مشبوه!

مشبوه!

15 نوفمبر 2018
+ الخط -

لم يتمكن من منع نفسه من الضحك، حين قال له الضابط إن سبب القبض عليه وجرجرته إلى القسم، هو الاشتباه في عزمه على سرقة محل المجوهرات الذي ظل يحوم حوله طيلة الأسبوع الماضي، طبقاً لما صورته كاميرات المراقبة التي ركّبها صاحب المحل، لكن الصفعات المتتالية التي نزل بها الضابط على قفاه، أوقفت قدرته على الضحك، ثم أدخلته في نوبة بكاء عارمة، ظنها الضابط الشاب ندماً سيعقبه إقرار بالذنب، وإرشاد عن شركاء مختبئين محتملين.

هل كان الضابط سيصدقه لو اعترف له أنه كان يحوم حول محل المجوهرات طيلة الأسبوع الماضي، فقط ليرى الرجل الذي قتل أباه قبل خمسة عشر سنة؟ وإذا كان الضابط مهتماً إلى هذا الحد بسلامة محل المجوهرات من أبسط اشتباه، فكيف سيتعامل إذن مع اعتراف كهذا يخص صاحب المحل؟ هل سيجد نفسه عندها متلبساً بتهمة الشروع في القتل أو التخطيط له؟ هل سيصدقه الضابط لو قال له إنه حاول إجبار نفسه على عدم الذهاب إلى المحل، لكنه فشل في ذلك بعد أن عرف قبل أسبوعين من عمه بتفاصيل الدور الذي قام به ابن تاجر الذهب الشهير في مقتل أبيه، الذي رحل عن الدنيا وهو لا يزال في اللفّة؟

هل سيصدقه الضابط لو أقسم له أنه لم يكن يدري ما الذي ينبغي عليه أن يفعله بتلك التفاصيل الثقيلة؟ هل يجب عليه أن يقتل ابن التاجر الذي لم يعد شاباً طائشاً، بل أصبح وريثاً لتجارة أبيه وثراءه ونفوذه؟ وكيف سيفعل ذلك إن قرر فعله؟ وإذا لم يكن من الصعب توفير السلاح الذي سيأخذ به ثأره، فهل سيمتلك عزيمة القتل حين يحين وقتها؟ أم سيجبن عن ذلك خوفاً على مستقبله وتقديراً لخوف أمه وحزنها؟ هل يكتفي بمواجهة القاتل بما فعله قبل سنين، حين صدم والده المسكين بالموتوسيكل المستورد الضخم فأحدث فيه جروحاً نافذة أدت إلى وفاته بعد يومين؟ وكيف سيستقبل القاتل الطائش تلك المواجهة؟ هل سينكر ما فعله أم سيعترف به ويطلب الصفح والغفران أم أنه سيواصل جبروته ويقتله كما قتل أباه من قبل؟ وإذا كان القانون لن يعاقبه على أحلامه الطفولية التي رأى نفسه فيها يركب شاحنة ضخمة ويدهس الجواهرجي بعد خروجه من المحل؟ فهل كان سيعاقبه لو طاوع رغبته في البصق على الجواهرجي أو "لزقه على قفاه" قبل أن يجري هارباً وسعيداً بما حققه من انتصار مبدئي؟


أربكه ارتباك الضابط حين رآه يواصل البكاء بحرقة، وتأثر بكوب الماء الذي أحضره له، وبطلبه منه أن يهدأ ويوحد الله ويعترف بالحقيقة "أحسن له". ألن يكون أحسن له فعلاً لو اعترف بكل شيء ليخرج نفسه من هذا الموقف السخيف الذي لن تسامحه عليه أمه حين يبلغها؟ لكن من يضمن له أن هذا الضابط لن يكون على صلة بسابقيه الذين ساعدوا قاتل أبيه على الإفلات بجريمته، حين كتبوا كذباً في محضر الحادث أن القاتل ابن القحبة هو الذي أبلغ بنفسه عن الحادث وسلم نفسه لقسم الشرطة بعد التأكد من إسعاف المصاب، مع أن رجال أمن المستشفى الذي يعمل فيه الأب هم الذين قبضوا على المجرم بعد الحادث مباشرة، ومنعوه من الهرب من مسرح الجريمة، وسلّموه هو والموتوسيكل إلى الشرطة، قبل أن يختفي الموتوسيكل في نفس الليلة من قسم الشرطة، ويقوم أهل القاتل بعد اختفائه بتحرير محضر يبلغون فيه عن سرقة الموتوسيكل، ويتم تحرير المحضر بتاريخ قديم بالتواطؤ مع ضباط القسم، ليضيع حق أبيه بعد أن اختفت أداة الجريمة، بل ويتحول بعدها القاتل إلى مظلوم مسكين، فوجئ بمن يرمي نفسه عليه خلال قيادته الموتوسيكل، ليطلب ربما تعويضاً من أبيه تاجر الذهب الكبير، كما ألمح المحامي الشرموط الذي وكلته العائلة الغنية لابنها.

