كيف انتصرت الفبركة؟ ولماذا ستظل تنتصر؟ (1 - 2)

كيف انتصرت الفبركة؟ ولماذا ستظل تنتصر؟ (1 - 2)

06 نوفمبر 2018
+ الخط -
من الآخر، انسوا أي أمل في التغلب على مشكلة الأخبار المفبركة على وسائل التواصل الاجتماعي، لأن الأكاذيب والأخبار المفبركة ستظل أكثر توغلاً وانتشاراً من الأخبار الدقيقة والصحيحة.

هذه هي الحقيقة المرة التي تواجهنا بها أول وأكبر دراسة علمية عن انتشار الأخبار المفبركة على الإنترنت، ظهرت نتائجها مؤخراً، وقرأت لها عرضاً وافياً كتبه روبنسون ماير في مجلة (ذي أتلانتيك) الأمريكية، بدأه بالإشارة إلى عبارة شهيرة للروائي جوناثان سويفت تقول: "الأكذوبة تطير، وتأتي بعدها الحقيقة وهي تعرج"، والتي كانت حين كتبها سويفت قبل ثلاثة قرون تعتبر إمعاناً في المبالغة، لكنها تعتبر الآن وصفاً واقعياً لما يحدث في وسائل التواصل الاجتماعي اليوم، من أمريكا إلى البرازيل، ومن بودابست إلى كفر الزيات.

قامت الدراسة التي أجريت في معهد ماساتشوسيتس للتكنولوجيا المرموق، بتحليل أكثر من 126 ألف قصة خبرية تم نشرها عبر تويتر منذ ظهر إلى النور، وقام بتداولها أكثر من 3 ملايين مستخدم على مدى أكثر من 10 سنوات، لتتوصل الدراسة إلى أن الحقيقة لا يمكن أن تقوى على منافسة الأكاذيب والشائعات على شبكات التواصل الاجتماعي، حيث أثبتت الدراسة عبر كافة مقاييسها أن الأخبار المزيفة والشائعات الكاذبة اخترقت الشبكات الاجتماعية بقوة أكبر من الأخبار الحقيقية، ووصلت إلى عدد أكبر من الناس، وانتشرت بسرعة أكبر من القصص الدقيقة.

يقول المتخصص في دراسة البيانات سوروش فوساجي الذي قاد فريق العمل في الدراسة منذ عام 2013، إن انتشار المعلومات الخاطئة وتفوقها على المعلومات الحقيقية، له علاقة بالطبيعة البشرية قبل أي شيء آخر، التي تفضل أن تصدق ما تميل إليه، بغض النظر عن مصداقيته، وهو ما جعل نتائج الدراسة مثيرة لاهتمام عدد من علماء الاجتماع، ودفع أكثر من 16 عالماً في السياسة والقانون والاجتماع إلى كتابة مقال مشترك تم نشره في مجلة (ساينس) يطالب بالتعاون من أجل إعادة تصميم النظام الإعلامي في القرن والواحد والعشرين، ويدعو إلى إطلاق حملة جديدة من الدراسات متعددة الجوانب للحد من انتشار الأخبار المزيفة ومعالجة الأمراض الكامنة التي كشفها هذا الانتشار المفزع لها، والذي لم يتم تسليط الأضواء عليه بشكل كبير إلا بعد نتائج الإنتخابات الرئاسية الأمريكية التي أوصلت الأحمق المتعصب دونالد ترامب إلى الرئاسة، وكشفت عن دور الأخبار المفبركة والشائعات في تدعيم تأثيره على الناخبين البيض الغاضبين والمحتقنين، والذين يوجد بينهم من ينطلق غضبه من أسباب اجتماعية واقتصادية، وبينهم من يعتمد غضبه على أفكار عنصرية ومتعصبة.


بصراحة موجعة، تعتقد الدراسة أنه لن يكون من السهل إنشاء نظام صحي لنشر الأخبار عبر الإنترنت، يسعى لتقييم الحقائق وتعزيزها، ومع أنها قامت بالتركيز على موقع تويتر فقط، واستخدمت بيانات حصرية وفرتها إدارة تويتر لفريق الدراسة، إلا أن نتائج الدراسة تظل مهمة لتحليل أداء موقع فيس بوك وموقع يوتيوب، وباقي الشبكات الاجتماعية الرئيسية. ترى الدراسة إن أي منصة للتواصل الاجتماعي تعتمد في نجاحها بالضرورة على تضخيم المحتوى الاستفزازي أو الجذاب، ولذلك ينطوي عملها بداخله على خطر تضخيم الأخبار المزورة، حيث تصل القصة الخاطئة والمفبركة إلى 1500 شخص بمعدل ستة أضعاف أكثر من وصول القصة الحقيقية، ويزداد خطر ذلك التأثير حين نعرف أن الأخبار المزيفة والمفبركة في المجال السياسي هي الأكثر تفضيلاً لدى مستخدمي مواقع التواصل الاجتماعي، ومع أن الأخبار المفبركة تنتصر على الأخبار الحقيقية في كافة الموضوعات: البيزنس والإرهاب والحروب والعلوم والتكنولوجيا والترفيه، لكن يبقى للخبر السياسي المفبرك سحره الخاص على مستخدمي شبكات التواصل الاجتماعي.

