في السجلّ المدني

في السجلّ المدني

12 ديسمبر 2018
+ الخط -
يحاول المصري الحصيف تجنب التعامل مع الجهات الحكومية ما استطاع إلى ذلك سبيلا. عقيدة تتناقلها الأجيال، وترسخها التجارب، ولا تفلح بعض الاستثناءات المضيئة سوى في تأكيد القاعدة لا نفيها.

والحقيقة أن المصالح الحكومية عندنا تتفق كلها في القدرة على إدهاشك وصدمتك، بل بعثك من جديد في صورة إنسان أنضج وأفهم لمركزك وقدرك الضئيل في الحياة. لكنها للحق تتفاوت في درجات القسوة والسخونة التي تنتهجها معك، لتصل لدرجة النضج المطلوبة تلك.

وظني أن السجلّ المدني هو درّة تاج مصالحنا الحكومية، وجرّار قاطرة تربية الشعب فيها. وتفسير ذلك في نظري هو كونه الجهة التي يفترض أنها تخدم المواطنين كافة. أو للحق هي التي "يخدمها" كافة المواطنين و"يبوسون إيديها"، في سبيل استخراج البطاقات وشهادات الميلاد والوفاة، وكل ما يثبت وجودهم على الكوكب أو ينفيه. وعليه، فلا غرو أن تكون تجاربنا فيها من الثراء، لدرجة تجعلني أرشح مشاوير السجل المدني لطلبة الاجتماع وعلم النفس الاجتماعي كحقول دراسة مفتوحة. فهناك والله كنز من الحالات "cases" المؤهلة لدرجات الدكتوراه بلا أدنى مبالغة.

انظر هنا مثلاً..
تدخل المبنى ذا الحجرات والصالات الضيقة المكتظة بالبشر من كل الأعمار والفئات والطبقات، فتسأل عن طلبك بعض الواقفين، فيجيبك كلٌ بإجابة مختلفة، فلا تجد بُدّاً من المغامرة بالاقتراب الحذر من الموظفة الجالسة إلى أقرب شباك تمكّنك لياقتك من الوصول إليه. وهناك تستقر الآلهة الممتلئة الجسيمة التي اختارتها يد القدر لإصلاحك وتهذيبك. تقترب وتلقي بتحية الصباح على استحياء، وتسأل بصوت خفيض عما تريد، فلا تلتفت لك ولا تجيبك. فتظن أنها لم تسمعك، وتحاول إعادة السؤال بتردد أعلى قليلاً، فتفاجئك بزأرة تليق بالسِباع وهي تضرب سطح المكتب أمامها بقبضتها صائحة:


- هي فين نِسِيبَة عبد الهادي دي؟ (بمثل هذا التشكيل).

يلفحك الزئير المفاجئ فيعجزك عن التنفس لوهلة، ثم تلتفت أنت وزملاؤك من المواطنين المكدسين أمامها في القاعة، للبحث عن الفتاة الغلبانة المطلوبة للإعدام غالباً، فلا يرد أحد في البداية، ثم يتناهى للجمع صوت خفيض لمراهقة صغيرة البنية ضعيفة المشية، يأتي من آخر المكان مصححاً بكل أدب:

-"نُسَيْبَة" عبد الهادي إبراهيم..

ولا أدري هل كانت المسكينة ستحرص على تصحيح نطق اسمها لو علمت ما سيسببه ذلك من ضيق للموظفة الآلهة، فيتكدر مزاجها المتكدر أصلاً، وترفع عيناً وحاجباً واحداً في نظرة استنكار مرعبة، ثم ترد:

- إيه.. مين بيتكلم.. بتقول إيه.. فين نِسِيبة؟

فتعيد الفتاة الصغيرة تصحيح نطق اسمها بمنتهى السذاجة، لترفع الموظفة رأسها لأعلى ملقية السمع أكثر ومدركة أن الصوت لفتاة صغيرة، صيد سهل إذن، فتنظر جهة الصوت، وتصرخ في زأرة جديدة:

- نعم ياختي! نُسَيْبَة ولا نِسِيبة أنا مالي! بقالي خمس أدوار بنادي "نِسِيبة" ما بترديش.. ها.. ما بترديش ليه إن شاء الله؟

وتقوم من عرشها الخشبي "نصف قومة" وعيناها تقطران شرراً..

فتتمتم الفتاة بذعر بشيء لا نسمعه، لكن يبدو أن الموظفة اعتبرت مجرد قدرتها على فتح فمها نوعاً من المقاوحة وقلة الأدب الفظيعة، فتبتسم كمن وقع الصيد في شبكته أخيراً، وتعود لتجلس على الكرسيّ كاملة، وتنظر للفتاة بتهكم، وتقول بأعلى حسّ:

- لاااااااا.. خلاص.. ارجعي استريَحي يا "نصيبة" مترح ما كنتِ. حتستني معانا خمس أدوار كمان يا "نصيبة" عشان تبقي تسمعي اسمك كويس.

والمثير في مواقف كتلك يتعدى الفكاهة العابرة، والسخط المحتم، ليجعلك جزءاً من حالة اجتماعية تستحق التأمل فعلاً. فمتابعة ردود فعل الناس - والواحد منهم - على حالة انفلات وإساءة وتعدٍ على الآخرين من الموظفة، تمثل دروساً عملية عما نقرأه بشغف في تجارب السوسيو-سيكولوجي وسلوك الحشود وما إليهما. إذ يندهش المرء من توافق الأغلبية الكاسحة من الحضور على الخضوع لمثل هذه السلطة، والتغاضي عن الحق في معاملة آدمية محترمة، وغياب فكرة أن الموظف دوره خدمة هؤلاء لا التسلط عليهم، ثم مقاومة أي غضب مضادّ قد ينفلت من أحد الوقوف تجاه ما يحدث، إذ تعتبره الأغلبية ساعتها أحمق سيتسبب في تعطيل مصلحته وتعطيل مصالحهم بالضرورة، وقد يناله بعض اللوم المصحوب بنظرات البؤس المركّزة التي تقول ضمنياً: إرحمنا من البطولة الكاذبة واسكت بالله عليك.

والغالب أن الشخص "الحِمَقي" المدافع عن المظاليم ينزل على رغبة الجموع ويتراجع تغليباً للمصلحة العامة. أما إذا كان من النوع السخيف الذي يستمرئ المجادلة وإغضاب الأسياد ولا يلقي بالاً للتبعات، فذلك تفرز له الجماهير من وسطها "بطلاً حقيقياً" آخر، هو ذلك الملاك المخلص بحق، العبقري الذي يتقدم الخناقة ساعتها، ويرفع صوته فوق صوت أخينا الحِمقي ويخفيه وراءه، ثم يتوجه بوجهه كلياً للموظفة الإله قائلاً:

والله يا أستاذة تهاني إنتِ بس تلاقيك شربت قهوتك باردة. قهوة مظبوط هنا بسرعة يابني عشان نشوف ضحكة القمر!

فتشرئب رقبة الموظفة، وتكتم ابتسامة تشي بظهور قريب للقمر، فيما ينهزم المزغود الذي كان يناطح الجبل الأشم، وتسحقه الحشود، وتبعده عن وش القمر الساعة دي عشان نخلص!

دلالات

6FDFDD52-19D3-452D-B4D5-4BCBF97AF6F3
أماني عيّاد

مدونة مصرية حاصلة على بكالوريوس علوم تخصص كيمياء، وبعدها "ليسانس" آداب لغة إنجليزية، من جامعة الإسكندرية حيث تقيم. عملت بالترجمة لفترة في الولايات المتحدة.

مدونات أخرى