"صحيح أن المصاب طبيب، لكن دعونا لا ننس أنه طبيب تخرج منذ عامين ليس إلا، وأنجب قبل عام، ومن يدري ربما اشتدت عليه مصاريف ابنه وزوجته، فتفتق ذهنه عن تلك الحيلة الجهنمية، وقرر أن يرمي بلاه على جاره صاحب محل المجوهرات الشهير الذي يشهد أهل المنطقة كلهم له بفعل الخير وإطعام الفقراء والمساكين، ومن يدري ربما صورت له مخيلته كطبيب أن الأضرار التي ستحدث له ستكون طفيفة سهلة العلاج؟ فتصور حينها أنه سيفلت بفعلته بعد أن ينال من والد الشاب المسكين ما يحل أزماته المالية، مع أنه لو كان قد جاء إلى الأب الذي لا يقفل أبواب محله في وجه أحد، وصارحه بظروفه لما تأخر عنه كما لم يتأخر على أحد ممن لو طلبتهم شهادتهم في حقه لقضيتم الأيام والليالي في تسجيل أقوال الشاهدين بكرمه وفضله وإحسانه"، هكذا قال أشهر محامي البلاد، الذي طالب النيابة بضرورة الإسراع في مخاطبة الجهات الأمنية لسرعة ضبط الموتوسيكل الذي سُرِق من داخل فناء قسم الشرطة، مؤكداً أنها حادثة مقلقة لكنها تحدث في كل بلاد الدنيا، ولا داعي لتضخيمها كما فعلت بعض الصحف الصفراء التي لا تخفى على كل وطني مخلص رغباتها الشريرة في إثارة الأحقاد بين الطبقات وزعزعة الاستقرار وتمزيق النسيج الاجتماعي، طالباً الإفراج عن موكله بضمان محل إقامته، حتى تتم استعادة الموتوسيكل المسروق وفحصه من قبل لجنة مختصة ترفع بصمات الجناة الحقيقيين، أو حتى يفيق المصاب من غيبوبته ويعترف بما خطط له إذا كان قد خطط له، "فنحن لا نريد ظلم أحد كما ظُلِم موكلي"، وفي كل الأحوال، سيتنازل الشاب المظلوم الذي تعرض للفزع والترويع عن حقه من المصاب، تقديراً لظروفه ومراعاة لأحواله الاجتماعية.

حتى الآن لا يفهم كيف تماسكت أمه وأسرة أبيه، بعد أن استجابت النيابة لطلبات المحامي الشهير، ليخرج قاتل أبيه قبل يومين من مقتل أبيه، الذي يبدو أن قهر أمه وأهله قد وصله في غيبوبته فأجهز عليه ورحل إلى جوار الله ؟ حتى الآن لا يدري كيف لم يفكر أحدهم طيلة هذه السنين في الانتقام من القاتل اللعين الذي ظل لسنوات يروِّع الشارع بأكمله بسباقاته المتكررة هو وأصدقاؤه الفرحين بموتوسيكلاتهم الضخمة المستوردة؟ لا يفهم كيف اكتفت أمه بمغادرة عش الزوجية الذي جمعها بحبيبها، لتعود إلى بيت أبيها مقررة أن تنسى كل شيئ في الدنيا إلا ابنها؟ لا يفهم كيف طلب أهل أمه من أهل أبيه أن يتوقفوا عن تقديم البلاغات ورفع القضايا لأنها لن توصل إلى شيء، وأن ما فعله المحامي الشهير في النيابة يمكن أن يفعل أضعافه في المحكمة ليجدوا أنفسهم ربما متهمين بسرقة الموتوسيكل أو أي مصيبة أخرى لن يغلب في تدبيرها بل وربما قاموا بخطف الطفل المسكين ليجبروا الأسرة على الصمت؟ لا يفهم كيف ظنت أمه أنه لن يعرف أبداً بما جرى، ولا كيف توقعت أنه حين يعرف ما جرى سيؤيدها على موقفها المتخاذل الجبان، وأنه سيكتفي بالصمت حين يعرف بما حدث لأبيه الذي قُتل مرتين، مرة حين صرعه الموتوسيكل اللعين، ومرة حين ضاع حقه هدراً، ولم يحصل من قاتله على تعويض أو حتى اعتذار، بل حصل أهله المساكين على تهديدات بأن يتوقفوا عن النبش في ملفات القضية لكي لا ينالهم غضب التاجر الذي لا تُحصى جمايله وأفضاله على كثير من كُبارات البلد.

