من منجّد كراسيّ إلى صحافي!

من منجّد كراسيّ إلى صحافي!

16 نوفمبر 2018
+ الخط -
شاءت الظروف أن تكرّس الثورة السورية، خلال فترة اندلاعها، المزيد من حالات الفوضى الخلّاقة، وبامتياز. هذه الفوضى حوّلت الكثير من الشباب، من كان لديه الرغبة الفعلية، بأن يحوّل مسار حياته المعيشية، الضنكة، ورغبة طموح مئة وثمانين درجة باتجاه عكس عقارب الساعة، ومنهم من استطاع أن يوجهه إلى غير ذلك..

قلّة من الشباب ممن "ليس له لا بالعير ولا بالنفير"، من أراد أن يحول طريق حياته إلى مضامين ورؤى أخرى أكثر انفتاحاً، ومنهم من لجأ إلى الفرار من بواعث الموت الزؤام المتربّص بهم في كل حين واللجوء إلى حيث دول النعيم، الدول الأوروبية، ومنهم ممن ساعدتهم ظروفهم المادية على السفر بعيداً وطلب الحماية الدولية في دول أكثر غنى، ومكانة ومستقبلا.. كبريطانيا، والولايات المتحدة الأميركية، وكندا وسواها، مغامرين بأرواحهم غير آبهين بمخاطر البحر والظروف البرية، والحواجز الأسمنتية والحديدية التي يصعب اجتيازها، إلا أنهم تمكنوا من عبورها وفرملتها. والسبب هو التوق إلى الحرية والحال المؤسي الذي فرض عليهم، والحياة الصعبة - الكئيبة التي كانوا يعيشونها، فضلاً عن الحاجة والفقر المدقع الذي جعل منهم أقوياء أشداء، متحفّزين للحياة، وأكثر صلابةً من ذي قبل، ولم يعنِ الموت بالنسبة لهم شيئاً، الأهم من هذا وذاك الوصول إلى مكان آمن يُكملون فيه بقية حياتهم التي مورست بحقها شتى أنواع القهر والذل والإهانة والحرمان..!

ومن بين هؤلاء الشباب الطموح الذي استطاع الهرب والنفاذ بريشه، جراء ما حدث، والسفر بعيداً عن أسوار الوطن، "طاهر"، وهو اسم مستعار.. الذي تمكن من أن يشغل مدينة بأكملها، وأن يخرق الصعاب ويصل إلى مبتغاه، وبسهولة، وهذا الطريق الذي سلكه، على الرغم من العثرات الكثيرة التي وقفت حجر عثرة في تحقيق طموحه، الوصول إلى ما يريد، برغم أنف الجميع، إلى الرغبة الأساس، كما فعل غيره من ممتهني صاحبة الجلالة.


تمكن طاهر من أن يصل إلى المسؤول الذي كان في يومٍ ما مجرد إنسان عادي، وهو بمثابة البعبع الكبير بالنسبة إلى غيره من أبناء جلدته، ويقوم بلقائه ومحاورته، ويناقشه، وبكل صفاقة، محاولاً إدراج المستحيل لإيهامه بالأخطاء الكثيرة التي يرتكبها موظفوه من أجل العمل على ابتزازه، وهو منكبّ على مكتبه، وفي عزّ النهار، وبمعرفة الموظفين العاملين فيه، وبصورة خاصة لجان الشراء التي تقوم بدورها بدفع ما يقرّره مدير الدائرة أو المؤسسة، لم لا؟ لأن أمثال هؤلاء المسؤولين الذي يشغلون المناصب الإدارية، كمدير عام، أو مدير فرع، ومدير مؤسسة أو شركة، وحتى محافظ، وغيرهم من الموظفين الصغار يغتصبون ويسرقون ما لذَّ وطاب من خيراتها، وهي فرصتهم الوحيدة في نهب المال العام، واكتناز خيرات هذه المديريات والدوائر الحكومية التي كانت في يوم ما تُجسّد مأواهم وسترهم الوحيد، ومعيشتهم التي كانت في يومٍ ما "لحم أكتافِهم من خَيراتها"، ورغم ذلك، ظلّت أبوابها مشرّعة للّصوص المتلونين!

وحده طاهر، بأسلوبه، ولباقته، وحسن تصرفه، وعقله الراجح، ومعرفته بحيثيات الأمور، مع ما لديه من إمكانات بسيطة جداً من أن يُجسّد كل ذلك، وهو العامل البسيط، الذي كان يقوم بـ "تنجيد الكراسي"، أو "القلاطق" المكتبية، أن يصل رسالته، بحنكته المعهودة، وهو الذي ليس له أي معرفة مسبقة بمهنة الصحافة، وإنما بهيبته، وشخصيته المقبولة تسلّق جدرانها ودخلها من واسع أبوابها، بهدف التكسّب المادي، وكيف ما كان.

