إنسانة عادية ( 3 من 3)

إنسانة عادية ( 3 من 3)

04 نوفمبر 2018
+ الخط -

لم أصدِّق حين رأيت أخي بنفسه، يقف في استقبالي، حين خرجت من قسم الشرطة بعد إنهاء إجراءات الإفراج عني. لم يكن من الممكن أن ألومه، لأنه لم يستجب لمحاولتي احتضانه، ولم يقبل حتى أن يمد يده لمصافحتي، فقد تسببت له في مشاكل لم يعهدها من قبل، ومع ذلك كثّر ألف خيره، لأن الأخوة لم تَهُن عليه، فجاء لاستقبالي، بل وأصر على أن أعود للإقامة في بيت أبي الذي ظل مقيماً فيه وحده منذ وفاة والدنا. 


 

يعني، لعلك أصبحت من سياق حكايتي، تتوقع أن تلك "المجيّة" لم تكن لوجه الله والأخوّة، وتعرف أيضاً أنني لم أكتشف ذلك من أول لحظة، وأنني كعادتي تأثرت بتلك الحركة ولم أتوقع على الفور ما وراءها، لكن ماذا أقول؟ هل أنا معذورة لأن التمثيلية يتم حبكها كل مرة بتفصيلة غير متوقعة تجعلني أصدقها؟ يعني ربما لو كان أخي قد احتضنني فور أن رآني، أو سلم عليّ بحفاوة، وعاملني كأن شيئاً لم يكن، لشممت ما وراء الحكاية وشككت في أمره، أما أن يجمع لمدة أسبوع كامل بين تلبية طلباتي واحتياجاتي، وعدم الحديث معي أو الحفاوة بي، فهذا ما جعلني لا أشك في شيء وأتصور أنه قرر استقبالي واستضافتي، بدلاً من أن يسمح لي بالذهاب إلى شقة حدائق القبة مثلاً، ربما رغبة منه في لمّ فضائحي، وإبعاد ألسنة الأقارب والجيران عنه قبل أن يبعدها عني. 

طيب، هل تتصور أنه ظل طيلة الأسبوع الكامل يبلغني بكل ما يريد قوله عن طريق المحامي، حتى حين أقابله في الشقة فور عودته من العمل، لأوجه إليه أسئلة لا بد من الإجابة عليها، لم يكن يرد عليّ أبداً بل كان يتصل بالمحامي ويبلغه ردوده على أسئلتي، التي كان من أهمها: حتى متى سأستمر محبوسة في البيت؟ وهل صحيح أنه طلب من الشغّالة التي كانت تلازمني ليل نهار أن تمنعني من الخروج من البيت بأي شكل؟ وهل لهذا اختارها ضخمة الجسد شرسة الطباع؟ وهل يعقل أن يسمح لها بتهديدي باستدعاء البواب لتكتيفي ورميي في غرفتي إن لزم الأمر؟ وهل يظن أنني سأسكت على معاملة مثل هذه؟ هل يتوقع أني سأظل متمسكة بالحياة حين أحرم من ابني ثم من احترام أخي الذي لم يعد لي غيره في الدنيا؟ وإذا كان خائفاً إلى هذه الدرجة من الفضائح، فلماذا لا يخاف من عواقب معاملة منحطة كهذه، يمكن أن تدفعني لرمي نفسي من البلكونة، أو التوليع في نفسي وفي الشغالة؟ وإذا كان يكرهني إلى هذه الدرجة، فلماذا لا يسمح لي بمفارقته، لأعيش في الشقة التي تركتها لي أمي، وأعود إلى عملي فور أن تتحسن نفسيتي، وأعده أنه لن يسمع مني بعدها شيئاً لا بالطيب ولا بالرَّدي؟


