حديث المبادرة مع موظف كل العصور (1 - 3)

حديث المبادرة مع موظف كل العصور (1 - 3)

19 نوفمبر 2018
+ الخط -
الدكتور مصطفى خليل رجل خطير بكل ما للكلمة من معنى، تستطيع اعتباره واحداً من الصناديق السوداء البارزة للدولة المصرية في عهود عبد الناصر والسادات ومبارك، حيث شغل منصب رئيس وزراء مصر، وتولى قبلها في فترات مختلفة مسئولية وزارات الخارجية والصناعة والمواصلات والإسكان والكهرباء ورئيس مجلس أمناء هيئة الإذاعة والتلفزيون والأمين العام للاتحاد الاشتراكي، وبعد خروجه من موقع رئاسة الوزراء عام 1980 احتفظ لسنوات طويلة بمنصب نائب رئيس الحزب الوطني ورئيس لجنة الشئون الخارجية في الحزب الذي حكم مصر لأكثر من ثلاثة عقود، فضلاً عن رئاسته لفترة طويلة للمصرف العربي الدولي الذي اشتهر منذ إنشائه في مطلع عهد السادات بوصفه أكثر البنوك العاملة داخل مصر غموضاً، بوصفه البنك الوحيد الذي لا تسري عليه القوانين المنظمة لكافة البنوك، ولا تخضع أعماله وسجلاته لقوانين وقواعد الرقابة المالية والقضائية، ولا للإجراءات والقوانين الضريبية، وربما كان من الدال أن يخلف مصطفى خليل في رئاسة البنك مباشرة اسم آخر مثير للجدل هو الدكتور عاطف عبيد بعد خروجه من منصب رئاسة الوزراء.

حين اتفقت مع الدكتور مصطفى خليل على الحوار معه في خريف عام 1999، لم يكن الحوار مرتبطاً بمناسبة محددة، بل كان جزءاً من مشروع كتاب أعده عن فترة حكم الرئيس أنور السادات، ومشروع آخر لدراسة طريقة صنع القرار في دوائر الدولة المصرية بعد ثورة يوليو 1952، ثم تصادف أن جاء لقاؤنا متزامناً مع الذكرى الثانية والعشرين لزيارة السادات إلى القدس المحتلة، التي اشتهرت في الإعلام الرسمي بلقب (المبادرة)، وهو تعبير استخدمه الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل في كتابه الشهير (حديث المبادرة)، في حين تعود كثيرون على وصفها بمبادرة الخيانة أو الزيارة المشئومة أو المبادرة الملعونة وما إلى ذلك من تعبيرات تحاول تكثيف حجم الغضب والألم الذي أحدثته تلك الزيارة في نفوس الملايين.

مصطفى خليل مع السادات في زيارة القدس 


كان مصطفى خليل قد تطوع لمصاحبة السادات في تلك الزيارة، ولم ينس له السادات ذلك، ولذلك استعان به في إتمام معاهدة كامب ديفيد، التي خرج من منصبه كرئيس للوزراء عقب التوقيع عليها بفترة قصيرة، لكنه ظل قريباً من الدائرة الرئاسية في عهدي السادات ومبارك، كما احتفظ بصداقاته مع عدد من القيادات الإسرائيلية وعلى رأسها الرئيس الإسرائيلي عيزرا فايتسمان، وفي حين كانت كل التحقيقات والحملات الصحفية المصرية التي تهاجم أبرز أنصار التطبيع مع إسرائيل، وتتحدث عن قائمة أصدقاء إسرائيل في مصر، تضع مصطفى خليل على رأس القائمة، كانت الصحافة الإسرائيلية تسبغ الكثير من الثناء والمديح عليه بوصفه واحداً من أبرز قنوات الاتصال بإسرائيل، خصوصاً في الفترة التي كان "السلام العلني" بين البلدين يوصف بكونه سلاماً بارداً، في حين احتفظت القنوات الأمنية والمخابراتية بسخونتها على الدوام، قبل أن يصبح كل شيء بعد ذلك "على عينك يا تاجر".