ومع أن الروبوتات التي تدير انتشار الأخبار على تويتر قامت خلال الفترة التي درستها الدراسة ـ من عام 2006 إلى عام 2016 ـ بتضخيم انتشار بعض الأخبار السياسية الحقيقية بقدر ما قامت بتضخيم القصص المفبركة، إلا أن مستخدمي تويتر ظلوا يفضلون مشاركة الأكاذيب، دون أن يفرق مع أغلبهم ما إذا كان الخبر المفبرك قادماً من حساب له متابعون كثيرون أم متابعون محدودون، أو ما إذا كان حساباً موثقاً أو مجهولاً، ففي كل الأحوال ظلت الأكاذيب أكثر عرضة بنسبة 70 في المائة لإعادة التغريد من الأخبار الدقيقة، وهو ما لا يمكننا من إلقاء اللوم على الروبوتات أو الخوارزميات التي تدير عمل موقع التواصل الاجتماعي، وتبرئة المستخدمين لتلك المواقع من مسئوليتهم عن انتشار كل هذه الأكاذيب، التي يستعصي بعضها على التصديق.

تذكرت وأنا أقرأ نتائج الدراسة المؤسفة، ما فعله أحد الأساتذة الذين أعتز بهم، وكنت أثق دائماً في رجاحة عقله ونقاء نفسه، حين قام بعد أيام من مذبحة رابعة بإعادة نشر أخبار مفبركة تزعم اكتشاف ممارسات جهاد النكاح في ميدان رابعة، وتحضير بعض الجثث الجاهزة لاتهام نظام السيسي بها، وهي فبركات ظلت الصفحات التابعة للأجهزة الأمنية تعيد تدويرها على الفيس بوك وتويتر، دون أن يتم التحقق منها أو نشرها في أي موقع له سمعة مهنية من المواقع المعارضة لنظام الإخوان، ومع ذلك لم يجد أستاذنا المعروف بعقله النقدي مشكلة في إعادة نشرها، برغم أن أبسط نظرة إلى الموقع الذي قام بالاستناد عليه، كانت ستجعله يخجل من نفسه ويعتذر عما فعله، وهو ما يمكن تفسيره في ضوء هذه الدراسة، بأن أستاذنا سامحه الله لم يكن أصلاً على استعداد للتحقق من مصداقية ما نشره، فقد كان بفعل ما يملأ صدره من كراهية ـ لها أسبابها بالتأكيد ـ يرغب في نشر تلك الأخبار دون أن يتأكد من مصدرها، لكي يسكت بذلك النشر أصواتاً ربما كانت تدور بعقله، خصوصاً حين كان يقرأ لبعض أصدقائه الذين كانوا يدينون مذبحة رابعة وينتقدها، ولذلك فهو لم يقم بنشر تلك الأخبار المفبركة لكي يعلم الآخرين بها ويقنعهم بمضمونها، ولكن لكي يريح نفسه بنشرها، ويثبت لنفسه بذلك النشر أنه محق في تأييد المذبحة، وهو ما ستجد شبيهاً له لدى أصدقاء محترمين تعلم انتماءهم لتيارات الشعارات الإسلامية أو تعاطفهم معها، وترى كيف يتورطون في نشر إشاعات وأخبار مفبركة تطلقها صفحات "إسلامجية" أو معارضة لنظام السيسي، دون أن يسعوا للتأكد مما ينشرونه، بنفس الطريقة التي كانوا يطالبون بها بالتأكد من كل ما ينشر عن محمد مرسي خلال فترة حكمه.


برغم حصول الدراسة على إشادات العديد من علماء السياسة والاجتماع، إلا أن البعض اختلف معها في عدة نقاط من بينها تعريف الدراسة للأخبار، فليس كل ما رصدته الدراسة بكونه من (الأخبار) ينطبق عليه التعريف العلمي للأخبار، ومع ذلك تبقى أهمية الدراسة أنها لم تكتفِ مثل دراسات سابقة بالتركيز على انتشار أخبار كاذبة حول حدث بعينه، مثل الدراسات التي نشرت الشائعات التي أعقبت زلزال هاييتي المدمر في عام 2010، بل لأنها درست تقريباً عمر موقع تويتر، وكل الأخبار المثيرة للجدل التي انتشرت عبره من سبتمبر 2006 إلى ديسمبر 2016.

بحكم وجود معهد "إم آي تي" المرموق في مدينة بوسطن، تأثر فريق الدراسة بالتجربة الشخصية التي عايشوها حين ضرب الإرهاب مدينة بوسطن خلال ماراثون بوسطن في 15 ابريل 2013، بعد أن قام إرهابيان شقيقان بتفجير قنبلتين قرب خط نهاية الماراثون، ليسفر ذلك عن مقتل ثلاثة أشخاص وإصابة مئات آخرين، وقبل أن تتكشف خيوط الحادث وطبيعة مرتكبيه، استولت نظريات المؤامرة والأخبار المفبركة على تويتر وغيره من مواقع التواصل الاجتماعي، وازدادت فوضى المعلومات في يوم 19 ابريل بالذات، بعد أن طالب حاكم ولاية ماساشوستس التي تقع فيها المدينة، الملايين من سكان الولاية بأن يبقوا في منازلهم، خلال إجراء الشرطة لعمليات مطاردة ضخمة للمتهمين بالتورط في العملية الإرهابية.

