هل كان الربيع العربي مؤامرة حقاً؟

هل كان الربيع العربي مؤامرة حقاً؟

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
في مسلسل تلفزيوني مصري - من إنتاج سنة 1984 - عن حكايات ألف ليلة وليلة الشهيرة، حيث يقوم شهريار (حسين فهمي) في كل ليلة بالزواج من فتاة جديدة ليقتلها مع مطلع الصباح، وحين يأتي الدور على شهرزاد (نجلاء فتحي)، تسحره وتخلب عقله بمخزونها الهائل الذي لا ينضب من الحكايات المشوقة التي تسردها عليه كل ليلة حتى مطلع الصباح، فيؤجل كل يوم قتل شهرزاد إلى اليوم الذي يليه.

الجديد في هذه النسخة من الإنتاج الدرامي للأسطورة، أن نجلاء فتحي - شهرزاد - أتت من الزمن الحديث، بينما شهريار - حسين فهمي - ابن عصره الخرافي والموغل في القدم.

بطريقة ما عادت شهرزاد بالزمن إلى الفترة التي شهدت وجود شهريار، أخبرته بما ذكره عنه التاريخ، عن سلوكه الدموي في التخلص من زوجاته بقتلهن بعد ليلة واحدة من الزواج؛ فاستشاط غضباً، وباندفاع بدأ التحرك للقبض على التاريخ، لما ذكره عن الملك من أفعال شائنة؛ وبالفعل نجح في الإيقاع بالتاريخ - توفيق الدقن. وبدأ في استجوابه ومساءلته عن الأسباب التي دفعته لتشويه صورته والتشهير به. ولخوف توفيق الدقن من بطش شهريار، اتفق معه على أن يخبر الناس بأن الملك بريء من دماء زوجاته، وأنهن كن يتخلصن من حياتهن حزنا وكمداً بعد أن يطلقهن الملك بعد يوم واحد من الزواج منهن.


بداية، التاريخ هو بقايا الماضي، هو جملة النصوص والوثائق والحفريات والآثار الباقية من زمن انطوى، وهو النافذة التي ننظر عبرها لأزمنة رحلت وباتت استعادتها من باب المحال، فهو بالتالي محاولة لفهم الزمن الماضي، وهو نظرتنا نحن إلى هذا الماضي، وتصوراتنا ومعلوماتنا ومعارفنا عنه.

لذلك تبقى نظرتنا عبر هذه النافذة جزئية، غير مكتملة، مشوشة؛ لأن المعايشة تختلف تماماً عن المشاهدة من بعيد عبر نافذة التاريخ الصغيرة، عاجزين عن كشف كل التفاصيل ومختلف الزوايا، خاصة أن الرؤية المنقوصة هي طبيعة المعرفة الإنسانية؛ فحتى معرفتنا بالواقع وتفاصيله، بالرغم من عيشنا وانغماسنا فيه، تبقى غير مكتملة؛ فهناك فارق هائل بين حقيقة الوجود، ومعارفنا نحن البشر عن هذا الوجود، على الرغم من كل هذه الجهود الحثيثة لحيازة الحقيقية عبر مواصلة السير في دروب المعرفة.

لذلك أيضاً فاليقينية في التاريخ تبقى مستبعدة، لكننا نقارب وننظر ونفكر، ويبقى النقد أداة مركزية وحتمية في عمل الباحث؛ فمن خلالها يرصد أفكاره ويُمسك بتحيزاته ويطور عمله.

يثير الحوار الذي دار بين الملك شهريار (حسين فهمي)، والتاريخ (توفيق الدقن)، هذه الإشكالية الخاصة بالعلاقة بين التاريخ والسلطة بشكل بديع، ويسلط الضوء على دور السلطة في تشكيل الخطاب التاريخي؛ وكما يقال "التاريخ يكتبه المنتصر"، لكن تبقى العلاقة بين السلطة والتاريخ أعقد من مجرد تبسيطها في تدخل السلطة السياسية مباشرة في تشكيل النص التاريخي، فالسلطة فضاء واسع تتعدد صورها وتجلياتها في الزمان والمكان، وبعض صور السلطة شديدة المراوغة تتسلل إلى قلب النص التاريخي فتحيله إلى نص دعائي يسبح بحمدها.

ولعل سلطة الأيديولوجيا والمعتقد هي أكثر ألوان السلطة مراوغة وصعوبة على الرصد، وهناك سلطة الخبرة الشخصية، وسلطة الدين، وسلطة المجتمع، وسلطة العادات والأعراف السائدة، وسلطة اللغة، وذاتية المؤرخ، وسلطة منظورات الدراسة: (الميكرو) التي لا تستوعب الصورة الكلية، و(الماكرو) التي لا تعبأ بالتفاصيل، وسلطة التقاليد البحثية السائدة، وغيرها من ألوان السلط التي تتدخل بين المؤرخ ونصه.

لكن هذا لا ينفي وجود محاولات للفكاك من أسر السلطة والتحرر من قيودها وتحيزها، وإنتاج نصوص تاريخية تمثل وجهات نظر أكثر موضوعية، وفي الفترة الأخيرة صارت محاولات الفكاك من أسر السلطة جزءا رئيسيا من عمل كثير من المؤرخين، وهناك مساع جادة لتقديم التاريخ من منظور المهمشين (المرأة، الأقليات، المنبوذين، الفقراء)، ومن وجهة نظر المغلوبين، وغيرها من ألوان الكتابة التي تتحدى السائد وتفكك خطابات السلطة في كتابة التاريخ.

ولعل التاريخ الشفوي صورة هامة من صور التاريخ اللاسلطوي؛ فهي من جهة تمثل رواية غير رسمية للتاريخ، ومن جهة أخرى تتعدد فيها الأصوات والروايات بشكل يحتفي بالتعددية الإنسانية والمجتمعية، ويتجاوز محاولات التنميط والقولبة التي تحميها السلطة وتعيد إنتاجها وتدويرها عبر الروايات الرسمية للأحداث.

في النهاية، هل كان الربيع العربي مؤامرة حقاً؟ أم كان غضبة من شعوب مستباحة، ضد نظم مستبدة، سرقت ثورتها، والآن تشوه تاريخها، وتصمه بالمؤامرة، ما يُعيد من جديد إثارة إشكالية العلاقة بين السلطة والتاريخ، ويدعم بأدلة جديدة مقولة أن التاريخ يكتبه المنتصر، أم يكون لشعوبنا العربية قول آخر؟