16 فبراير 2019
سَعْدُونْ بالخدمة يا خال!
سَعْدُونْ بالخدمة يا خال!
مصطفى الدروبي
كان سعدون الثلاثيني ممشوق القامة حاد البصر، عيناه كعيني عقاب، تجده مقبلاً على الحياة بفرح جسوراً لا يهاب الموت.. نصيراً لكل مظلوم وحليفاً لكل طالب حق حيث يَنْظُر إليه أبناء بلدته الرابضة على كتف الفرات بمهابة "كعكَيد" ومنقذ لكل مزنوق عند الغصّة والعصّة فما ظُلِمَ عامل من رئيسه إلا ووجدت سعدون الذي يهابه الجميع يعيد المظلمة إلى أهلها، أما من اسْتُلِب حقه من صاحب باطل فلن يحصل على حقه إلا عندما يعرض مشكلته على سعدون والذي يجده إن بحث عنه في مقهى أبو زيّان أو حانة قرياقوس فرج الله.. و"خسكار" سعدون بطحة عرق ومئتي غرام كباب عنتبلي عند جمعة القصاب ومن ثم يقوم بمهمته على أكمل وجه.
تجده طفلاً حنوناً أنيساً، ومطرباً شجياً حين يشدو بحزن موجع ساعة النشوة وكريماً كحاتمي أصيل وفارساً لحظة الجود لا يهاب الموت عندما يعبر الحدود ودمه على كفه مُعَتّلاً حملاً من "القَجَقْ" ورغم حلكة الليل كان يستهدي طريقه المرعب والمزروع بالألغام وكأنه يسير عبر الجي بي إس..
وأما عن غزواته الخاصة فكان سعدون يقوم بها عبر الحدود التركية حيث يتسلل خلسة ليغنم قطيعا من رؤوس الأغنام والماعز مستلاً إياها من حظائر كبار الملاكين الترك وجلبها لبلدته الواقعة على التخم الآخر من الحدود ويقوم بنحرها وتوزيع لحومها على الفقراء من الأرامل والأيتام وأصحاب الحاجة والفاقة.
أما قائمقام البلدة فقد حفظ سعدون عن ظهر قلب وافتقر لكل حيلة بتعامله معه من أجل إقناعه أن يصبح مواطناً "صالحاً" وعندما أعيته الحيلة قام بالتنسيق مع مدير منطقة كركميش التركية وطلب من سعدون الحضور اليومي أمام رئيس المخفر ليؤكد وجوده في البلدة، وفي كل مرة حين يسأله الناس ممازحين: شو سعدون وقّعت اليوم بالمخفر؟ فيرد ساخراً: يا صاحبي من وقّع وَقَعْ.. ثم يضحك مقهقهاً ليكمل: أذهب إلى المخفر قبل آذان المغرب بقليل ليروا حضرتنا وعند منتصف الليل أتسلل إلى كركميش وأعود آيباً قبل طلوع الفجر، وهم غارقون بكسلهم ونومهم العميق.
لقد ضاق حمدوش ذرعاً بأفعال خاله سعدون وأصبح يعاني من الحرج والعار كلما ذُكِرَ اسمه أمام الآخرين، فقرر أن يتخلّص من هذا الاسم الذي بات يطارده بأفعاله كشبح صبحة وعشيّة.
احتضن حمدوش ذقنه بكفّه اليمنى وأخذ يبحث عن الطريقة المثلى لتحقيق غرضه.. وبعد برهة قال: وجدتها .. وجدتها.
في اليوم التالي ذهب حمدوش لغرفة خاله البائسة الواقعة على أطراف البلدة وبعد التحية والسلام قال: يا خال "الك ولاّ للديب" فرد سعدون فَشر الديب يا خال.. خير يا حمدوش.. سعدون بالخدمة؟
قال حمدوش: يا خال اليوم اشتهيت أن أعزمك على "كاس" عند شط الفرات، فدهش سعدون مستغرباً: "وإيمتى" صرت تشرب حليب السباع يا روح خالك؟ .. فرد حمدوش ضاحكاً: ولو يا خال ثلثين الولد خالو.. فابتسم سعدون بزهو طفولي قائلاً: أكيد يا خال أكيد.
