في التعرف على غزة

في التعرف على غزة

24 نوفمبر 2018
+ الخط -
أرضٌ حُرمت على الصهاينة. دون نصٍ ديني يشير صراحةً إلى ذلك، ودون عُرفٍ دولي يحفظ قداسة حدودها، بلا خطوطٍ حمراء مرسومة على خرائط، وبلا قلاعٍ مشيدة على أطرافها، لا تقف دولة وسطها لتعلن ما هو مسموح وما هو ممنوع، لا كهنوتٍ دينيا يحول بين الغزاة وغزة بقوة كتاب ورسالة، لا تحتاج كل ذلك، إذ كانت غزة منذ أزل التاريخ تعرف ما لا نعرفه عن صون التراب وصدّ الأعداء.

وما هو معروفٌ لغزة، معروفٌ بالوعي الغزّيّ العميق، مجهولٌ لدى الجانب الآخر؛ مجهولٌ بتعجرفٍ وليس لقلة معرفة، ذاك التعجرف الإسرائيلي الذي يتيح لأذرعها الأمنية والمخابراتية والعسكرية، العبث بمنطق الجغرافية، وتنفيذ عمليات اغتيال في البقعة التي يرتئيها الغدر الإسرائيلي، لكتم روح مقاومةٍ ولإزهاق فكرةٍ تنبض، وتضيء على فلسطين.

تحدثْ ما شئتَ عن مدنٍ اخترقتها إسرائيل، سواء أكان ذلك بتواطؤ من سلطتها أو بمحض إرادتها، نفذت فيها وحدات إسرائيلية خاصة عمليات قتلٍ مدروسةٍ ومحبوكةٍ بالدقة اللازمة، لجعل العملية - وإن لم تعترف بها إسرائيل رسمياً- موسومة بحبر الموساد الدامي.

تحدثْ.. وأسهبْ بالحديث عن رموزٍ عربية وغير عربية، ناهضت المشروع الصهيوني بالفعل أو القول بأداة الفكر أو العلم، وجدت جثثهم في ظروفٍ غامضة، وبملابساتٍ مشبوهة، وما إن تبدأ سلطات الدولة المستهدفة تحقيقاتها حتى يكون عناصر الاغتيال قد حزموا أسلحتهم، وصاروا آمنين بالسماء، أو بالأرض.

لكن توقف عند غزة؛ وأمعن وقوفاً وإصغاءً، غزة الصغيرة كوردة، العظيمة كقلعة، رفضت المنطق الإسرائيلي برمته، فكم أفشل التراب الغزّيّ، مشاريع لدولة إسرائيل المزعومة، وكم تهاوى على ترابها الشائك روؤسٌ كبار من المؤسسة العسكرية والمخابراتية، كان فشلاً يتلو آخر، وينبئ بحتمية اندثار المشروع الأكبر؛ حصارُ غزة وإخضاعها.

سقطت العملية الأمنية الإسرائيلية، في نقطتها الأهم؛ خان يونس، وعلى يد نور بركة، الذي استطاع بحسه الأمني، ومكانته الميدانية، التصدي للمحاولة الإسرائيلية التسللية؛ إذ تحولت الخلية الإسرائيلية في لحظة اشتباك، من عناصر أمنية محترفة إلى هدف للمقاومة، والتي نجح أفرادها بمحاصرة القوة الإسرائيلية، بلا هوادة، وتحت وقعٍ اشتباك عنيف وإطلاق كثيف للنيران، صار لزاماً على سلاح الجو الإسرائيلي، أن يتحرك، كي ينقذ الخلية المحاصرة.

رغم استشهاد القيادي القسامي وعدد من رفاقه، إلا أن العملية كانت فاشلة بالمقياس الميداني والمخابراتي، وللخبراء العسكريين رأيٌ بهذا الفشل، فقد تم إنقاذ عناصر الجيش باللحظة الأخيرة من أشنع عملية أسرٍ فيما لو نجحت لكانت ستضرب السمعة المخابراتية الإسرائيلية بمقتلٍ، وإن كانت الضربة واقعةً بفضل تمكن المقاومة، أولاً من إفشال المخطط، وثانياً التمكن من محاصرة الخلية، وثالثاً إيقاعها في شكٍ عميقٍ بالنجاة، ورابعاً مقتل أحد ضباط العملية الذي وفقاً لحجم العملية ونوعيتها، لا ريب أنه بمكانةٍ وازنةٍ في الواقع الأمني الإسرائيلي.

مرّت إذن القوة الإسرائيلية الخاصة ومرّ ما بعدها، من جولة تصعيد؛ أسفرت عن خسائر إسرائيلية فادحة بوصول صواريخ المقاومة إلى مناطق حساسة بالعمق الإسرائيلي، لينشب بعدها غضبٌ في الأوساط الإسرائيلية عنوانه الرئيسي؛ "الفشل مرة أخرى أمام القطاع"، فاستقال ليبرمان وفتح النار على رئيس الحكومة العائد من انتصاراته الدبلوماسية في أرض العرب، منتشياً بالتسويق لإسرائيل واقعاً واضحاً يصعب التغاضي عنه، مكرساً حالة التطبيع المهولة، حالماً بمجده الزائف، ليعود إلى شعبه المزعوم، ليجد نفسه أمام المعضلة ذاتها؛ غزة.

معضلة غزة؛ وما اعتادت هذه المدينة على اعتباره شكلاً آخر من التعبير عن الذات الفلسطينية الأصيلة؛ فبعد أن صنعت ما صنعت في أعوام الحصار والحرب، وبعد ما قدمت من شهداءٍ كرام على خطوط مسيرات العودة، وبعد أن تصدت للمحاولة الإسرائيلية الأخيرة، أصبحت غزة معروفةً تماماً لدى الوعي الصهيوني المتعجرف، معروفةً بشكلٍ يجعل قادة الاحتلال في شكوك الحسابات والأسئلة، أمام مجرد ذكر اسم غزة، إن الإسرائيليين اليوم ينظرون للسماء فيرونها صاروخاً من غزة، يلتفتون للوراء فتطل عليهم هزيمة 2008، وخيبة 2012، وانكسار 2014، ستنهمر غزة عليهم في نشرات أخبارهم وفي واقعهم اليومي ستعرف غزة دائما كيف تربك الحياة الإسرائيلية.

C0BA4932-E7DF-48F8-A499-8FAA0D6C1F19
عدي راغب صدقة

أدرس تخصص الصحافة والإعلام في جامعة البترا... أهتم بعديد الشؤون العربية، ولكن أولي اهتماما خاصا بالشأن الفلسطيني.