صرخات مستعادة على هامش المذبحة

صرخات مستعادة على هامش المذبحة

05 نوفمبر 2018
+ الخط -
هل هناك جديد يمكن أن يُقال بعد المذبحة الأخيرة التي راح ضحيتها مواطنون مسيحيون في صعيد مصر؟ هل أجدى الكلام الذي قيل من قبل عقب المذابح السابقة التي راح ضحيتها مواطنون مسيحيون في شتى أنحاء مصر؟ أنا وأنت نعلم أن الإجابة الصادقة هي: لا، لكننا نعلم أيضاً خطورة الصمت الكامل على هذه المذابح، لأن تجاهل المذابح والتقليل من أثرها، لا يحبط مساعي الإرهابيين في زعزعة الاستقرار كما تزعم سلطة السيسي ودلاديلها، بل يساهم للأسف في تطبيع المذابح وتحويلها إلى خبر اعتيادي لا ينبغي أن يغضب أحداً، لكن ذلك أيضاً لا يعني أن نعبّر عن حزننا وغضبنا، بما يشبه البيانات الإنشائية المخصية التي تعلنها السلطة، فنردد كلاماً يلبس الحق بالباطل، ويساهم في تضليل الحقائق، فنواصل بذلك تكريس الأوضاع الإجرامية التي ستخلق المذبحة القادمة والتي تليها.

أعترف بأنني لا أملك جديداً يمكن أن أقوله، لكنني أملك التذكير بما سبق أن قلته عقب أكبر مذبحة صدمت الرأي العام في السنوات الأخيرة، وكان يجب أن يتغير بعدها كل شيء في ما يتعلق بتعاملنا مع كل شيء، لا فقط مع ما كان يريحنا أن نسميه اختزالاً: (ملف الفتنة الطائفية والوحدة الوطنية). أتحدث عن مذبحة كنيسة القديسين في الإسكندرية التي وقعت في ليلة رأس سنة 2011، ولا يزال ما حدث فيها لغزاً لم يتم الكشف عن حقيقته حتى الآن، برغم صدور حكم قضائي قبل عامين يلزم وزارة الداخلية بتقديم التحريات والتحقيقات التي دارت في القضية إلى نيابة أمن الدولة العليا، وهو ما لم يحدث حتى الآن، لأسباب لا تخفى على فطنتك.

على أيّ حال، سأترك لك الآن ما نشرته في عمودي اليومي بصحيفة المصري اليوم في تلك الأيام التعيسة، التي كنت فيها كغيري منفعلاً بألم المذبحة الرهيبة، لترى هل ما زال صالحاً للنشر، وتختلف أو تتفق معه، وسأبدأ بما كتبته بتاريخ 3 يناير 2011 بعنوان (صرخة على هامش المجزرة)، وقد قلت فيه الآتي:


"توقفوا عن اللعب بالألفاظ، توقفوا عن الضحك على الذقون، توقفوا عن الكذب.
كم عدد الضحايا اللازم لكي تكونوا على قدر المسؤولية وتدركوا أننا أمام مسألة حياة أو موت لهذه البلاد، ولن تزيدها تصريحاتكم البلاغية إلا عكّاً وتعقيداً. لا تكذبوا على أنفسكم وعلينا بكلامكم الكبير، فمجزرة الإسكندرية كانت موجهة إلى المسيحيين المصريين، ولا تتصوروا أنكم عندما تطلقون تصريحات طنانة رنانة ستخفون تلك الحقيقة المرة، لا تتحججوا بوجود مسجد مواجه للكنيسة لتدّعوا أن المجزرة كانت تستهدف المسلمين والمسيحيين، فأنتم تعلمون أنه لا توجد كنيسة في مصر كلها غير محاطة بمسجد وأكثر، صارحوا أنفسكم بالحقيقة، ولو لمرّة لكي لا تغرق هذه البلاد بنا جميعاً.

كنت قد كتبت من قبل عن دور "اليد الثالثة" في إشعال الفتنة الطائفية في مصر، لكنني أعتقد أن هذه المجزرة أياً كان المستفيد منها أو المخطط لها أو الممول لها، نفّذها على الأغلب شاب يائس يظن أنه يتقرب إلى الله، يريد أن يدخل الجنة لأنه على مدى أشهر متواصلة تعرض لشحن مهول من عشرات الجهات والشخصيات المسلمة والمسيحية كل على طريقته، أصوات تحدثه عن ضرورة التحرك لإنقاذ الأسيرات في الكنائس، وأصوات تدعي أن الكنائس مليئة بأسلحة مهربة من إسرائيل دون أن يتحرك أحد لمحاسبتها، وأصوات تدعي أن المسلمين ضيوف على مصر وأن القرآن محرف، دون أن يتحرك أحد لمحاسبتها ويجبرها على الاعتذار، وأصوات تتحدث في ميكروفونات المساجد عياناً بياناً عن تحريف الإنجيل ومؤامرات التنصير وتستصرخ الشباب لنصرة الإسلام، كل هذا الخليط من الأصوات المتطرفة كان هو الوقود الذي فجّر القنبلة.