دخل مصطفى خليل إلى دنيا السياسة عبر خبرته كأستاذ جامعي في كلية الهندسة وخبير في السكة الحديد التي بدأ عمله فيها مهندساً منذ مطلع الأربعينات، لكنه منذ أن عرف طريق المناصب الحكومية، انطلق كقطار سريع متنقلاً عبر كافة المراحل السياسية، من الاشتراكية إلى الانفتاح الرأسمالي، ومن العداء لإسرائيل إلى الصلح معها، ومن الزمن السوفيتي إلى الزمن الأميركي، ولم تنجح كل المتغيرات في عرقلة صعوده السياسي كما فعلت بآخرين، حيث كان على الدوام قادراً على تحويل اتجاهات سيره دون حدوث أضرار تذكر، ليحجز لنفسه موقعاً ثابتاً على الخريطة السياسية، لعب فيه دور الوزير ثم رئيس الوزراء ثم الناصح والمستشار وقناة الاتصال، دون أن تؤثر فيه الحملات الشرسة المتواصلة، لأنه كان يعتبر نفسه موظفاً "محترفاً" غير معني بالكراهية الشعبية أو المعارضة الصحفية والسياسية، بل معنياً برضا رأس النظام الحاكم الذي يعلم علم اليقين أنه يمثل كل شيء في دنيا السياسة في مصر، في ظل غياب أي تمثيل سياسي للشعب، وهو ما قاله بدم بارد، في عدة مواضع من هذا الحوار الذي أترككم لقراءته وتحليله:

- دكتور مصطفى، من أشهر الأوصاف التي تطلق عليك وصفك بأنك صديق الإسرائيليين في مصر، ما تعليقك على هذا الوصف؟
مفيش حاجة اسمها صديق الإسرائيليين، يعني عندما تقرأ جميع الكتب والمذكرات التي تشهد على المرحلة لا تجد أي كتاب لا يذكر أنني كنت مفاوضًا قويًا، وأنني كنت "ماشي دوغري"، وأتصرف من منطلق نتائج حرب 73 والشعور الوطني القوي بضرورة إجلاء إسرائيل عن سيناء.

- يعني على المستوى الشخصي أنت لا تعتبر نفسك صديقًا للإسرائيليين كما يصفك الإسرائيليون أنفسهم؟
بالنسبة لي كشخص يتعاطي السياسة لا يوجد مثل هذا الكلام، هناك اتفاقيات توقع ويتم الاتفاق عليها وهي التي تكون حكمًا بيني وبين الإسرائيليين، ما يربطني بإسرائيل اتفاقيات، لكن أن يأتي أحد ليقول أني صديق للإسرائيليين، فهذا لا يستحق مني حتى أن أتناوله.

- لكن الثابت أنه إلى جوار الاتفاقيات والاتصالات الرسمية، هناك صداقات وعلاقات شخصية تربطك بكثير من قادة إسرائيل؟
حقيقة تربطني بكثير من قادة إسرائيل معرفة شخصية وعلى رأسهم الرئيس الحالي عيزرا فايتسمان، وتربطني علاقة أسرية به والسيدة حرمه وابنه الذي توفي، ويهمني أن أكون على دراية بالوضع داخل إسرائيل وأفهم ما يجري داخلها وكيف نواجهه، وفي النهاية هي علاقات تحكمها مصلحة مصر إلى ما لا نهاية.

- هل صحيح أنك عولجت في مستشفيات إسرائيل كما ذكرت بعض الصحف؟
(انفعل للمرة الوحيدة خلال الحوار) أولاً علاجي في المستشفيات بناء على حالة اضطرارية يمكن أن يحدث.

- يمكن أن يحدث أم حدث؟
حدث فعلاً، وماذا في ذلك؟ إذا كان البعض عايزين يرجّعوني مرة ثانية إلى وضع ما قبل اتفاقية السلام، أنا ضد ذلك، وسأقول مليون مرة أنا ضد هذا إلى ما لا نهاية، وما يتم لمصلحة مصر والدول العربية، وأنا لست في حاجة إلى أن أنظر إلى الآراء المعارضة، أو إلى أي شيء آخر، يهمني مصلحة مصر.