كنت متأكدة إن التلويح بمسألة الانتحار هي وحدها ما ستجبر أخي على الحديث معي، بفعل الخوف من فضائح قد تطرطش على سمعته كرجل أعمال واعد، لكنني كنت كالعادة واهمة، صحيح أنه كلمني ولأول مرة حين عاد إلى الشقة بعد أن أبلغه المحامي بتهديدي بالانتحار، لكنه لم يرم علي حتى السلام، بل بدأ كلامه قائلاً: "بتهدديني إنك ترمي نفسك.. طيب وماله، ياريت تبقي قد كلامك"، ليأخذني بكل برود من يدي إلى البلكونة التي سبق أن تدلّى منها أبي في عز شيبته، ثم صوّب نظراته الميتة نحو عينيّ مضيفاً بكل ما في الدنيا من جفاء وغلظة: "هه تحبي ترمي نفسك ولا عايزة مساعدة؟". ظللت ذاهلة عن ما حولي للحظات، قبل أن أقرر التماسك وأقول له بهدوء منكسر إنني لست راغبة في أي فضائح ولا مشاكل، كما لم أعد راغبة في أي مساعدة أو مساندة، ولو حتى في مسألة رؤية ابني، وأنني لا أطلب إلا حقي في العودة إلى شقتي والاستقرار فيها حتى ألم شملي على ابني أو أموت. 

 

لم أفهم الضحكة التي بدرت منه وقتها، لم أربطها بنظرات الاحتقار التي طفحت في عينيه، وكأنه كان يريد أن يقول لي: "يا نهار اسود، أنا لا أصدق أنكِ غبية إلى هذا الحد، يعني كنت أظن أنكِ تعلمتِ شيئاً من كل ما جرى لكِ، لكنكِ مصممة على إبهاري بغبائك"، لكنه بدلاً من قول ذلك قرر أن يدخل في المفيد ويقول لي بجدية مدهشة: "وهي فين شقتك دي؟ انتي مش اتنازلتي عنها عشان أخرجك؟ ولا كنتي فاكرة إن جوزك هيطلعك من القضية من غير ما حد يوقف قصاده؟ هو انتي عبيطة ولا بتستعبطي؟"، ليتلاشى صوته شيئاً فشيئاً، فلا أسمع إلا تهويمات عن أوراق تنازل قمت بالتوقيع ليها بشكل قانوني في حضور مأمور سجن الاستئناف الذي كنت محجوزة فيه على ذمة القضية، وتوكيل رسمي بالبيع قمت بعمله له في حضور موظف اتضح أنه مندوب الشهر العقاري الذي جاء إلى السجن بأمر النيابة، وحيطان يمكن أن أخبط دماغي فيها، وماء بحر يمكن أن أشربه، وخيل يمكن أن أركب أعلى ما فيها، إن لم يعجبني الكلام، لكني وحياة ربنا، لم أكن راغبة في فعل أي شيء مما قاله، فقد كانت الفكرة الأوضح والأصفى وسط كل ما كان يحيطني من تهويمات وأصداء، هو أن أرمي نفسي طواعية وفعلاً من الدور الثامن لأرتاح، وهو ما حاولت فعله، وأنا متأكدة أنه لن يمنعني من ذلك، بل إنني فكرت للحظة أنه لم يختر البلكونة لتكون مكاناً لمصارحتي بتلك الخديعة، إلا لكي يشجعني على الخلاص، خلاصه مني، لكنني كنت مخطئة كالعادة. 

حين فوجئت بمقاومته الشرسة لمحاولتي القفز من البلكونة، لم أستسلم له ولم أتوقف ولو حتى لمحاولة فهم دوافعه للإبقاء على حياتي، بل عضضت كفيه وذراعيه، خربشت وجهه، شددت شعره، حاولت رفسه، لم أترك شيئاً إلا وفعلته لكي يُخلّي بيني وبين فضاء الشارع، لكنه لم يفعل، وحين خاب أملي في التملص منه، أخذت أصرخ بكل ما أوتيت من غضب وألم وعجز، وأنا أسب وألعن العيون التي امتلأت بها البلكونات والشبابيك، والتي لم يظهر على الوجوه التي تحملها، أي رغبة في مساعدتي على الموت، ولذلك قررت أن أتوقف عن السب وألجأ إلى الله أدعوه أن يساعدني على الموت، وأن يعجل لي بالخلاص، وحين فقدت الوعي ظننت أن دعواتي قد استجيبت بسرعة لأن الله كان يعلم بحالي، لكنني كنت مخطئة كالعادة. 

