عن الاختيار بين بلادة البانجو وشراسة "الكيميا"

عن الاختيار بين بلادة البانجو وشراسة "الكيميا"

27 نوفمبر 2018
+ الخط -
في روايته القصيرة (البحث عن دينا) يبدع الكاتب الكبير محمود الورداني في وصف حالة التفسخ والتحلل التي عاشتها مصر في ثمانينيات وتسعينيات القرن العشرين، وكيف انعكس ذلك على كثيرين من أبناء "جيل السبعينات" بعد إحباط آمالهم في التغيير وانصلاح الأحوال، لتتفسخ المنظمات اليسارية السرية التي كان بعضهم قد انضم إليها، ويشهد جيلهم كثيراً من الخسارات الفادحة "دون جدوى حقيقية"، وهو ما جعل بعضهم يلجأ إلى البحث عن أماكن ينعزلون فيها اختيارياً عن المجتمع، وينفون أنفسهم بعيداً عن كل ما يجري فيه، في "محاولة مخلصة لاحتمال الحياة"، بعد أن انتهت البلاد إلى وضع بالغ البؤس، حيث أصبح "يحكمنا ديكتاتور عجوز مستبد شيّد دولة بوليسية على الطراز القديم، وخلفنا ما يقرب من ثلاثين عاماً من الهوان والابتذال وسوء الطوية والفساد والإفساد، وليس أمامنا إلا مزيد مما نحن فيه".

يصف بطل الرواية ما كان يجري أيامها قائلاً بمزيج من المرارة والغضب: "لقاءاتنا الأخيرة في المنظمة قبل أن نتفسخ ونتحلل، تحولت إلى أفلام رعب. الأسرار الشخصية تناثرت على المقاهي. الجلافة والفظاظة والشخر والنخر والسب والتدريع كانت لغة الحوار بيننا. أتمنى ألا تعتبري ما أحكيه لك مجرد مأتم منصوب أطلق فيه العنان لنفسي أصرخ وألطم الخدود، كان ما جرى أقوى وأعمق وأقسى. كان مثل سرطان الروح كما كتبت رفيقتنا أروى صالح التي اختارت الانتحار وهي دون الأربعين. لم نكن قد دخلنا معركة أصلاً. هُزِمنا ببطء، ثم تحللنا وتفسخنا، ولم نهتم إلا بأن نسرع في الانتهاء من ترتيبات الدفن الأخيرة. لا أقصد مطلقا الدخول في نوبة من نوبات جلد الذات التي أدمناها أنا وأصدقائي لسنوات في الخمارات وغرز الحشيش، فنحن في نهاية الأمر من تبقى وراح يتخبط بين الندوات الباردة في مقرات أكثر برودة، في بعض الأماكن المعدة للتنفيس عن الكرب بين الحين والآخر".

يواصل الأستاذ محمود الورداني على لسان بطل روايته شهادته على زمن التفسخ المباركي قائلاً: "نحن أيضاً، في نهاية الأمر، الذين تزوج أغلبنا وأنجب أولاداً وبنات، حاولنا قدر الإمكان أن يكونوا أكثر شجاعة. ترقى البعض في دواوين الحكومة، والبعض افتتح دكاكين حقوقية أو عمل في منظمات المجتمع المدني على مضض، أو حتى بقدر من الحماس، وهناك من اشتغل بالصحافة أو مراكز الأبحاث. وإذا كان هناك من قضم قضمة من ياسر عرفات افتتح بجزء منها مركزاً للدفاع عن مسجوني الرأي، أو قضمة من صدام حسين أو القذافي وأسس وكالة صحفية أو أي مصلحة، إذا كان ذلك كذلك، فإن هناك عشرات آخرين تحولوا مع الوقت إلى غربان سوداء تنعق طوال الوقت، لكنها والحق يقال غربان نظيفة اليد قابضة على الجمر مشرفة على الجنون وأدمنت جلسات النميمة على المقاهي. هناك أيضاً عشرات آخرون من عباد الله ممن سعوا في الأرض يجترون الذكريات، ويفكرون في الأخطاء الكوميدية التي ارتكبوها، والحقيقة أنها لم تكن أخطاء ولا خطايا، وكل ما في الأمر أنها فرط تفاؤل أبله بمستقبل أكثر عدلاً وإنسانية... وهكذا عاشوا على الخط الفاصل بين ما يشبه الموت وما يشبه الحياة، ناهيك بالطبع عن تلك الورود التي ماتت وهي في ذروة ازدهارها وتفجرها بالحياة، أو تلك الورود التي شاخت قبل الأوان ـ وهي كثيرة بالمناسبة ـ أو الورود التي شاخت دون أن تحقق شيئاً، وظلت تنتظر شيئاً ما غامضاً".