- هل استفدت ماديًا من علاقتك بإسرائيل؟
إطلاقًا، أنا لست رجل أعمال، ولا دخل لي على وجه الإطلاق بالعلاقات الاقتصادية التي تربط البلدين، والكلام يتم لمصلحة مصر، وعند إبرام أي اتفاقات يقدرها الموجود في السلطة.

مصطفى خليل مع السادات ومناحيم بيغن 


مع عبد الناصر
- قبل أن أدخل معك في تفاصيل علاقاتك بإسرائيل والتي تشكلت خلال فترة عملك مع الرئيس السادات، هناك كلام كثير تم نشره هذه الأيام يقرر أن جمال عبد الناصر كان يفكر في إقامة علاقات سلام مع إسرائيل، وآخر شهادة تم نقلها في هذا الصدد كانت عن الكاتب الفرنسي إيريك رولو، وأنت كنت وزيرًا في عهد عبد الناصر، فهل كان توجه عبد الناصر في هذا الجانب معلناً، وهل طرحه للنقاش مع حكومته؟

عبد الناصر بدون شك رجل وطني من الدرجة الأولى، وأي قرار اتخذه كان للحفاظ على مصلحة مصر، وقبوله لمبادرة روجرز لا يحتاج إلى تفسير لتوجهاته، وأريد أن أقول لك أن اتفاق كامب ديفيد الذي يحدد القواعد الأساسية للتفاوض ليس سوى 80% من مبادرة روجرز، أي أن مبادرة روجرز تم إضافة ما يعادل 20% من الإضافات إليها في كامب ديفيد، وعبد الناصر كان مؤمنًا بسياسة واضحة، بعدما حدث في 67 وهي "لا تدفعني إلى حرب أنا لست مستعدًا إليها" بمعنى أنه هو الذي يحدد توقيت الحرب مثل ما حدث في عام 1973.

- فيما يخصك أنت، في عهد عبد الناصر هل كنت معروفًا باتجاهك غير المعادي للغرب وإسرائيل، بمعنى آخر هل كان موقفك الشخصي من إسرائيل يتماشى مع الموقف السائد سياسيًا وإعلاميًا؟
طبعًا كل واحد فينا كان يحاول أن يعالج الأمور بطريقة معينة، يعني أنا بعد حرب 73 فقط وصلت إلى قناعة كاملة بضرورة التدخل الأميركي، وأن الحرب ليست هي الوسيلة التي ستمكنني من تحرير سيناء كاملة.

- لكنك قبل ذلك في عهد عبد الناصر كنت مقتنعًا بالحرب؟
لا، (بعد فترة صمت) لست متأكدًا من ذلك، وعلى أية حال بعد هزيمة 67 كل شيء كان واضحًا.

- وقبل الهزيمة، بوصفك كنت ضمن دوائر صنع القرار، هل كنت مصدقًا مثل الباقين إننا نستطيع إلقاء إسرائيل في البحر؟
كلام أننا نرمي إسرائيل في البحر ده كلام رجل الشارع، أما من تكون بأيديهم المسؤولية فهم يعلمون كثيرًا من الحقائق قبل اتخاذ القرار، ودائمًا في مصر رئيس الجمهورية أبعد رؤية حتى من رئيس الوزراء والوزراء.

- والسبب؟
السبب هو الموقع، فالرئيس يتبعه الجيش والمخابرات، وعلى أي حال عندما كنت في منصبي لم يكن لي أي علاقة بالجيش وأجهزة المخابرات على وجه الإطلاق، وكنت أتصرف بناءً على قناعاتي.

- مسألة الفرق بين ما يعرفه ويفكر فيه رئيس الجمهورية وبين ما يعرفه رئيس وزرائه ووزرائه، هل حدث ذلك خلال فترة عملك مع الرئيس السادات أثناء المفاوضات مع إسرائيل، وهل كنت موافقاً على فكرة القيام بصلح منفرد مع إسرائيل بعيداً عن الدول العربية التي شاركت مصر في حرب أكتوبر بأشكال متعددة؟
عندما دخلنا المفاوضات على سيناء لم يكن يخطر في بالي على وجه الإطلاق، أني أتفاوض على الحدود الجديدة بين مصر وإسرائيل، ولكن على الحدود التي بين مصر وفلسطين التي كانت تحت الانتداب سنة 1923، وهذا ما تم النص عليه، هذا ما فعلته مصر، أما الدول التي تفاوضت مع إسرائيل بعد ذلك وعلى رأسها منظمة التحرير الفلسطينية لم يعرضوا اتفاقاتهم على مصر بل حدث التفاوض بصفة سرية في النرويج، بينما في مفاوضات "مينا هاوس" تم رفع العلم الفلسطيني، وكنت جالسًا على المائدة مع نائب الرئيس في ذلك الوقت حسنى مبارك وإلى جوارنا مقاعد الفلسطينيين خالية، بينما اتفاقهم مع إسرائيل بعد كامب ديفيد بسنوات، لم يكن لنا في مصر علم بما يدور فيه.

