن نقول أن أولئك "الأقارب العقارب" اعتبروا أن بني أمية انتصروا على بني هاشم، وأن الفرصة عادت لقريش لكي تمارس سطوتها على العرب بأسرهم، وهو ما يؤكده سيد قطب الذي يورد الروايات التاريخية الموثقة عن أبي سفيان شيخ قريش الذي سأل أقاربه يوم اختيار عثمان للخلافة عن وجود غرباء في مجلسه، وعندما اطمأن إلى خلو المجلس من الغرباء قال: "يا بني أمية تلقّفوها تلقّف الكرة فوالذي يحلف به أبو سفيان، ما زلت أرجوها لكم، ولتصيرنّ إلى صبيانكم وراثة".

يمكن أن نضع في هذا السياق نفسه ما يذكره عبد الله السبيتي في كتابه عن عمار بن ياسر نقلاً عن روايات تزعم أن أبا سفيان مر بعد ذلك اليوم بقبر حمزة بن عبد المطلب فارس بني هاشم وعم النبي صلى الله عليه وسلم، فركل القبر برجله وقال: "قُم يا أبا يعلى فإن الأمر الذي قاتلتنا عليه صار إلينا وراثة"، وهي رواية حتى لو فرضنا كذبها، وفرضنا كذب رواية ما قاله أبو سفيان في مجلسه، فإن الثابت تاريخياً في مصادر موثوقة أن عثمان نفسه كان يعلم بدخائل كبار قريش وسادتها، حتى أنه طرد أبا سفيان، عندما جاءه محتفلاً بتوليته خليفة، ومعتبراً أن ذلك انتصار لبني أمية، وهو ما يوقع على عاتق عثمان رضي الله عنه مسئولية سياسية أكبر، لأنه لم يقمع تطلعات بني أمية للسلطة، ولم يقرب إليه كبار الصحابة بدلاً من أقاربه.


يظل أخطر ما فعله عثمان رضي الله عنه في هذا الصدد، هو موقفه من مروان بن الحكم أحد كبار سادات قريش، والذي نفاه الرسول صلى الله عليه وسلم هو ووالده إلى الطائف، لأنهما كانا يقلدان مشية النبي عليه الصلاة والسلام بشكل ساخر، ويروى أن النبي الكريم أسمى مروان (الوزغ ابن الوزغ)، أي البُرص ابن البُرص، وحتى لو لم تثبت تلك الرواية فالمؤكد أن مروان ظل منفياً بعد وفاة الرسول، طيلة عهدي أبي بكر وعمر، وعندما تولى عثمان الخلافة أعاده من منفاه، بل واتخذه حاملاً لأختامه، وهو قرار أثار غضب الكثيرين، لأنه لم يراعِ مشاعر وعواطف الذين ظلوا يكرهون رجلاً قام بأذية نبيهم الكريم، وهو ما راعاه أبو بكر وعمر طيلة بقائهما في الحكم.

في السياق نفسه يمكن أن نشير إلى غضب الكثيرين من الوالي الأموي سعيد بن العاص الذي يرى الدكتور طه حسين في كتابه (الفتنة الكبرى) أن أول بوادر الثورة على عثمان اندلعت من الكوفة بسبب تصريح لسعيد بن العاص قال فيه: "إن هذا السواد بستان قريش"، معتبراً أن قريش هي الأحق بجني خيرات الدولة التي وصلت في تلك الفترة إلى قمة غناها، ولا يمكن أيضاً أن نتجاهل أن خلافة عثمان هي التي شهدت زيادة نفوذ معاوية بن أبي سفيان، الذي كان عمر بن الخطاب قد قام بتحجيم نفوذه، حين قال له: "أكسروية يا معاوية؟"، حتى أن البعض مثل علي الوردي يرى أن معاوية نجح في تحويل الشام إلى العاصمة الحقيقية للخلافة، وأنه أصبح الخليفة الفعلي، بدليل أن كل من كان يتم نفيه من المدينة، كان يذهب إلى معاوية في الشام.