 


لست متأكدة الآن ما إذا كان أخي قد توقع منذ البداية رد فعلي، لذلك خرج بي إلى البلكونة، لكي يكون لديه فيها بدل الشاهد عشرة وعشرون، يقسمون بكل يقين أنه أنقذ حياتي بكل شهامة، برغم كل ما ألحقته به من أذى، لتساعده تلك الشهادات المتحمسة على رميي في مستشفى الأمراض العقلية، التي دخلتها في البدء بدعوى إسعافي من صدمة عصبية حادة أفقدتني الوعي، وأثرت على استقراري النفسي بعد كل ما مررت به من أزمات مع زوجي وبسبب غياب ابني عني، وهو ما أحدث لديّ ضلالات وهلاوس بعد ذلك، فصرت أتهم أخي ومحاميه بالتزوير في أوراق رسمية للاستيلاء على ما لم أعد أملكه بالقانون، ولذلك بات من المهم طبقاً للأطباء الذين لا أعلم إن كانوا متواطئين أم صادقين، أن تتم السيطرة على رغباتي الانتحارية، ويتم الحذر من استعدادي لإيذاء نفسي، بأن أبقى تحت رعاية طبية، تعهد أخي بأن يتحمل تكاليفها أياً كانت، لأنه لن يتخلى عن أخته، لحمه ودمه، مهما أساءت إليه، وأنه كما وقف إلى جوارها في محنتها مع زوجها، سيقف إلى جوارها في ما ابتلي به عقلها وأعصابها، طالباً الأجر والثواب من الله وحده.


 

أعرف ما تفكر فيه الآن وما ترغب في السؤال عنه، فقد تعود الناس حين يسمعون من فلان أو علان أنه دخل السجن أو مستشفى الأمراض العقلية أو حتى العناية المركزة، أن يسألوه على الفور: كم ظل فيها ومتى خرج؟ لأنهم يعرفون أن كل الليالي والأيام في تلك الأماكن متشابهة في وحشتها ورتابتها وثقلها على القلب، ولأنهم لا يرغبون في سماع المزيد من التفاصيل المليئة بالنكد والأسى، خصوصاً في قصة مثل قصتي، لم تخل من تلك التفاصيل منذ بدايتها، وبصراحة، كان سيسعدني كثيراً أن أحكي لك تفاصيل التفاصيل فيما يخص إقامتي في المستشفى أو المورستان أو العباسية أو السراية الصفرا أو سراية المجانين أو أياً كان اسمها، على الأقل لكي أحظى براحة الفضفضة، وأواصل التخفف من عناء ما أحمله بداخلي، لكني للأسف لا أذكر الكثير من تلك التفاصيل، ليس فقط بسبب الحجم المهول مما أخذته من مهدئات ومثبطات ومسكنات ومنومات، ولكن ربما لأن جسدي وذاكرتي ووجداني اتفقوا على أن يحاربوا كل ما جرى لي بالإصرار على النسيان. 

كما قلت لك سابقاً، كان لي علاقة مبكرة بالمرض منذ كنت طفلة، لكني لم آخذ في حياتي كلها أقراصاً وحقناً كالتي أخذتها في الأسابيع الأولى التي أقمتها في المستشفى، والتي لم أعد أذكر كم كان عددها بالضبط، لكني متأكدة أنها لم تكن أكثر من ثلاثة أسابيع، أو ربما خمسة، يعني لن تصل أبداً إلى ستة أو سبعة، وما أذكره جيداً أنني بعد فترة قصيرة من دخولي إلى المستشفى، فقدت رغبتي في الصراخ والعويل، بل وفقدت قدرتي على البكاء، وأصبحت أجد لذتي في التكوم في الركن كأنني "فسيخة"، أتعامل مع كل ما يقال لي بلا مبالاة، وأستقر حيث أوضَع، وحتى حين قرروا وضعي في جناح مليئ بنزيلات أخريات، لمراقبة قدرتي على التواصل، لم يتواصل مع كل من حولي سوى أذناي، اللتين أصبحت أجد لذتي الوحيدة في "طرطقتهما"، ليسمعا كل ما يدور حولي من خناقات وحكايات، ويصنعا لصاحباتها اللواتي لا تدخل وجوههن مجال رؤيتي، وجوهاً خاصة متخيلة أتفنن في صنع تفاصيلها، ليبقى لعينيّ وظائف تنحصر في رؤية ما آكله وأشربه وأبلبعه من أقراص أو بمعنى أصح ما أتظاهر ببلبعته من أقراص، ثم رؤية طريقي نحو الحمام أو حديقة التمشية أو غرفة الكشف أو السرير، ولا تتصور كم أبهرتني تلك القدرة التي لم أكتشفها من قبل على التحكم في وظائف العينين والأذنين، والتي لولاها لما تمكنت من تحويل إقامتي في المستشفى، إلى فترة راحة أعدت فيها تأمل حياتي وتحليلها ومحاولة فهمها، وبالطبع لم أفهم كل شيئ على الوجه الأكمل، لكنني على الأقل استمتعت بالمحاولة التي أشعرتني بأنني لا زلت على قيد الحياة.