اختار بطل الرواية وأقرب أصدقائه وأبناء جيله إليه، أن ينعزلا عن كل ما يجري حولهما من عفن، ووجدا ملاذاً شبه آمن في شقة صغيرة بحي بولاق أبو العلا، أسمياها "قلّاية بولاق"، ظلا يقضيان فيها عصرياتهما بعد انتهاء وظيفتهما كل يوم، لتكون طقوسهما فيها كالآتي: "ندخن الجوانات ونستمع للأغاني القديمة، سعيدين وممتلئين حتى التخمة بالنأي عن السيرك المنصوب في الخارج، وحكايات الهنك والرنك، كان كلانا قليل الكلام، وربما يعلق أحدنا على أمر ما، نستمتع بزيارات أصدقائنا التي لم تكن تنقطع، فقد كانت قلاية بولاق للجميع، ولا يستطيع أحد منع آخر من اللجوء إليها، رجلاً كان أو امرأة، صغيراً أو مسناً. على أي حال أمكننا أن نعبر السنوات، احتملناها في حقيقة الأمر، تلك هي سنوات البانجو بعد أن بطشت الداخلية بالحشيش والحشاشين ومنعت تعاطيه وتجارته تماماً، وسمحت فقط بالبانجو والهيروين، وبينما كان الحشيش يضاعف من قدرتك على الاحتمال، فإن البانجو كان رذلا سواء في رائحته الزفرة أو دماغه الثقيلة ويدفعك للكسل والبلادة والسكوت وعدم الحركة، ولكن لم يكن هناك سواه لعدة سنوات، هي سنوات البانجو وحسني مبارك وفتحي سرور وصفوت الشريف. كانت الصحف والمجلات والكتب والأغاني والأفلام كلها ثقيلة في تفاهتها مثل البانجو، كانت فاقدة لأي حياة مثل البانجو".

تذكرت وأنا أقرأ هذه السطور من رواية الأستاذ محمود الورداني، أحاديث دارت بيني وبين عدد من الأصدقاء عن ظاهرة انتشار مخدرات "الكيميا" في مصر في الفترة الأخيرة، والتي يربط البعض بين انتشارها السرطاني وبين تصاعد حالات العدوانية والشراسة في تعاملات من يتعاطونها مع الآخرين، خصوصاً أن سعرها الأرخص مقارنة بباقي أنواع المخدرات "الكلاسيكية"، يجعلها شائعة الاستخدام خصوصاً بين ذوي الدخول المنخفضة والمحدودة، بالطبع يبقى هذا الكلام النظري محتاجاً إلى دراسات تؤكد ذلك من الناحية الطبية، لكن المؤسف أن إجراء مثل هذه الدراسات الطبية سيكون أسهل بكثير، من إجراء دراسات اجتماعية ميدانية عن ظاهرة انتشار المخدرات الجديدة وتأثيراتها الاجتماعية، خصوصاً مع تصاعد حالة الهستيريا الشعبية التي تتعامل مع أي دراسة بحثية بوصفها نشاطاً تجسسياً ينتمي إلى حروب الجيل الرابع والخامس.

يعني، إذا كان الصحفيون يتعرضون للمضايقة والاعتداء أحياناً من "المواطنين الشرفاء" حين يقومون بعمل مجرد تحقيق صحفي مثلاً عن أهرامات الزبالة التي تملأ بعض الشوارع، أو عن بعض مشاكل المواطنين المعيشية العادية، فكيف سيكون الحال لو حاول باحث أن يقوم بعمل دراسة عن أسباب انتشار المخدرات الرخيصة وتأثيراتها الاجتماعية على حياة الناس، وبالطبع لن نفترض وجود باحث انتحاري يمكن أن يقوم بدراسة دور الأداء الأمني الضعيف في انتشار المخدرات، أو يحاول التحقق من الاتهامات التي توجه إلى بعض رجال الشرطة عن دورهم في تسهيل انتشار المخدرات بل ومتاجرتهم فيها، والتي يتم تداولها أحياناً في فيديوهات أو منشورات على وسائل الاتصال الاجتماعي.

