العصفور الأبيض... صباح الخير (6)

العصفور الأبيض... صباح الخير (6)

18 نوفمبر 2018
+ الخط -
استيقظت على صوت رعد وبرق وأصوات مطر شديد يتساقط على سقف غرفتي ويصطدم بشباك الغرفة فيحدث صوتاً يتداخل مع صوت طيور تصيح وتتخبط بالنافذة وكأنها تحاول فتحها، أو إيقاظ من ينام داخل الغرفة.

تحركت من سريري بعدما تأكدت أننا في منتصف الليل وبقي وقت ليس بالقصير على بزوغ الفجر، واتجهت إلى النافذة فإذا بي أرى من خلف الزجاج عصفوري الأبيض ومعه جمع غفير من الطيور وهم جميعاً في حالة يرثى لها من الإعياء.

فتحت بسرعة شباك النافذة فتساقط على أرض الغرفة جمع كبير من الطيور وهي ترتجف وأجسامها مبللة ولا تستطيع أن تقف على أرجلها، فتوجهت إلى العصفور الأبيض متسائلاً: ما هذه الحالة التي أنتم عليها؟ ألم تقولوا إن حاكمكم الصقر بلغه حالكم، وعمل على زراعة أشجار غابتكم التي كان قد قطعها من قبل، وملء النهر بالماء لتعود للغابة حيويتها وتنمو أشجارها وتعود الطيور لبناء أعشاشها وتعود البطة للسباحة في النهر! ألم يكن هذا هو قولكم من قبل؟.. فأين هي الأعشاش التي بنيت، وأين الماء الذي امتلأ به النهر؟

قال العصفور الأبيض: لم يفعل حاكمنا الصقر أي شيء مما وعد به، وها نحن تتناقص أعدادنا جراء المرض والجوع وهروب الكثير إلى الغابة المجاورة لغابتنا، والآن ليس لنا أعشاش ولا مياه نظيفة ونرى أنه لا بوادر قريبة لحدوث هذا، فلا أحد يهتم لحالنا أو ينشغل بمصيبتنا.


قلت: أي أن الصقر حاكمكم لم يفعل شيئا مما وعدكم به.. لماذا إذن تصمتون وبحقوقكم لا تطالبون، هل أنتم على ما يحدث لكم راضون؟ واستدرت لأم علي وعمر وكانت تقف بجواري تستمع للحوار بيني وبين الطيور، وسألتها: ما رأيك فيما سمعتِ وبمَ تشيرين؟.. فاستدارت ناظرة خارج الغرفة وكأنها تذكرت شيئا كانت قد نسيته وقالت: حاضر يا علي أنت وأخوك عمر سآتيكما بالماء على الفور لتشربا.. وخرجت من الغرفة وكأنها لم تسمع سؤالي.

قال العصفور الأبيض: تتهمنا بالسلبية وبالسكوت عن حقوقنا وبالرضا عن حالنا هذا!.. لا.. نحن لم نسكت فقد اهتم بحالنا العصفور الذهبي وهو واحد منا فصيح عنا، يحترمه الجميع ويقدره ويشكو له كل منا حاله فيفهمه ويستوعبه.

قلت: وماذا فعل هذا الذي يهتم بحالكم، وأنا أراكم مازلتم على وضعكم!
قال العصفور الأبيض: سمع جنود الصقر حاكمنا بصاحبنا واهتمامه بأمرنا وذاع صيته وسمع به كل سكان الغابة، وبعد فترة حمل شكاوانا وذهب لوكيل الصقر الحاكم يقدمها له ويشرح له محتواها ومن يوم أن دخل عليه القصر لم يخرج، وقد مضى أكثر من شهر، ولما سألنا عنه قالوا غادر بعد ساعة من دخوله على قصر الحاكم.

قلت: وماذا بعد؟ هل عرفتم أين مكانه؟
قال العصفور الأبيض: سألنا أولاده فقالوا إنهم سألوا عنه في كل مكان فلم يعثروا له على أي أثر.. وبعد فترة وجد أحد الطيور في مكان الماء الموجود خلف قصر حاكمنا الصقر ريشاً من ريشه، وقِطعاً من أظفاره وأتى بها إلينا فتعرفنا عليها وتأكدنا من أنها لصاحبنا.

فقلت: ثم ماذا فعلتم بعد اكتشافكم أن صاحبكم تم قتله من أجل جرأته في تقديم شكاواكم والتعريف بآلامكم، والاهتمام بأمركم؟
قال العصفور الأبيض: صحيح أن ريشه وأظفاره وُجدت في مكان الماء الذي يخرج من قصر حاكمنا الصقر، وصحيح أنه لم يعثر على باقي جسده، وصحيح أن حاكمنا الصقر لم يكن يحبه، وصحيح أن جنود الصقر كثيراً ما بحثوا عنه لمنعه من الاستماع لنا والحديث عن آلامنا ومآسينا، وصحيح أنه لم يره أحد وهو يخرج من قصر الصقر حاكمنا، وصحيح أنه ليس له مكان يذهب إليه غير بيته ومجلسنا.. لكن من أين لنا أن نعرف أنه قُتل ولم يمت ميتة طبيعية.

قلت: فلنفترض أنه مات ميتة طبيعية فلماذا لم يُعِدْ الجنود جسده لكم أو لأولاده؟ على الأقل حتى يدفنها الغراب على مذهب الطيور وحسب طقوسهم؟

قال عصفور من العصافير: لعله مات من الفرحة عندما وجد أن نائب الحاكم اهتم بشكواه وأحسن استقباله، ويمكن أن يكون الصقر الحاكم قد خرج له بنفسه ليستمع لشكاوانا فلم يستطع العصفور الذهبي أن يتحمل فرحة خروج الحاكم عليه واستماعه إليه فمات.
قلت: فليكن ولنقل أنه مات من الفرحة لأنه قابل حاكمكم الصقر فأين هو باقي جسده؟

تعالى صوت الطيور وهي تتحدث عن حظ العصفور الذهبي السعيد الذي قابل الحاكم وتحدث إليه وجالسه، وقال قائلهم كم هو متواضع حاكمنا الصقر إذ خرج إليه وتحدث معه واستمع إليه، ولم يفعل مثل كثير من الحكام الظلمة فهو لم يطرده ولم يحبسه ولم يؤذه، ولكنه قابله وجالسه.. وأكيد أنه أكل وشرب معه.

قال عصفور: فعلاً عدل الحاكم من حظ الرعية والمحكومين، ونحن حظنا سعيد أن كان هذا الصقر المتواضع العادل هو حاكمنا.

فصاحت الطيور وسط دهشتي وتعجبي وقالت بصوت عالٍ تخنقه العبرة: يحيا حاكمنا الصقر .. يحيا حاكمنا الصقر .. يحيا حاكمنا الصقر.
59257FF4-4542-4A2B-849A-E42302D56A06
مجدي جودة

مستشار قانونى ومحام.. لى مؤلفين بدولة قطر أولهما المحاماة بين الماضى والحاضر، والثانى القضاء بين الشريعة والقانون.أحلم بوطن يسع الجميع لا إقصاء فيه لأحد ولا تمييز لأحد على حساب أحد.