ربما كان أكثر ما استفدته من تلك الفترة التي عشتها بأذنيّ، أنني أدركت أخيراً أنني إنسانة عادية، إذا قارنت حالي بأحوال غيري ممن أصبح يريحهم أن يفضفضوا، ويشتكوا إلى مخلوق صامت لا يفصل رغبتهم في الحكي بسؤال أو تعليق أو إيماءة، ولذلك اكتسبت في وقت قصير سمعة حائط المبكى في المستشفى كله، وهي سمعة أضيفت إليها أساطير عن ملامح وجهي التي تدفع الإنسان ليحكي كل ما يخفيه، وعن طاقة النور التي تشع مني حين أستمع إلى الحزانى والمقهورين، وعن ذبذبات التعاطف والطمأنة التي تخرج مني وأنا أنصت إلى ما أسمعه من حكايات تختلط فيها كل تنويعات الظلم والقهر التي تخطر على بالك والتي لا تخطر عليه، والتي لم يكن لمن هو مثلي أن يبادر إلى التشكك فيها، بعد كل ما عشته وشفته، ليس لأني لا أملك أسئلة ترغب في أن تدقق في بعض التفاصيل أو تستغربها أو تكشف تناقضها ومبالغتها، ولكن لأني لم أكن أمتلك الطاقة لفعل ذلك في البداية، وحين استعدت طاقتي بعد توقفي السري عن تناول الأدوية، لم أعد أمتلك الرغبة في تدقيق ما أسمعه أو التشكيك فيه، وأصبحت أؤمن أن من حق كل إنسان أن يمتلك روايته الخاصة عما جرى له، دون أن يناقشه فيها أحد، وأن ما يضيّعنا كبشر هو أن لدينا من المحققين والمتشككين والمتثبتين، أكثر مما لدينا من المنصتين والمتعاطفين. 


 

مع كثرة ما كنت أسمعه عن طاقة النور في وجهي، وجدت نفسي مشتاقة إلى رؤية طاقة النور في وجهي الذي لم يربطه أحد بالنور من قبل، بل ولم يعتبره أحد منذ وعيت على الدنيا وجهاً مريحاً أو يطيب النظر إليه. لم يكن في حماماتنا مرايا لكي لا نؤذي بها أنفسنا، وكان لا بد أن تطلب من الممرضة أن تحضر لك المرآة وتمسكها حين نرغب في استخدامها في تمشيط شعرنا بعد الاستحمام، وحين نظرت إلى وجهي في أكثر من مرآة بحثاً عن النور والراحة والرضا، لم أجد في كل مرة إلا وجهاً خاوياً فارغاً كصفحة بيضاء، وجهاً لم يعد فيه حتى ما كان يميزه من حزن وتعاسة و"شقى"، وربما لذلك ظنه حسنو النية وجهاً منيراً مريحاً، تماماً كما يتوهم الناس أن وجوه موتاهم تنير وتبتسم بعد موتها، لكنني لكي أصدقك القول، أصبحت بعد فترة قصيرة من الزمن أتوهم مثلهم ما زعموه من مميزات لوجهي، وأصبحت لأول مرة في حياتي أحب إطالة النظر إليه، لا معجبة ولا راضية بل متأملة ومستغرقة في النظر الذي لا هدف له سوى إطالة النظر إلى ما لم أكن أطيل إليه النظر من قبل.