لم يفهمه الضابط الشاب حين سأله فجأة عن اسمه، ظن أن دماغ المسكين لسعت بفعل الكم قفا التي أكلها على خوانة، وفكر في أن يعدل له دماغه بكذا قفا جديد، لكنه حين رآه يلح في معرفة اسمه أجابه ليجئ بآخره، لكنه فوجئ به يسأله بكل بجاحة، ما إذا كان قريب اللواء الفلاني أو العقيد العلاني، ذكراً له أسماء كان يعرف بعضها من بعيد لبعيد، وهنا قرر الضابط النبيه أن يأخذه على الهادي، إذ لربما كان وراءه صلة بتنظيم إرهابي يستهدف كبار ضباط الشرطة وبعض محلات المجوهرات، وحين امتدت يد الشاب إلى جيبه الخلفي، عاجله الضابط وقام بتطويقه، وهو يلوم نفسه لأنه لم يقم بتفتيشه ذاتياً لحظة القبض عليه، ربما لأنه انخدع بملامحه الطفولية المذعورة حين تم القبض عليه.

"كسر كامل في عظمة الفخذ اليمنى، كسر كامل في عظمة الفخذ اليسرى، كسر متفتت في عظمتي الساق اليسرى، نزيف في الركبة اليسرى، كدمات وتسلخات وتجمعات دموية في أنحاء متفرقة بالجسم، نزيف داخلي، كسور بالغة في الجمجمة"، كان لديه إحساس أن الضابط الشاب سيتعاطف معه، حين يقرأ التقرير الطبي الذي أعطاه له عمه، هو وكل ما ظل يحتفظ به من صور بلاغات ومحاضر وشكاوى، لم يفرط فيها برغم مرور السنين، وتصور أن رد فعل الضابط المتعاطف سيشجعه على أن يحكي له الحكاية كلها، بدءاً من العملية الجراحية التي استمرت سبع ساعات لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من جسد أبيه المتهتك بفعل الاصطدام، ومروراً بسيرة أبيه العطرة ومستقبله الطبي الواعد الذي شهد له به كل أساتذته، الذين تضامنوا مع الأسرة في مطالبها بضرورة إنصاف أبيه لكن الجميع انشغلوا عنهم بعد ذلك بتلاهي الدنيا، وانتهاءاً بأمه التي تضاعفت صدمته حين عرف أنها حاولت الانتحار مرتين لتلحق بحبيبها، قبل أن تستعيد إيمانها بالقضاء والقدر، وتقرر دفن نفسها بالحيا في احتياجات ابنها ومتطلبات مستقبله.

حين رأى ملامح الدهشة التي ارتسمت على وجه الضابط وهو يسمع حكايته، تشجّع وفكر للحظات أن يطلب منه مساعدته رسمياً في إعادة التحقيق في قضية مقتل أبيه، لكن أوجاع قفاه الذي لا زال ملتهباً أقنعته بتأجيل الطلب إلى وقت آخر، يكون قد ملأ فيها يده أكثر من شرف الضابط، فمن يدري ربما كان ما يراه على وجه الضابط، ليس اندهاشاً بل خوفاً من انكشاف الحقيقة التي ربما كان أحد أقاربه متورطاً في حجبها؟ ومن يدري ربما وقع حظه في ضابط محترم ابن ناس إذا لم يكن قادراً على رد مظلمته، فلن يواصل ظلمه، وسيتركه لحال سبيله، أياً ما كانت حقيقة الضابط وطبيعة رد فعله، الأهم الآن أن يركز على طلب عاجل، يتمنى من الله مخلصاً أن يدرك الضابط أهميته ويسانده فيه، وهو ألا تعرف أمه بما حدث له، أياً كان ما سيحدث له.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.