هو هكذا، وصل إلى بداية الخيط الذي كان حلماً طالما راود أفكاره، ومنذ أن كان على صلة بأصدقاء ومعارف يركبون الموجة ذاتها، وإنما بمعرفة ودراية، وليس تطفلاً على المهنة التي أحبّوها وعشقوها ونجحوا في ممارستها ووصّلوا صوت الشعب المقهور إلى أذن وعين المسؤول القابع في برج عاجي، والمستفيد مع عدد من بقية الموظفين الذين يثق بهم، والعمل على اقتسام الكعكة وما تدرّه عليهم من مبالغ مالية بعيداً عن أجهزة الرقابة، التي هي الأخرى لم يكن يهمّها سوى تفشّي مرض النهب والسرقة وتزوير المستندات، والعمل على تحريف مضامينها في تلك المديرية أو في غيرها من أجل الاستفادة منها، وتعبئة جيوبهم، بدليل الحال الذي وصل إليه أغلبهم، بامتلاك البيوت المترفة التي يقيمون فيها، والسيارات الفارهة التي يركبونها، والمزارع التي يملكونها وتحتضن أسرهم مع نهاية أيام الأسبوع، بحفلة استمتاع قد ترضي ضمائرهم الميتة، وهذا ما دفع بالكثير من حملة الشهادات العلمية بالسعي، جاهدين، من أجل إيجاد الفوز بالعمل في هذه الوظيفة التي تبيض ذهباً!.

استطاع زميلنا أن يقلّد عمل أصدقائه، وأن يؤسس الصورة والهيكلية التي أرادها من خلال الموادّ الصحافية التي كان يعدّها له بعض الأصدقاء المتميّزين مهنياً في هذا الإطار، والعارفين بها معرفةً تامّة. زميلنا الجديد، القديم طاهر.. بحنكته، وأسلوبه المرن، وصل إلى ما يريد.

كان يرسل ما يكتبه له الصحافيون المتمرّسون، ويقوم هو بدوره بإرسال ما يعدّونه له إلى إدارة تحرير الصحيفة التي يراسلها.. ويوماً بعد آخر اتسعت معرفته ورقعته الجغرافية بالتنقل على دراجته النارية المشتراة حديثاً، من أجل لقاء المسؤولين داخل المدينة التي يقيم فيها وخارجها، وأدرك حينها مدى أهمية العمل الذي يقوم به، ومكانته، ومدى انعكاسه على الناس، وعلى المسؤولين أصحاب القرار الذين صاروا يهابونه، ويحيطونه بمحبتهم، واسترضائه من أجل غضّ النظر عن الكثير من السلبيات التي تعوق عمل المؤسسة أو المديرية، والسكوت عن هذا الخطأ أو ذاك الذي يرتكبه موظفوها.. هذا يعني العمل على دفع مبالغ لا يُستهان بها، وهو في الوقت نفسه يقوم بإرسال جزء من المبالغ التي يدفعونها له إلى الجهات المسؤولة عن نشر الصحيفة، أو بالعمل على إرسال مواد غذائية تنتجها مدينته، وعلى الأغلب كانت "الجبنة" البلدية التي تنتجها أغنامها، والمعروفة بطعمها وجودتها وغرابتها بالنسبة للمحررين الصحافيين المقيمين في العاصمة، وهذا ما دفع به إلى إرسال الكثير من هذا وغيره لقاء نشر ما يرسله من تقارير وريبورتاجات صحافية.

ما يلفت، وفي هذا ما يثير أكثر، أن زميل المهنة الجديد، "المعتّق"، لا يعرفُ ألف باء الكتابة أو القراءة، ومهمته تنحصر فقط في البحث عن الوثائق المزورة، بطريقته الخاصة، ويسلمها بدوره إلى ذاك الصديق الصحافي الذي يقوم بدوره بصياغة وكتابة ما يطلب منه لقاء أجر مدفوع القيمة مسبقاً.

وإذا ما حاولنا أن نقف عند وجهة زميلنا، وهو الذي كان مجرد موظف صغير، وعاملاً في ورشة خاصة لتنجيد الكراسي، استطاع أن يصل إلى قلوب الناس، وأن يُرعب المسؤول، وأن يحقّق أهدافه حتى وصل به الحال في نهاية المطاف لتأسيس صحيفة أسبوعية، واستمرّ في رئاسة تحريرها لأشهر في بلاد الاغتراب!

هكذا هم زملاء المهنة، وللأسف، تسلّقوا مكانة غيرهم، واستوطنوا قلوب الناس، وأرعبوا المسؤولين باختلاق الكذب والحيل التي كانت طريقهم السالك، وبسهولة!
6C73D0E8-31A0-485A-A043-A37542D775D9
عبد الكريم البليخ
صحافي من مواليد مدينة الرقّة السوريّة. حصل على شهادة جامعيَّة في كلية الحقوق من جامعة بيروت العربية. عمل في الصحافة الرياضية. واستمرّ كهاوي ومحترف في كتابة المواد التي تتعلق بالتراث والأدب والتحقيقات الصحفية.