لم أكن أتوقع أن سمعتي المتنامية تلك هي التي ستعجل بخروجي من المستشفى، بعد أن ظننت أنني مقيمة فيه إلى أن أموت، خاصة وأنني لم يكن لدي كما يحدث في أفلام السينما، حبيب أو قريب يناضل من أجل إخراجي من غياهب المستشفى، وحتى ابني الذي لا أتصور أن بقائي في مستشفى المجانين، يمكن أن يسره برغم كل ما سمعه منهم عني وعن أخلاقي، لم يكن أصلاً يعلم بوجودي فيه، لذلك لم يكن أمتلك حتى رفاهية الانتظار والترقب، لأقضي كل لياليّ في النوم والتأمل، وكل أيامي في إنصات لا يقطعه سوى الأكل والصلاة والتريض والكشف الروتيني الذي كنت أتمسك فيه بالصمت كإجابة وحيدة على كل الأسئلة، خاصة وقد أصبحت أتعامل مع كل الدكاترة والممرضات على أنهم مشترون بالمال من أخي وأمثاله، وإلا لما سمحوا لكل ما سمعته من قصص الظلم والقهر وتزوير التقارير الطبية أن تقع، وحتى لو كان نصف ما سمعته أو ثلاثة أرباعه مبالغاً فيه أو مكذوباً، لكان الباقي سبباً كافياً لكي لا أثق في كل ما له علاقة بإدارة المستشفى، ولذلك لم أكن أتصور أن الله الرحمن الرحيم سيرزقني بمشرف جديد ابن حلال، يرى أنني سليمة عقلياً ومستقرة نفسياً وعصبياً، وأن صمتي المستمر لا يبرر بقائي في المستشفى، لأنه مفهوم ومرتبط بأزمتي مع زوجي السابق وحرماني من ابني وخلافي مع أخي، وأنني لا أستحق أن أبقى في المستشفى يوماً واحداً، وحين فشل المستشفى في التواصل مع أخي هاتفياً وبريدياً، أصبح من حقي الخروج من المستشفى بمفردي، خاصة وأنني لم أكن لأشكل خطراً على أحد. 

لن أقول لك إنني لم أقلق ولم أضطرب، حين أصبحت مواجهة من جديد بالعودة إلى الحياة المخيفة خارج المستشفى، ولن أنكر أنني لمت نفسي للحظة، لأنني توقفت عن بلبعة الأقراص، واندمجت في دور المستكينة الهادئة، فلو كنت قد اصطنعت خناقات من حين لآخر، لاستمر بقائي في المستشفى التي لو كان ابني معي فيها، لما خرجت منها إلى أن أموت، فقد عرفت فيها من زملائي حناناً لم أشهده من قبل، لكن ابني لم يكن معي في المستشفى، ولذلك كان يجب أن أخرج لأبحث عنه وأستعيده. 

 

لم يكن لدي خطة للمستقبل، لكن منذ متى كنت أخطط لمستقبلي؟ ولم أكن في الوقت نفسه راغبة في المزيد من المواجهات والمعارك مع أخي، ليس لأنني استحليت دور الهادئة الوادعة الذي عشته في المستشفى، بل لأنني كنت طيلة حياتي بعيدة عن المواجهات والمعارك، متعايشة مع الأذى والضيق، ولم أعرف في حياتي ألماً كالذي عرفته حين حاولت أن أرفض الأذى، ولو حتى بالصراخ والعويل ومحاولة الانتحار. لذلك قررت ألا أبدأ رحلة البحث عن ابني بعد خروجي من المستشفى مباشرة، وأن آخذ فترة هدنة أعيد فيها التفكير في كل شيئ. 

لم أكن قد سافرت منذ زمن بعيد إلى الإسكندرية التي لم أكن أعرف مصيفاً ولا مهرباً غيرها، ولم أكن أمتلك مالاً يعينني على السفر إليها، ولا من أثق في اللجوء إليه للاقتراض، دون أن يسعى لتحذير أخي من تبعات خروجي، أو أن يقلق هو نفسه من لجوئي إليه. كنت محتاجة لكي أنفذ ما فكرت فيه، إلى بعض الأوراق الشخصية ومفتاح لخزنة في بنك، كنت قد وضعت فيها في لحظة قلق من زوجي بعض مجوهراتي، وقد جاء وقتها الآن، لكن الوصول إلى شقة حدائق القبة حيث خبأت أوراقي ومفتاحي لم يكن بالساهل، وكان لا بد لي من أن أستعين فيه بصديق، ولأني لم أكن أمتلك أصدقاء أثق بهم، فقد لجأت إلى أعز صديقات أمي، التي أثبتت لي منذ أول لحظة أن محبتها لأمي رحمها الله كانت صادقة، وأن رهاني عليها كان صائباً. 