يخالف علي الوردي رأي القاضي ابن العربي في كتابه (العواصم من القواصم)، ورأي محب الدين الخطيب في حواشيه على كتاب ابن العربي، حول المتسبب الحقيقي في مقتل عثمان، حيث يرى الوردي خطأ المحاولات التوفيقية التي تعفي البعض من مسئولياتهم الواضحة عما ارتكبوه من أخطاء، مؤكداً أن مروان بن الحكم كان السبب الأكبر في مقتل عثمان، وأن ذلك ربما كان بإيعاز من معاوية، ومستشهداً على ذلك بتصرفات مروان المستفزة التي تثبتها كافة المصادر التاريخية الموثوقة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، أن عثمان حين لان للثائرين عليه، وخطب فيهم ذات مرة خطاباً تصالحياً، مهدئاً للنفوس الغاضبة والعواطف الثائرة بكلام من نوعية: "إذا نزلت فليأتني خياركم فلا تُرفع إليّ ظُلامة كشفتها، ولا تُعرض عليّ حاجة إلا قضيتها"، فجاءه مروان بن الحكم واتهمه بالجبن وقال له: "والله لإقامة على خطيئة تستغفر الله منها أجمل من توبة تُخوّف عليها"، ليس ذلك فحسب، فقد خرج مروان ليستفز الثائرين على عثمان قائلاً لهم: "ما شأنكم قد اجتمعتم كأنكم جئتم لنهب، شاهت الوجوه... جئتم تريدون أن تنزعوا ملكنا...ارجعوا إلى منازلكم فإنا والله ما نحن مغلوبون على ما في أيدينا"، بل وواصل تحديه المستفز للثوار مرة أخرى أمام عثمان نفسه قائلاً: "إن شئتم والله حكّمنا بيننا وبينكم السيف"، وهو ما استفز عثمان الذي وبّخه وكتب ميثاقاً للثائرين عليه يحقق مطالبهم، فهدأت الثورة عليه، لتعود مرة أخرى بقوة، بعد اكتشاف رسالة مع غلام مرسل إلى والي مصر تأمر بقتلهم، وقال لهم عثمان عندما رجعوا إليه محتجين إنه لم يكتب تلك الرسالة أبداً.

بالطبع يرى البعض في شخصية اليهودي الغامض عبد الله بن سبأ خير تفسير لتلك الرسالة الغامضة التي قامت بتفجير الأوضاع، حيث يتهمون أتباع عبد الله بن سبأ بتزوير تلك الرسالة، في حين يرى عباس العقاد وعلي الوردي وآخرين أن الذي قام بتزوير الرسالة هو مروان بن الحكم، فليس هناك من يجرؤ على ختم الرسالة بخاتم عثمان سوى مروان حامل أختام عثمان ومصدر ثقته، مشيرين إلى أن حامل الرسالة لم يكن يتخفى أثناء سفره، بل كان يماشي الثائرين على عثمان في طريقهم إلى مصر، وكأنه كان يتعمد أن يكشفوه، كما أن مروان هو الذي كان يقوم بتعصية عثمان على مطالب المعترضين عليه، وكان الذي منعه من خلع نفسه في إحدى المرات، كما كان أيضاً وراء إطلاق سهم أصاب شيخاً من الثائرين على عثمان، ثم ألقى عليه حجراً ليموت، ويؤدي ذلك إلى إشعال ثائرة الغاضبين أكثر وأقوى، وبعد ذلك كله كان مروان هو الذي خرج مع نفر من بني أمية بحجة محاربة الثائرين، بينما كان يعطيهم فرصة للدخول إلى الدار ليقوموا بقتل عثمان، حتى أن علي بن أبي طالب عندما لطم ابنيه الحسن والحسين عليهما السلام الذين كانا يحرسان دار عثمان، غضباً منهما لتقصيرهما في حمايته، قالا له: "لولا دفع مروان ما قُتِل عثمان".

ولم يكن وراء ذلك الحرص على أن يُقتل عثمان على يد الثائرين عليه، إلا تعبيراً عن رغبة سادات قريش وكبرائها في اتخاذ مقتل عثمان وسيلة كبرى للوصول إلى هدف استعادة الملك كاملاً، خاصة بعد أن أظهر عثمان رضي الله عنه تراجعاً أمام الثائرين عليه وتفهماً لمطالبهم، كان سيعقبه بالتأكيد تغييرات سياسية واسعة، لم تكن ليرضى عنها بنو أمية، وهو ما يمكن أن نجد مصداقاً له في الطريقة التي تم التعامل بها مع قميص عثمان الذي قُتِل فيه، وأصابع زوجته التي قُطِعت بوحشية، حيث تم إرسالهما على الفور إلى معاوية في الشام، ليقوم معاوية بنشر قميص عثمان على المنبر، فيكون ذلك المشهد الدرامي المؤثر أول خطوة سياسية فعلية في طريق تاسيس دولة بني أمية، التي بنيت فعلياً على دماء عثمان رضي الله عنه، الذي راح ضحية لأقاربه، ليسطر بدمائه أول صفحة في كتاب الفتن والأحزان، الذي ما زال المسلمون يضيفون إليه صفحات جديدة حتى الآن.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.