أما مكونات القنبلة فلم تكن مسامير ولا باروداً، بل كانت تعليماً منحطاً، وثقافة مشوشة، وتديناً منقوصاً، ووطنية مهزومة، وسلطة مختلّة الأولويات، ونفوساً ضائعة مكبوتة الشهوة مقموعة الأحلام منعدمة الخيال. لم يرتكب الجريمة شاب وحيد أو ثلاثة أو أربعة، بل ارتكبها تشكيل عصابي يتزعمه ساسة انشغلوا بمصالحهم الضيقة وكراسيّهم ومستقبل أبنائهم، ولذلك سمحوا باستخدام الدين في لعبة السياسة، وتركوا الكنيسة تتحول إلى دولة للمسيحيين، وسمحوا للمتطرفين المسلمين بأن يعيثوا في مصر جهلاً وتطرفاً، قتلوا السياسة خوفاً على كراسيّهم فهرب الناس إلى الدين، احتكروا مباهج الدنيا فلاذ الناس بأحلام الخلاص في الآخرة، كَرّهوا الناس في الوطن فبدأوا يهتفون باسم الصليب تارة وباسم القرآن تارة أخرى.

الأخطر من المجزرة هو ما تلاها، أعتقد أن المتآمرين أنفسهم ربما اندهشوا مما حدث، لأن ما حلموا به جاء أسرع مما توقعوه، لعلهم قبل حدوث المجزرة تحسّبوا أنها ربما أدت إلى عكس هدفها، ليبادر المسلمون والمسيحيون فور وقوع المجزرة ليتحدوا صفاً واحداً، وينقذوا بلادهم من الضياع، لكنهم ربما لم يتوقعوا أننا لم نعد شركاء في الوطن بقدر ما بتنا شركاء في التخلف، لعلهم اندهشوا وهم يرون كيف جرى المسيحيون الغاضبون إلى المسجد المجاور لينفسوا برعونة عن غضبهم وإحباطهم، لعلهم لم يصدقوا كيف تحول الأمر بسرعة مذهلة إلى معركة بين المسيحيين وقوات الأمن المرتبكة والمسلمين الذين جروا بالشوم لكي يحموا المسجد، كل هذا قبل أن تجف الدماء التي سالت على الأسفلت.

ما أسهل أن نكذب على أنفسنا، ما أسهل أن ندعي أن كل شيء على ما يرام، ما أسهل أن نستسلم لراحة البلاغة الرسمية وخَدَر الشعارات الشعبية، ما أسهل أن ينشَكِح المسؤولون لأن كل واحد منهم طَلَع في نشرة الأخبار، وضرب عياري استنكار وعاد إلى قصره المنيف مستريحاً، لكن ما أصعب أن نتحمل مرارة تنظيف الجراح الملوثة المتعفنة، ما أصعب أن نواجه أنفسنا بالحقيقة المرّة أننا لم نعد كما كُنّا، وأن التطرف نخر في البنية التحتية للمجتمع المصري، وأن مواجهته أصبحت مسألة حياة أو موت، وأن خلاصنا الوحيد في التغيير، تغيير أفكارنا المتعصبة ومفاهيمنا البائسة للكون والحياة، والأهم من ذلك كله تغيير ساستنا الفشلة.

رحم الله شهداء الإسكندرية، ويابخت المستبدين بالإرهابيين، ولا خلاص لمصر إلا بالخلاص من الاثنين".

بعدها بيومين، وبتاريخ 5 يناير 2011 وتحت عنوان (امشوا يرحمكم الله) كتبت مقالاً آخر يجمع بين الغضب والانفعال، وبين الرغبة الحالمة في تصور حل ما ينهي تلك المذابح والهزائم، وربما تكون السنوات الماضية بكل ما جرى فيها من جرائم ومهازل، قد تجاوزت ذلك الحل الذي حلمت به، أو كشفت عن رومانسيته المفرطة، وربما لا يزال هو الحل العملي الوحيد الذي يقبل التفكير فيه والنقاش حوله أملاً في تحقيقه، ليس عندي إجابة قاطعة على ذلك، ولذلك سأترك لك الحكم والتعليق والمناقشة بعد أن تقرأ:

"من قال لحكومتنا التعيسة أن شيخ الأزهر والمفتي ووزير الأوقاف لديهم أصلاً مصداقية عالية وشعبية جارفة في أوساط المسلمين لكي تقرر أن يكونوا رؤوس حربتها في معركتها مع الفتنة الطائفية؟ لماذا لم تسأل القيادة السياسية أجهزتها الأمنية عن حجم شعبية هؤلاء المشايخ في أوساط المصريين المسلمين قبل أن تبعثهم ليتعرضوا للإهانة من شباب مسيحي طائش؟ هل تظن أنها يمكن أن تستفيد من هذه المكانات الدينية الرفيعة شيئا يُذكر سواء بين المسلمين أو المسيحيين بعد أن ورّطت أصحابها عبر السنين في السكوت على تزوير الانتخابات وانتهاك حقوق الإنسان والتطبيع مع الصهاينة وبيع كل شيء بالرخيص؟