يقول ديب روي أستاذ الإعلام في معهد "إم آي تي" والمشارك في الدراسة، إنه عرف من خلال تلك التجربة كيف يمكن أن تكون الأخبار المفبركة مؤثرة للغاية على حياة الفرد، كان روي محبوساً مع زوجته وأطفاله في منزله في بلمونت لمدة يومين، بينما كان زميله سوروش محبوساً في كامبردج، حيث كان تويتر شريان الوصول للعالم الخارجي لهما ولملايين مثلهما، ليعرفا من خلاله الكثير من "الأخبار" التي تبين أنها كاذبة، والكثير من الأخبار التي تبين أنها حقيقية.

ساعدت التجربة فريق الدراسة على تطوير المنظومة التي يمكن وصفها بأنها (آلة الحقيقة) التي تقوم بفرز وتصنيف سيل التغريدات المنتشرة على تويتر، والتي كانت تركز على ثلاثة جوانب رئيسية في كل تغريدة: طبيعة من كتبها، وهل تم التحققق من شخصه أو طبيعته؟ ونوع اللغة التي استخدمت في كتابة التغريدة، هل كانت لغة مركبة أم بسيطة؟ وكيف تم انتشار التغريدة عبر الموقع. وحين انضم إلى فريق العمل سينان آرال أستاذ الإدارة في معهد "إم آي تي"، واصلت الدراسة تتبع خريطة تحرك الأكاذيب عبر تويتر، ليصل فريق العمل بعد رحلة بحث مضنية إلى فرز أكثر من 126 ألف تغريدة كاذبة، تم إعادة تغريدها أكثر من 4 ملايين ونصف مرة، بعضها مرتبطة بأخبار مفبركة تم نشرها في مواقع إنترنت أخرى، ليكتشف فريق العمل آليات عمل التغريدات الكاذبة وقدرتها على اكتساب عدد أكبر من إعادات التغريد مقارنة بالأخبار الدقيقة.

من النتائج المهمة التي توصل إليها فريق الدراسة أن نشر الأخبار الكاذبة طالما توافق مع ما يعتقده مستخدم تويتر، ليس مرتبطاً بالانتماء إلى اتجاه سياسي بعينه، محافظ أو ليبرالي أو غير ذلك، فالكثيرون يفعلونه حين يرونه متماشياً مع انحيازاتهم. خذ عندك مثلاً ما حدث في الانتخابات الرئاسية الأمريكية الأخيرة، حيث انتشرت شائعة في أغسطس 2015 أن دونالد ترامب الذي كان قد أعلن ترشيحه للرئاسة، سمح لطفل مريض باستخدام طائرته للحصول على رعاية طبية عاجلة، ومع أن خدمة (سنوبس) للتحقق من الأخبار أكدت الخبر، إلا أن عدد من شاركوه أو أعادوا تغريده لم يتجاوز 1300 شخص.

في الوقت نفسه حين ظهرت في فبراير 2016 شائعة تدعي أن أكبر أبناء عمومة ترامب توفي مؤخراً، وأنه قبل أن يتوفى قرر أن يقدم في نعيه رسالة معارضة لترشيح ترامب للرئاسة، قائلاً للأمريكيين في نعيه لنفسه: لأنني فخور باسم عائلة ترامب، أناشدكم جميعاً ألا تدعوا كيس المخاط المتحرك هذا يصبح رئيساً"، ومع أن خدمة (سنوبس) حين قامت بالتحقق من الخبر، لم تجد النعي المزعوم في أي مكان، ولم تجد أي دليل على صحة القصة، واعتبرتها كاذبة، فقد قام ما يقرب من 38 ألف مستخدم لتويتر بمشاركة القصة، فضلاً عن إعادة تغريدها لآلاف المرات، وهو ما حصل أيضاً لقصة زائفة أخرى زعمت أن الملاكم فلويد مايويذر ارتدى حجاباً في أحد تجمعات ترامب الانتخابية، وقد انتشرت أيضاً أضعاف انتشار قصة الطفل المريض والطائرة، وهو ما أثبت أن رغبة الناس في فوز مرشحهم أو هزيمة المرشح الذي يكرهونه، يجعلهم يلجأون لنشر أي شيء يحقق تلك الرغبة، دون بذل أي مجهود في التحقق مما ينشرونه، وهو ما ستجده يحدث لدى أغلب المنتمين للتيارات المتصارعة في عالمنا العربي، أياً كانت الشعارات الدينية والوطنية والثورية التي يرفعونها ويدعون إليها.

نكمل استعراض نتائج الدراسة غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.