- بهذه المناسبة وقبل أن نعود ثانية إلى تفاصيل علاقتك بالسادات، هل فوجئت باتفاق أوسلو أم أنك كنت تعرف به من خلال علاقاتك بالإسرائيليين؟
لا لم أكن أعرف به، وعند إعلانه كنت مدعوا في "زيارة نقاش" لإسرائيل، وكنت مدركًا أن إسرائيل لابد أن تعترف بمنظمة التحرير، لكن لم يكن لأحد دخل في اتفاق إسرائيل مع الفلسطينيين، حتى مصر والولايات المتحدة.

رفيق السادات

- هل صحيح أنك طلبت من السادات أن ترافقه في رحلته إلى القدس ولم يكن اسمك مطروحًا لديه؟
نعم أنا الذي بادرت بذلك مساندة له، وكنت وقتها أمين عام الاتحاد الاشتراكي وطلبت منه هذا في اتصال تليفوني، بعد أن قال في اجتماع للجنة الأمن القومي بمجلس الشعب أنه مستعد للذهاب إلى أقصى حد حتى إسرائيل، والسادات عندما ذهب إلى إسرائيل لم يكن ذاهبًا ليتفرج، بل ذهب ليوجه رسالة إلى عامة الإسرائيليين من خلال ممثليهم في الكنيست ليقول لهم إننا نؤيد السلام.

- لذلك جاء حصولك على منصب كوزير خارجية أو كرئيس وزراء مكافأة على هذه المبادرة؟
أية مكافأة؟

- ألا تعتبر حصولك على هذا المنصب الرفيع في هذه الظروف مكافأة؟
عمر المناصب ما كانت مكافأة، وإذا كنت جئت في وقت صعب لكي أؤكد انسحاب إسرائيل من سيناء وأزيل المستوطنات، فما هي المكافأة هنا؟

خبر تكليف مصطفى خليل برئاسة الوزراء يونيو 1979 



- كيف تنظر إلى الجدل الذي يثار مع كل ذكرى لحرب أكتوبر حول ما إذا كانت نصراً حقيقياً أم حرب تحريك أم انتصارًا مفتوحًا كما يصفه البعض؟
ما حصل في حرب 73 وباختصار تام هو انتصار الجيش المصري انتصارًا هامًا ولا جدال فيه. لكن الذي حدث بعد ذلك النصر أن رئيسة وزراء إسرائيل جولدا مائير اتصلت بالرئيس الأميركي نيكسون وطلبت مساعدته في إنشاء جسر جوي عسكري تكلف 2.4 مليار دولار، يعني هذا التدخل العسكري الأميركي في الحرب أوقف انتصار أو متابعة الجيش المصري للعمليات العسكرية، والرئيس السادات وقتها قال: "أنا ماباحاربش أمريكا".

- لكنه بعد ذلك رمى كل أوراق اللعبة في يد أميركا طبقاً لتصريحه الشهير عن امتلاك أمريكا لتسعة وتسعين في المائة من أوراق اللعبة؟
أريد أن أنبه هنا لأمر في منتهى الأهمية، الرئيس السادات عندما أعتزم التعامل مع الولايات المتحدة باعتبارها شريكًا كاملاً في عملية السلام، ولكي يحدث اقتناع بذلك من الرأي العام الأميركي أو الكونغرس أو الحكومة الأميركية، اتخذ خطوات مهمة في جانبين مهمين للغاية، أولاً مشى في الإصلاح السياسي لدرجة أن مصر تطورت فيه جدًا، وفي نفس الوقت أخذ بسياسة الباب المفتوح من الناحية الاقتصادية، وهي السياسات التي مهدت للتطورات الاقتصادية التي تحدث الآن وهو ما يدل على بعد نظره.