في الوقت نفسه، لن تكون مهمة أي باحث سهلة إذا قرر أن يتجاوز فكرة البحث الميداني، ليعتمد على التقارير الرسمية التي تصدرها أجهزة الأمن بشكل دوري عن أدائها في مكافحة المخدرات، فقد أصبح كثير من صحفيي الحوادث ـ بما فيهم الذين يرتبطون بعلاقات جيدة مع وزارة الداخلية ـ يجدون مشكلة في الحصول على كثير من التقارير الأمنية التي كانت تصدرها مصلحة الأمن العام، حيث تم إدخالها تحت بند "أسرار أمن قومي" لكي لا يتم استغلالها في تصوير "العهد السيساوي السعيد" بشكل سلبي، مع أن هذه التقارير نفسها لا تتمتع بالكثير من الدقة والأمانة، كما كشف لنا المؤرخ الدكتور عبد الوهاب بكر في دراسة سابقة له بعنوان (أحوال الأمن في مصر المعاصرة)، قام فيها بقراءة تقارير الأمن العام عن أحوال الجريمة في مصر منذ فترة الخمسينات وحتى نهاية التسعينات، وكيف كان يتم التلاعب في الأرقام النهائية للتقارير، لإعطاء صورة وردية لأحوال المجتمع، تجعل رئيس الدولة يتفاخر بأنه نجح في تقليل مستويات الجريمة، بفضل سياساته الاقتصادية والاجتماعية، مع أنه لو قام بالتدقيق في التقارير لاكتشف أنه تم التعامل مع العديد من الجرائم بوصفها جنحاً أو جرائم ثانوية، لكي يتم استبعادها من الحساب الختامي، فتظهر وزارة الداخلية بشكل أفضل في أدائها الأمني على حساب الحقيقة.

لذلك وفي ظل إغلاق المجال العام بالضبّة والمفتاح، يبقى الباب مفتوحاً فقط للاجتهادات التي لا تخلو من المبالغات عن دور "مخدرات الكيميا" في تصاعد العنف وارتفاع نسبة الجرائم العدوانية، تماماً كما كان يتم ربط البانجو بالبلادة والموات وانعدام الإحساس في مطلع التسعينات، وهو كلام كان الجميع يردده بثقة شديدة، حتى ولو لم يكونوا قد جربوا الحشيش والبانجو من قبل، أو عرفوا الفرق الدقيق بينهما، ومع ذلك فقد كان من الشائع أن تسمع في تلك الأيام حنيناً إلى (زمن الحشيش الجميل) الذي ساد مصر طيلة العقود الماضية، وحكايات درامية ـ وأحياناً ميلودرامية ـ عن تآمر مسئولين كبار مع إسرائيل لضرب الحشيش ونشر البانجو بدلاً منه للقضاء على الروح المصرية الأصيلة، وتدمير "شخصية مصر" التي يحن الجميع إليها دون أن يعرفوا بالضبط ملامحها وكنهها، وسأعذرك لو لم تصدق الآن أن كل هذه الحكايات المؤامراتية كانت تقال بجدية شديدة، بل وكانت تجد طريقها أحياناً بصيغ منضبطة إلى أغلب مقالات الصحف والمجلات، التي كان كتابها يفلترون عامدين جزئية تفضيل الحشيش على البانجو، ويبالغون في وصف تأثيرات البانجو المدمرة التي لم تجعل المصريين كما كانوا من قبل، وهو ما ستجده الآن في أحاديث كثيرين من الذين يترحمون على بلادة البانجو التي هي أرحم من شراسة "الكيميا"، تماماً كما تجد من يترحمون على بلادة الاستقرار المباركي ويفضلونها على شراسة القمع السيساوي.