عند عصر ذلك اليوم كان كل شيء على ما يرام، كباب عنتبلي مع الموالح والسلطات مع بطحتين من عرق البطة وخضرة وماء نمير، وعندما تبادل الخال وابن اخته الأنخاب ودارت الخمرة بالرأس بدأ سعدون يدندن بأغنية شعبية يغنيها الكثير من أبناء البلدة في الأعراس: ("جريبيس" عز الوطن لا بد عليج انعود..) فلمعت عينا حمدوش منتشياً محدقاً بعينيّ خاله وكأنه ما زال عازماً على تنفيذ مهمته التي نوى عليها وعلى نحو صارم!
حينها كان سعدون يَنْفُذ إلى أعماق حمدوش وكأنه يقرأ بعينيه ما هو مخبوء في صدره وبما هو عازم على فعله، فقال له أرى أن بفمك كلام يا حمدوش؟ فرد حمدوش قائلاً: بلى يا خال بلى، فاسترسل بتدفق محموم بعد أن سحب مسدسه من على جنبه ووضعه قدّامه قائلاً: أنا لا أشرب الخمر كما تعلم يا خال ولست من معاقريه، لكنني عزمتك من أجل أن أصفّي حسابي معك هذا اليوم، حيث طفح الكيل وبات اسمك عار يطاردني فكلما كنت في مجلس ورغبت المشاركة بالحديث يرد الآخرين عليّ باستهزاء: اسكت.. أنت خالك سعدون المهبول!
فقلت في داخلتي عليّ أن أتخلص منك وأضع حداً للمذلة التي ترافقني كظلي، ثم ختم حديثه بزفرة حرّى: صحيح أني رقيق ولا أستطيع أن أدوس على نملة، لكنني عقدت العزم على قتلك حيث قلت بيني وبين نفسي: افعلها يا حمدوش، قوِّ قلبك واغمض عينيك وافعلها.. هي طلقة واحدة ثم تدفن بعدها عارك للأبد..
قهقه سعدون بصوت عال حتى فاضت عيناه بالدمع: أتريد أن تفعلها بخالك يا حمدوش؟! ردّ حمدوش: بلى يا خال لقد بلغ السيل الزبى..!
حينها قال سعدون: اسمع يا حمدوش: خالك ليس بمهبول وليس هو بمواطن عاق، بل من يجالسونك هم غير أسوياء، وعلى كل حال مهبول يحكي وعاقل يسمع.. إن قتلتني فسأبقى خالك وسيظلون يُذكّرونك بي ولن يدفن عارك الذي تدّعيه، عد لعقلك فالظّفْر لا يُقلع من اللحم وسأبقى خالك حيّاً كنت أو ميتاً.
هنا اغرورقت عينا حمدوش بالدمع واحمرتا من دهشة ما سمع فارتمى بين ذراعيّ خاله وأخذ ينتحب بحرقة..
تجده طفلاً حنوناً أنيساً، ومطرباً شجياً حين يشدو بحزن موجع ساعة النشوة وكريماً كحاتمي أصيل وفارساً لحظة الجود لا يهاب الموت عندما يعبر الحدود ودمه على كفه مُعَتّلاً حملاً من "القَجَقْ" ورغم حلكة الليل كان يستهدي طريقه المرعب والمزروع بالألغام وكأنه يسير عبر الجي بي إس..
وأما عن غزواته الخاصة فكان سعدون يقوم بها عبر الحدود التركية حيث يتسلل خلسة ليغنم قطيعا من رؤوس الأغنام والماعز مستلاً إياها من حظائر كبار الملاكين الترك وجلبها لبلدته الواقعة على التخم الآخر من الحدود ويقوم بنحرها وتوزيع لحومها على الفقراء من الأرامل والأيتام وأصحاب الحاجة والفاقة.
أما قائمقام البلدة فقد حفظ سعدون عن ظهر قلب وافتقر لكل حيلة بتعامله معه من أجل إقناعه أن يصبح مواطناً "صالحاً" وعندما أعيته الحيلة قام بالتنسيق مع مدير منطقة كركميش التركية وطلب من سعدون الحضور اليومي أمام رئيس المخفر ليؤكد وجوده في البلدة، وفي كل مرة حين يسأله الناس ممازحين: شو سعدون وقّعت اليوم بالمخفر؟ فيرد ساخراً: يا صاحبي من وقّع وَقَعْ.. ثم يضحك مقهقهاً ليكمل: أذهب إلى المخفر قبل آذان المغرب بقليل ليروا حضرتنا وعند منتصف الليل أتسلل إلى كركميش وأعود آيباً قبل طلوع الفجر، وهم غارقون بكسلهم ونومهم العميق.