- هذا موضوع خلافي ولا أظن أن كثيرين سيتفقون معك في صحة التطورات الاقتصادية التي اتخذها السادات خاصة بعد كل ما آلت إليه، ولكن السؤال المباشر الذي يستدعيه كلام حضرتك هو: هل كان لابد من هذا الاعتماد المفرط ولن أقول التبعية لأميركا؟
كما قلت، الرئيس السادات بقراراته التي اتخذها نجح في إقناع الولايات المتحدة بلعب دور أساسي في اتفاقية السلام، وهنا نسأل هل كان من الضروري وجود الولايات المتحدة كشريك في المفاوضات، في رأيي نعم لأن القرار 338 الصادر عن الأمم المتحدة قال في بنده الثالث إن المفاوضات بين الأطراف العربية وإسرائيل تتم تحت رعاية الولايات المتحدة بسبب علاقاتها بإسرائيل وكونها في ذلك الوقت أحد القطبين العالميين، ولابد أن أذكر هنا أن التوجه ناحية السلام بدأه الرئيس عبد الناصر بقبوله لمبادرة روجرز التي رفضتها إسرائيل. وما جعل الرئيس السادات يلجأ إلى الحرب هو أنه لم يكن سيتوصل إلى اتفاق مع إسرائيل إلا بعد معركة عسكرية وهي التي تمت بالفعل في 1973، وهذا كان رأي دائمًا أنه لابد من إجلاء إسرائيل عن سيناء أولاً.

- أفهم من كلامك أن السادات دخل الحرب وفي تفكيره أنها مقدمة لتحقيق سلام مع إسرائيل وليس لمواصلة الحرب لآخرها حتى تحقق كل أهدافها؟
لا طبعًا، هذا حدث بعد تدخل الولايات المتحدة الذي أوقف العمليات، لكن حرب أكتوبر أوضحت للإسرائيليين أن حصولهم على مزايا عن طريق الحروب كما حدث في 67 أمر لا يمكن أن تثق فيه، كما أنهم كانوا يقولون إن إسرائيل تستطيع التكفل بأمنها دون تدخل من الولايات المتحدة، وحرب 73 أثبتت عدم صحة هذا، المهم بدأ دور الولايات المتحدة بعد الحرب وبدأت تطورات السلام حتى جاءت كامب ديفيد التي أحب أن أؤكد أنها لم تكن اتفاقية سلام لكنها كانت للتوصل إلى اتفاق على العناصر الأساسية التي سيتم التفاوض بشأنها لإبرام اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل.

- كان لك دور رئيسي في هذه المرحلة، وهناك اتفاق بين كثير من الباحثين على اعتبارك عراب الصلح بين مصر وإسرائيل؟
أنا بدأت في عملية التفاوض وأنا وزير خارجية، وكانت مهمتي الأساسية التوصل إلى تفاهم حول اتفاقية السلام، وفعلاً تم التوصل إليه في كامب ديفيد، وعندما عاد الرئيس السادات من واشنطن قابلته في اليوم التالي وطلب مني أن أرأس الحكومة، وقبلت برغم أني كنت قد رفضت هذا التكليف قبل ذلك، وبالمناسبة يجب هنا أن أذكر للحقيقة والتاريخ أن الرئيس كارتر كان له دور مهم في إبرام الاتفاق بين مصر وإسرائيل، خاصة عندما حدث خلاف حول مادة تعالج موقف مصر بالنسبة لاتفاقية الدفاع العربي المشترك في حالة حصول حرب بين إسرائيل وأي دولة عربية، والتفاوض حول هذه المادة لم يكن مع الجانب الإسرائيلي بل كان مع كارتر الذي لعب دورًا كبيرًا في حل الخلاف. المهم أعود لسؤال لماذا قبلت التكليف بعد كامب ديفيد، أنا كنت أعتبر أنه لابد من أن تسترد مصر كل أرضها، لأن احتلال سيناء كانت فيه مهانة كبيرة جدًا لكل مصري بصرف النظر عن انتمائه، وهناك أمر مهم هو أن احتلال إسرائيل لسيناء كان يتم استخدامه من المتطرفين في اليمين واليسار على السواء، حيث كانوا يتهمون نظام السادات بعدم القدرة على تحرير سيناء وكان هدفهم القضاء على نظام الحكم.