كان وجود الحاجّة وابنها الأكبر معي، مهماً لإقناع جيراني في شقة حدائق القبة، لكي يساعدوني في الدخول إلى شقتي لدقائق، بعد أن حكيت لهم حقيقة ما جرى لي، معتمدة على الله الذي لولا فضله ورحمته، لما كان قد رآني أحد منهم إلا بوصفي العاهرة التي خانت زوجها وخوّنت أخاها وضيعت ابنها ونفسها. تفاءلت بعض الشيء حين قال لي الجيران إن في شيئاً لله، لأن كل محاولات أخي لبيع الشقة فشلت بعد أن رفض أبو ابني أن يستسلم لتهديدات أخي، وأنه قام بالطعن في تملك أخي للشقة، وحصل على قرار من النيابة بإيقاف التصرف في الشقة، إلا بعد أن يتم الفصل في مصيرها قضائياً، ليتم تشميعها بالشمع الأحمر بقرار من النيابة، بعد أن شهدت معركة طاحنة شارك فيها عدد من البلطجية الذين لم يبخل أخي ولا طليقي في تلبية مطالبهما، ولولا أن سكان العمارة لم يعجبهم ما جرى وتصدوا له وأبلغوا البوليس عنه لانتهى الأمر بوضع أحدهما يده على الشقة دون الآخر. 

حين دخلت إلى الشقة أعدت تشغيل خاصية النظر الانتقائي، لكي لا أنهار حين أتذكر أمي التي لم أر حنيّة في حياتي إلا منها، ومن رفيقات المستشفى ومن صديقة عمرها، التي حلفتني بالله أن أبقى لديها ما شئت، ولم تتركني أذهب إلى الإسكندرية، إلا بعد أن أقسمت لها أنني سأعود إليها حين تنتهي فترة نقاهتي التي لم أكن قد وضعت لها مدة محددة، في حين تعهد ابنها الأكبر الذي كان يصغرني بعدة سنوات أنه سيستعين بضابط من أعز أصدقائه، ليعرف أين يوجد أخي بالضبط، وهل غيّر مقر إقامته أم أنه كان فقط يتعمد عدم الرد على المستشفى، وهل عاد طليقي إلى مصر، أم أنه لا زال خارجها مع ابني، ومع أنني كنت أشكره بتأثر صادق وأتمنى أن يوفقه الله في مساعيه، إلا أنني كنت في داخلي أوطِّن نفسي على ألا أنتظر نتيجة لكل ما وعد به، كبداية لخطوات التغيير التي تعهدت أن ألزم نفسي بها، بعد أن تصالحت مع حقيقة أنني لن أكسب معركتي لاستعادة ابني وحقي في شقة أمي، إلا حين أكسب معركتي مع نفسي أولاً. 

 

لعلي بعد كل ما حكيته، أعرف أنه من غير المجدي أن أفترض أنك ستستغرب بعضه، أو ستصدقه كله، لأنك تعرف أن الدنيا حافلة بالمآسي والمهازل، لذلك لن أجد حرجاً في الاعتراف لك بأن النهاية السعيدة لقصتي جاءت أسرع مما كنت أتخيله، وأنني حين ذهبت إلى الإسكندرية وجدت راحة نفسي على شطها كما تعودت، فقررت أن أمد إقامتي فيها، وأنني تواصلت مع زميل عمل محترم، ليقوم بمساعدتي على إجراءات تسوية معاشي، بعد أن كنت قد قمت في فترة سجني بالتقديم على إجازة بدون مرتب، ساعدني في عملها المحامي النصاب، ثم قام شريكه أو رئيسه أخي بإجراءات تجديدها، ربما لكي لا يجدني في المستقبل عبئاً عليه. 