الآن تذكرتم أن هناك مكاناً اسمه الأزهر لا بد أن تكون له مكانة وتأثير ودور؟ الآن تذكرتم أن الساحة يجب أن تخلو من أصوات المتطرفين الذين فتحتم لهم منابر المساجد والقنوات الفضائية على البهلي وجعلتموهم يُخصون قدرة الناس على التفكير والإبداع؟ الآن فقط تنتظرون نجدة من الأزهر ودار الإفتاء بعد أن أصبح أي شيخ يخطب في جامع بمنطقة عشوائية أكثر تأثيرا وانتشارا من كل مشايخ الأزهر ودار الإفتاء؟ الآن بعد أن حولتم شيوخ الأزهر إلى موظفين لا يمتلكون استقلالية ولا خيالاً، تنتظرون منهم أن يبعثوا "الدين الصحيح" في نفوس الشباب؟ هل تتوقعون أن الشباب الذي احتل التطرف فكره وعقله سيقشعر جسده من حديث الدكتور زقزوق الذي لا يبعث إلا على الرغبة في النوم؟

اتقوا الله في هذه البلاد، وجربوا سكة السلامة ولو لمرة واحدة. لقد فات الوقت على حلول المرحوم حسن الإمام يا سادة، فاحتضان الشيخ للقسيس كان مجدياً عندما كان عدونا واحداً، عندما كان عدونا خارجياً، أما الآن فبفضل سياساتكم الفاشلة المستبدة قصيرة النظر المتخبطة عبر عشرات السنين فقد صرنا أعداء لأنفسنا، لقد فعلتم بالمصريين ما لم تفعله بهم جيوش العدوان الثلاثي مجتمعة، كسرتم إرادتهم التي لم تنكسر أمام الأساطيل والطائرات والدبابات، هزمتم هذا الشعب من الداخل، جعلتموه شعباً يحتار فيه أطباء النفس وخبراء الاجتماع، وظننتم أن هناك استقراراً يمكن أن يحدث في ظل شعب جعلتموه بلا تعليم ولا ثقافة ولا خيال ولا إبداع.

إذا كان هناك حل يمكن أن نبدأ به ضمن حزمة حلول معقدة وطويلة المدى، فهو بالضرورة حل سياسي يمكن تلخيصه في كلمتين لا ثالث لهما: الدولة المدنية. ينبغي أن يكون الهدف القومي لمصر في المرحلة القادمة من أكبر رأس إلى أصغر رأس هو استعادة المصريين جميعا إلى حضن الدولة، نعم، الدولة، هذه الكلمة التي صارت ببركاتكم سيئة السمعة، نريد دولة لا يتحدث فيها قسيس باسم المسيحيين ولا يتحدث فيها شيخ باسم المسلمين، نريد دولة تتحدث باسم الجميع، دولة تكفل حرية العقيدة للجميع، دولة يكون بها قانون موحد لدور العبادة ويكون فيها المسجد مقدساً كالكنيسة، دون أن تجعله تلك القداسة مكاناً فوق طائلة القانون، دولة لا يكون فيها للمسيحي ولا للمسلم وكلاء يتحدثون باسمه أو يأتون له بحقه، دولة يسودها العدل الذي هو أساس الملك، وهي عبارة يبدو أنكم لم تسمعوا بها حتى في أيام المدرسة، دولة تمنع التمييز بين المصريين على أساس الدين أو الجنس أو اللون أو الثروة أو العِزوة، دولة تجعل الدين سلوكاً لا مظهراً، دولة تُعَلِّم أطفالها في كافة مناهج التعليم كيف يُحيون روح الدين، ولا تطبق سياسات تزهق روح الدين والدنيا معاً، وهي بالمناسبة دولة لن يصنعها أبداً محترفو انتخابات مزورة ولا أصحاب مصالح ضيقة ولا عديمو خيال ولا مهاويس سلطة، بل سيصنعها الشعب المصري إذا أراد الحياة، وإذا أدرك أنه يقف على آخر مفترق طرق، وأنه لن يحصل على جنة السماء إلا إذا حاول أولاً صنعها على الأرض. هذا الحل، أو حَلّ وِسطنا جميعا".

كان هذا ما سبق أن صرخت به على هامش مذبحة سابقة، وسأترك لك التعليق عليه والاختلاف معه والتفكير - ولو بينك وبين نفسك أو مع أصدقائك - في حلول أو سكك للحلول، المهم ألا تشارك في جعل ما وقع من مذابح اعتيادياً وطبيعياً، لعلنا نتمكن من منع المذابح القادمة أو نجعل حدوثها أصعب.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.