الفخر بالتطبيع برغم فشله!


- لكن هذا السلام الذي تتحدث عنه هل كان سلامًا عادلاً وشاملاً كالذي كان يطالب به عبد الناصر مثلاً في خطاباته وحواراته؟
بعد اتفاق كامب ديفيد دخلنا في مفاوضات مع الجانب الإسرائيلي على أساس الورقة الثانية مع كامب ديفيد والخاصة بحقوق الفلسطينيين، وبكل أسف ياسر عرفات لم يقبل المشاركة هو والملك حسين، وفي ذلك الوقت لم يكن معقولاً أن يكون هدف الجانب المصري هو أن يتفاوض عن الجانب الفلسطيني، بل كان يتفاوض نيابة لوضع النقاط الأساسية، وعندما يحدث تفاوض بين الجانب الفلسطيني والجانب الإسرائيلي تكون مصر قد توصلت إلى الحصول على أوضاع تمهد للفلسطينيين إنشاء دولتهم، من يطلع على المراجع الإنكليزية حول الاتفاقية سيجد هذا الكلام، وأنا أذكر جملة قلتها في بياني أمام مجلس الشعب في الجلسة الخاصة بالاتفاقية، قلت إن الاتفاقية لا تمس على وجه الإطلاق الوضع الفلسطيني والحقوق الفلسطينية، وأنني أرى أنه في المستقبل لابد للفلسطينيين أن يستطيعوا إنشاء دولتهم المستقلة، وشخصيًا كان أمامي في ذلك الوقت تحدي التفاوض مع الإسرائيليين لعقد اتفاقية السلام والتفاوض معهم على اتفاقيات التطبيع في جميع المجالات "22 اتفاقية".

- وهل أنت فخور بذلك بعد كل هذه السنين التي ثبت فيها عدم حرص إسرائيل على تحقيق سلام حقيقي؟
طبعًا أنا فخور بذلك، لأن أهم شيء في هذه الاتفاقيات أنها لم تمس سيادة مصر على وجه الإطلاق ولم يرد فيها أي التزام على مصر تجاه إسرائيل، بل يتم معاملة إسرائيل كأي دولة أخرى تربطني بها حالة سلام، أما الكلام عن التطبيع من عدمه فكل هذا كلام خارج نطاق مهمتي الأساسية، التي كانت التفاوض باسم مصر في اتفاقيات السلام والتطبيع، والأخيرة متروكة لسياسة الحكومة الموجودة التي تنظر لها بالطريقة التي تراها أفضل لمصر سواء في الظروف الحالية أو المستقبلية، وعندما كانت إسرائيل تقول لمصر إن ما يربطنا سلام بارد، كان الرد هو أنتم تصفون السلام بأنه بارد وساخن، وهذا ليس معيارًا، المعيار الأساسي هو هل مصر لم تنفذ أي بند من اتفاقية السلام واتفاقيات التطبيع، إنما تقول لي كنا نريد سائحين مصريين يحضرون إلى تل أبيب، فهذا كلام خارج الموضوع.

- إذن مصر لم تجمد أي بند في اتفاقيات التطبيع كما يدعي بعض كتاب الصحف الحكومية أحياناً؟
على وجه الإطلاق ولغاية النهارده.

- إذن يرجع فشل التطبيع منذ عهد السادات وحتى الآن إلى الموقف الشعبي وليس الموقف الرسمي، طيب، هل كان السادات مدركًا أن الشعب لن يستجيب للتطبيع؟
(بعد صمت) أريد القول إن الرئيس السادات كان يقود المسيرة الشعبية، ويحس بنبض الجماهير، وكان على اتصال بالشعب، لكن الرئيس القائد هو الذي يقود شعبه لكي يجهزه لقبول أوضاع محددة وهذه كانت مهمة الرئيس السادات وليست مهمتي.