بهذه المناسبة، قرأت مؤخراً كتاباً مترجماً عن الفرنسية يحمل عنوان (مصر: الوجه الآخر) للكاتبة الفرنسية صوفي بومبيه، صدر بالفرنسية عام 2008، وأصدرت دار الفارابي اللبنانية ترجمة ميشال كرم له إلى العربية بعدها بعام، ومع أن الكتاب لا يقدم جديداً لمن عاش في مصر أو عرف أحوالها جديداً، إلا أنني توقفت عند فقرة مهمة تحدثت فيها عن فكرة (الاستقرار) التي ظل نظام مبارك يروج لها طويلاً بوصفها إنجازه الأهم الذي يجب أن تتحمل بسببه كل ما عداه من كوارث وجرائم.

كانت الكاتبة التي عايشت أحوال مصر لسنوات بحكم عملها الصحفي ترى أن ما يحدث ليس استقراراً على الإطلاق بل هو جمود تام، وأنه ليس إنجازاً بل هو مشكلة خطيرة، تجعل الكثيرين يتعامون عن الأزمة الوجودية التي يمر بها المجتمع المصري "بين انحراف نحو الشمولية، وتحولات تفرضها العولمة وتطبيق إصلاحات بنيوية محصورة في القطاع الاقتصادي وكارثية على الصعيد الاجتماعي"، وهو وضع رأت الباحثة أن ما يزيد من خطورته أن مصر ليس لديها مشروع سياسي أو حياة سياسية بمعنى الكلمة، وأن تخيل الناس أن هناك حياة سياسية لمجرد اتساع هامش حرية الكلمة، هو تخيل واهم وغير صحيح، لأن حرية الكلمة حين تعمل في فراغ "يقتصر دورها على تنفيس الاحتقان"، وتساهم في التضليل على حقيقة أن السلطة تتخذ دائماً تدابير مضادة تسمح بالإبقاء على مساحة ما لحرية التعبير، مع تحاشي قيام طرق ملموسة للحركة السياسية، أو تنظيم أي تجمعات حقيقية للناقمين على الأوضاع.

لم تكن الباحثة تتوقع أن مصر بعد أربع سنوات مما كتبته، ستشهد انفجاراً حقيقياً في الأوضاع، سيجعل السلطة المشكلة من تحالف الأجهزة العسكرية والأمنية والقضائية، تدرك خطورة وجود هامش متسع لحرية الكلمة، وتكتشف أنه لا يؤدي إلى تنفيس الاحتقان فقط، بل يؤدي إلى تنظيمه وتكثيفه، ولذلك قرر النظام الحاكم أن يعود إلى الكتالوج الناصري الأصيل الذي عبّر عنه عبد الفتاح السيسي صراحة، حين قال إن جمال عبد الناصر كان "محظوظاً بإعلامه"، ولذلك لم يهدأ للسيسي بال حتى سيطر على كافة منافذ الإعلام والتعبير، ولا زال يسعى لإحكام سيطرته على ما تبقى من فضاء محدود لا زالت توفره وسائل الاتصال الاجتماعي، وهو ما يجعل من المنطقي أن يترحم كثيرون على استقرار حسني مبارك، تماماً كما ستجد كثيرين يترحمون على بلادة البانجو التي هي أرحم من شراسة "الكيميا"، لأن الحياة في نظرهم أقصر بكثير من أن نعيشها "فايقين" أو باحثين عن واقع صحي محترم، فلا يبقى أمامنا في نهاية المطاف إلا أن نؤمن بالرسالة التي أعلنها السيسي صراحة في مؤتمره الشبابي الأخير، عن خطورة "حسن النية" التي جعلت المصريين يظنون أنهم يمكن لهم تغيير واقعهم، فتسببوا بذلك في مشاكل كان يمكن أن يكونوا في غنى عنها، لو قرروا التعايش مع البلادة والتناحة، وهي رسالة يمكن أن تتسامح معها لو سمعتها من تاجر مخدرات مخلص للحشيش بوصفه تراثاُ مصرياً أصيلاً، لكنك حين تسمعها ترد على لسان رئيس جمهورية يخطط ويسعى جاهداً للبقاء في منصبه مدى الحياة، سيصيبك رعب حقيقي على واقعك ومستقبل أولادك، رعب لن تجدي في تهدئته حتى "الكيميا".
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.