بالطبع لم تكن تلك النهاية السعيدة التي قصدتها، فهي لم تحدث بسرعة، بل سبقها قرار مصيري بأن أغير مجال عملي، بعد أن تعرفت على سيدة جميلة في كافتيريا على البحر، قالت لي على سبيل المجاملة إن وجهي فيه طاقة نور مريحة، واستغربت حين ضحكت بعمق، وكانت تلك أول ضحكة أضحكها من قلبي، وبالطبع لم أحكِ لها كامل قصتي ولا أين سمعت لأول مرة حكاية طاقة النور هذه، بل اكتفيت بأن أحكي لها قصة خطف ابني مني وهرب أبيه به إلى الخارج، لتبدأ بيننا بفعل التعاطف الأمومي صداقة، تعمّقت حين عاونتني على الالتحاق بعمل في كوافير كبير في أرقى أحياء الاسكندرية تملكه صديقة لها، بعد أن قلت لها أنني أمتلك مواهب مكبوتة في التجميل أحتاج إلى من يساعدني على اكتشافها، وقد كنت محقة فيما قلته، لأنني لم أحب عملاً في حياتي مثلما أحببت ذلك العمل الذي كان ينتظرني فيه مستقبل واعد، لكني لم أكمله، بعد أن دخل ابن صديقة أمي في حياتي، ليس كمصدر للمعلومات التي لم يكن فيها الجديد الذي ينبني عليه أي تغيير، بل كصديق تحول مع الإلحاح والإصرار إلى حبيب، مستعد للتضامن معي حتى أبعد مدى، وترك كل شيئ من أجلي، وهو ما لم تمانعه أمه التي فرحت أنه أخيراً تخلص من عقدة زيجتين فاشلتين سابقتين رأت أنه ظُلِم فيهما، وظنت أن الله سينصفنا ببعضنا، وأنني لن أكون مع ابنها محتاجة إلى أحد، لكنه مع ذلك سيساندني حتى أستعيد حقوقي من أخي وطليقي، وحتى تقر عيني برؤية ابني حين يفك الله أسر أبيه له. 

لكن هل يعقل أن تكون تلك النهاية التي تنتهي بها قصتي؟ هل يعقل أن تتدفق على السعادة هكذا فجأة وبدون مقدمات؟ أليس من المنطقي أن أكتشف أن هناك سبباً خفياً لعيناً هو الذي جعل ابن صديقة أمي يقرر التعلق بي ومطاردتي حتى الإسكندرية، برغم كل ما يعرفه عما جرى لي؟ أليس من الأوقع أن يكون قد عرف خلال رحلة بحثه مع صديقه الضابط أن هناك خيراً ما سينالني لسبب أو لآخر، فرأى أنه أولى بأن يشاركني فيه، خاصة بعد ما جرى له من تعثر مادي بعد طلاقيه المريرين؟

 

ألن يكون أكثر منطقية، أن أعترف لك بأنني اخترعت وجود ابن صديقة أمي من الأساس، لأنني لم أخرج أصلاً من المستشفى، ولا زلت قابعة فيه حتى الآن دون أن يسأل فيّ أحد؟ ولماذا أصلاً سيسأل في أحد، طالما ظل أخي مستمراً في فعل ما يلزم لإبقائي داخل أسوار المستشفى؟ طيب بلاش، بذمتك ألا يتسق أكثر مع مجمل حياتي لو حكيت لك كيف فوجئت ذات مرة بزيارة مفاجئة من السائق الذي شارك زوجي في تدبير ما جرى لي من اغتيال معنوي، ليقول لي وهو منهار في البكاء، إنه أصيب بمرض عضال، وأن أيامه في الدنيا لن تطول، ولذلك قرر أن يتطهر من خطيئته بالاعتراف لي بحقيقة ما شارك في فعله، وأن يصارحني مقسماً على المصحف بأن زوجي بكل وساخته، لم يكن الذي دبّر لي تلك المكيدة التي دمّرت حياتي، بل كان أخي هو الذي دبّرها بعقل شيطاني لعين ليستولي على كل ما أملك، وهل يمكن بعد هذا أن ألام إن استعجلت الموت لكي أتخلص من حياة كهذه؟ وهل يوجد ما يمكن أن يجعلني إنسانة عادية خالية من المآسي سوى الموت؟ 

سأترك لك الجواب.    

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.