- لا يوجد أي دليل على أن السادات كان يدرك نبض الجماهير؟
لا كان يدرك نبض الجماهير، بدليل أنه عندما عاد من زيارة القدس وجد حوالي 5 ملايين مصري ينتظرونه في المطار.

- لا يوجد ما يؤكد هذا الرقم ناهيك عن أنه كان خروجًا بأوامر الحكومة؟
لا، لم يكن بأوامر، لكن على أي حال فإن الشخص الذي يتولي قيادة مصر وقتها، لا تستطيع أن تقول إن كل ما تريده الجماهير يربط الرئيس بسياسة معينة، لأن الرئيس إلى جانب مطالب الجماهير، له مهمة أخرى وهي أن يقود شعبه إلى أوضاع وسياسات معينة، هو بدأ يشتغل فيها، وبعدها كان هناك إجماع شعبي على تأييده في ذلك الوقت.

- لكن هذا مفهوم مناقض للديمقراطية، ثم بمناسبة الديمقراطية، لماذا عندما اقترحت على السادات عمل استفتاء عن كامب ديفيد لم يلق هذا الاقتراح قبولاً؟
لأنه كما قلت لم يكن ضمن مهام الرئيس في ذلك الوقت التوصل إلى اتفاق سلام لكن الوصول إلى اتفاق يحدد العناصر الأساسية التي يتم التفاوض بناء عليها.

- ولماذا لا يكون قد رفض لأنه كان متوقعًا عدم الحصول على تأييد الشعب؟
لا، هو كان متوقعًا لتأييد الشعب.

- طيب، لماذا رفض السادات اقتراحك بعمل الاستفتاء؟
هذه تقديراته السياسية، وهو الشخص المسؤول عن اتخاذ القرار، وله وجهة نظر معينة، ويقود شعبه لكي يتقبل السياسات الجديدة، وبالمناسبة أنا اتفقت مع الرئيس السادات أن أخرج من الوزارة بعد انتهاء المفاوضات، وفعلاً تركت الوزارة بعد أن حققت اتفاقية السلام.

مع هيكل

-هناك كلام ذكره بالتحديد محمد حسنين هيكل ونقلته عنه الباحثة الدكتورة مايسة الجمل حول قبولك لرئاسة الوزراء، مفاده أن السادات كان يفكر في أن يأتي بنائبه وقتها حسنى مبارك ليتولي منصب رئاسة الوزراء، لكنه أسند إليك المنصب بناء على نصيحة من السفير الأميركي وقتها هيرمان ايلتس، وبالمناسبة موسى صبري أكد صحة هذه الواقعة لكنه لم يذكر أن النصيحة كانت من السفير الأميركي بل أنها كانت نصيحة من أصدقاء ما تعليقك؟
لا علم لي بهذا على وجه الإطلاق، ولو كان ترشيحي لرئاسة الوزراء قد جاء من غير الرئيس السادات كنت لن أوافق، خاصة أنني قبلت المنصب في ظل ظروف شائكة، توتر ومقاطعة مع الدول العربية، والوضع الاقتصادي في مصر لا يسر أحدًا، ولازم الإنسان الذي يتقدم لمنصب مثل هذا يبقي عنده أولاً ثقة في نفسه بأنه يستطيع أن يحقق اتفاق سلام مع الجانب الإسرائيلي، لأن المفاوضات ليست نزهة ولا عملية "رايحين جايين" ونطلع في التليفزيون وبيانات في الإذاعة وكلام مثل هذا، هذه مسؤولية، والحمد لله المفاوضات تمت وانتهت بانسحاب إسرائيل من كل سيناء التي تقدر بنحو 60 ألف كيلومتر مربع وما حصل بعدها من خلاف حول طابا، كانت طابا تمثل 1% من الحدود، وهو خلاف لم يحدث وقت أن كنت موجودًا في السلطة.