لقد ضاق حمدوش ذرعاً بأفعال خاله سعدون وأصبح يعاني من الحرج والعار كلما ذُكِرَ اسمه أمام الآخرين، فقرر أن يتخلّص من هذا الاسم الذي بات يطارده بأفعاله كشبح صبحة وعشيّة.
احتضن حمدوش ذقنه بكفّه اليمنى وأخذ يبحث عن الطريقة المثلى لتحقيق غرضه.. وبعد برهة قال: وجدتها .. وجدتها.
في اليوم التالي ذهب حمدوش لغرفة خاله البائسة الواقعة على أطراف البلدة وبعد التحية والسلام قال: يا خال "الك ولاّ للديب" فرد سعدون فَشر الديب يا خال.. خير يا حمدوش.. سعدون بالخدمة؟
قال حمدوش: يا خال اليوم اشتهيت أن أعزمك على "كاس" عند شط الفرات، فدهش سعدون مستغرباً: "وإيمتى" صرت تشرب حليب السباع يا روح خالك؟ .. فرد حمدوش ضاحكاً: ولو يا خال ثلثين الولد خالو.. فابتسم سعدون بزهو طفولي قائلاً: أكيد يا خال أكيد.
عند عصر ذلك اليوم كان كل شيء على ما يرام، كباب عنتبلي مع الموالح والسلطات مع بطحتين من عرق البطة وخضرة وماء نمير، وعندما تبادل الخال وابن اخته الأنخاب ودارت الخمرة بالرأس بدأ سعدون يدندن بأغنية شعبية يغنيها الكثير من أبناء البلدة في الأعراس: ("جريبيس" عز الوطن لا بد عليج انعود..) فلمعت عينا حمدوش منتشياً محدقاً بعينيّ خاله وكأنه ما زال عازماً على تنفيذ مهمته التي نوى عليها وعلى نحو صارم!
حينها كان سعدون يَنْفُذ إلى أعماق حمدوش وكأنه يقرأ بعينيه ما هو مخبوء في صدره وبما هو عازم على فعله، فقال له أرى أن بفمك كلام يا حمدوش؟ فرد حمدوش قائلاً: بلى يا خال بلى، فاسترسل بتدفق محموم بعد أن سحب مسدسه من على جنبه ووضعه قدّامه قائلاً: أنا لا أشرب الخمر كما تعلم يا خال ولست من معاقريه، لكنني عزمتك من أجل أن أصفّي حسابي معك هذا اليوم، حيث طفح الكيل وبات اسمك عار يطاردني فكلما كنت في مجلس ورغبت المشاركة بالحديث يرد الآخرين عليّ باستهزاء: اسكت.. أنت خالك سعدون المهبول!
فقلت في داخلتي عليّ أن أتخلص منك وأضع حداً للمذلة التي ترافقني كظلي، ثم ختم حديثه بزفرة حرّى: صحيح أني رقيق ولا أستطيع أن أدوس على نملة، لكنني عقدت العزم على قتلك حيث قلت بيني وبين نفسي: افعلها يا حمدوش، قوِّ قلبك واغمض عينيك وافعلها.. هي طلقة واحدة ثم تدفن بعدها عارك للأبد..
قهقه سعدون بصوت عال حتى فاضت عيناه بالدمع: أتريد أن تفعلها بخالك يا حمدوش؟! ردّ حمدوش: بلى يا خال لقد بلغ السيل الزبى..!
حينها قال سعدون: اسمع يا حمدوش: خالك ليس بمهبول وليس هو بمواطن عاق، بل من يجالسونك هم غير أسوياء، وعلى كل حال مهبول يحكي وعاقل يسمع.. إن قتلتني فسأبقى خالك وسيظلون يُذكّرونك بي ولن يدفن عارك الذي تدّعيه، عد لعقلك فالظّفْر لا يُقلع من اللحم وسأبقى خالك حيّاً كنت أو ميتاً.
هنا اغرورقت عينا حمدوش بالدمع واحمرتا من دهشة ما سمع فارتمى بين ذراعيّ خاله وأخذ ينتحب بحرقة..
مصطفى الدروبي