- ولكن برغم كل هذا يوجه لك الاتهام بأنك حصلت على منصبك بفضل الأميركان لماذا؟
هذا لم يحدث وعندما تقرأ كل المراجع التي كتبت عن حرب 1973 وما بعدها من مفاوضات فلن تجد فيها أي إشارة إلى كوني قادمًا إلى المنصب، والسفير الأميركي وأي أحد آخر لا يعرف هل كنت سأقبل المنصب أم لا، أنا طبعًا كانت لي صلة بمعظم السفراء الموجودين وقتها، لكن هذا أمر وقبولي للمنصب أمر آخر، لقد قبلت رئاسة الوزراء كتحد، وهي لم تكن الهدف الذي سعيت إليه في يوم من الأيام على الإطلاق.

- تربطك علاقة وثيقة بالأستاذ هيكل، هل عاتبته على هذه المعلومة التي ذكرها؟
أنا أؤمن بحرية الرأي وأن كل واحد يقول ما يريد قوله، لكن إثبات صحة هذا الكلام هو المهم بالنسبة لي، هل يستطيع أحد أن يثبت أن هيرمان أيلتس ذهب للسادات في ذلك الوقت وتدخل في الشؤون الداخلية لمصر، وهذه نقطة حساسة جدًا عند كل رؤساء مصر سواء كان عبد الناصر أو السادات أو الرئيس مبارك ولا يمكن أبدًا قبول أي تدخل أجنبي، ولو كان السفير الأميركي نصح السادات فعلاً لكان السادات قال لي. ثم أعود لأقول إن الظروف التي توليت فيها المنصب وكل المشاكل والأوضاع لم تكن أبدًا تدفع أي إنسان ليطمع في هذا المنصب، لأنك تحكم على نفسك بالفشل مسبقًا، يعني ما الذي يجعلني أقبل مهمة إجلاء إسرائيل عن سيناء وإنهاء وضع كان يدفع اليسار المتطرف واليمين المتطرف إلى القضاء على نظام الحكم وهذا كان أهم شيء بالنسبة لي فأنا مؤمن بانتظام الحكم مع التطور الدائم في الوضع الاقتصادي والتطور خطوة خطوة نحو مزيد من الديمقراطية، هذا ما يهمني أما المنصب فلا يهمني إطلاقًا.

- هل صحيح أن الذي قدمك لمجلس قيادة ثورة يوليو 52 كان محمد حسنين هيكل كما ينسب إليه؟
لا لم يكن هيكل، وللعلم أنا تربطني بالأستاذ هيكل صداقة واحترام متبادل، وقلت له كثيرًا، أنا يهمني أن أقرأ لك لكن لا أكون متفقًا معك في العديد من وجهات النظر.

- وهل هي علاقة عادية أم علاقة ودية؟
ودية للغاية. وكل واحد طبعا له اتجاه ورأي، وهو له اتجاهه ورأيه الخاص، ومؤخرًا قرأت محاضرة ألقاها هيكل في لبنان، وعندما قابلته قلت له: "أنت تلبس نظارة سوداء وأنت تنظر للمستقبل، وأنا ألبس نظارة نظر وأنا أنظر للمستقبل"، أدى كل الحكاية، حقيقة أنا بطبعي متفائل ولست متشائمًا، لكن لازم عندما أقول أن هناك هدفًا أريد الوصول إليه أعرف ما الذي يجب أن أفعله لكي أصل لهذا الهدف.

- في رأيك لو لم تكن قد حدثت قطيعة بين السادات وهيكل هل كان يمكن أن تتغير مواقف هيكل من عملية السلام مع إسرائيل؟
لم أعرف أن هيكل قال مرة في عمره أنه ضد السلام.

- أقصد السلام الساداتي؟
لا أعرف.

- لماذا لم تحاول وأنت صديق لكل من هيكل والسادات التوسط لحل الخلاف بينهما؟
لا، لم أتدخل، هذا ليس من طبعي.

.....

في الجزء الثاني من الحوار:
- رفضت رغبة السادات في إيصال مياه النيل إلى إسرائيل واعترضت على اعتقالات سبتمبر
ـ أخذت قطع من الحديد إلى اجتماعي مع عبد الناصر وقلت لأحد النواب: لو ما سكتش هاضربك بالجزمة.

- هذه قصة خلافاتي مع البابا شنودة.

- خرجت من رئاسة الوزارة باتفاق مسبق مع السادات وليس بسبب ضغط أعدائي كما قال موسى صبري.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.