رسالة إلى ذاتي من بعد آخر

رسالة إلى ذاتي من بعد آخر

04 أكتوبر 2018
+ الخط -
ليلة جديدة في الغربة، تشبه كثيراً ليالي الوطن في دفئها وسحرها، في وحشتها ووحدتها، في ذلك الألم اللذيذ الذي يشعرني بالحياة. أجلس وحيدة خالية البال في غرفتي الصغيرة في أحد مراكز اللجوء القاتمة في أوروبا، لا يجول في ذهني سوى كلمات محمود درويش السماوية وموسيقى مارسيل خليفة الناعمة. ما أجملها من ليلة برفقة هؤلاء ومن معهم من الشهداء.

تعود بي كلمات درويش إلى ذلك الزمن الماضي من طفولتي، التي انتعشت على نغم المقاومة وارتشفت من رونق الشهادة. ذلك الزمن الذي كان الآباء والأجداد يعلموننا فيه معنى أن تكون شهيداً، يزرعون فينا تلك الرغبة الجامحة للحب والتضحية سنبلةً سنبلة.

أذكر قناعتي المطلقة آنذاك بمقولة "يولد الفلسطينيون شهداء"، قناعة ترسخت في ما بعد بما ارتواه عقلي الغض من شعر وأدب المقاومة، إلى أن بدأت أكبر وأسمع مقولات أخرى تصف الفلسطيني وتنسب إليه الكثير من الأدوار: المقاوم، الثائر، المدافع عن شرف الأمة.. كثير من الصفات، كثير من الأدوار، قليل من الاختيار.


يولد الفلسطيني أمام القليل من الخيارات، أو انعدامها بالجملة، يولد محملاً بالمسؤولية، مثقلاً بالواجب. مسؤولية الدفاع عن آخر معاقل الأمة، واجب التضحية في سبيل حماية مقدساتها وشرفها. واجب نحمله بكل حب وعزم، ولكنه في نهاية المطاف يظل واجباً لا نقوى على رفض حمله.

أجد نفسي أحياناً كثيرة معترضة على كل هذه الأوصاف والأدوار، أجد نفسي ميالة أكثر للإيمان بأن الفلسطيني يولد عاشقاً وشاعراً وحراً. حر الروح، حر الفكر، وإن كان مقيد الإرادة. أجد الفلسطيني يولد عاشقاً حراً ثم يجبره المكان والتاريخ على أن يتحول إلى مقاوم شرس لينتهي به المطاف شهيداً.

المثير للسخرية في كل هذه الأدوار التي نلعبها هو عدم اختيارنا لها، يتم دفعنا من رحم الحياة نحو هذه الأرض المثقلة، نفتح عيوننا على واقع مقيد، مجرد من الفرص، منفصل عن العالم، مفكك من الداخل، نجد أنفسنا في سجن كبير خالٍ من الهواء، ورغم ذلك نقضي عمرنا في المحاولة مرة تلو الأخرى لصناعة واقع أجمل ولو كان خيالياً، من القليل الذي نملك.

يبدو منطقياً لي أن أشعر بالحنين أثناء الاستماع إلى أنغام مارسيل، لطالما كان الرجل مرتبطاً روحاً وفناً بفلسطين وألمها وأدبها، ولكنني أجد صعوبة في فهم هذا الشعور حينما يأتي خلسة في ظروف وأجواء ليست مرتبطة مع الوطن، كأن أكون جالسة على ضفة النهر في هذه المدينة الأوروبية التقليدية الغريبة، استمع إلى موسيقى الجاز القادمة من مقهى قريب، أراقب شعاع الشمس وهو يتحرك بين تلك الأغصان النائمة، أتابع الوجوه الشقراء تعبرني بنظرة خاطفة خالية من الاكتراث، كل منغمس في ذاته، ليس في هذه المدينة ما من المحتمل أن يذكرني بالوطن، إلا أن المنطق ينأى جانباً فأجد كل تفصيل يأخذني إلى هناك.

إلى تلك المساءات التي كنت أجلس فيها رفقة أمي وإخوتي تحت شجرة الزيتون نحكي القصص والنكات، نضحك عالياً كالأحرار، نرتشف الشاي على أنغام أم كلثوم.

إلى تلك الأيام المليئة بالمغامرة رفقة أخي الصغير، حيث نقرر الانطلاق إلى الجبال المحفوفة بالمخاطر، المحاطة بالمستوطنات، المسيجة بنقاط التفتيش والأبراج العسكرية، حاملين أرواحنا ملء الأكف، في عيوننا هدف واحد، البحث عن ذلك الرابط السحري، الحبل السري، الذي سيغذي ارتباطنا بهذه الأرض.

إلى تلك الليالي الشتوية التي كانت تجمعنا حول موقد النار نروي الحكايا بهمس حتى لا نزعج برودة الليل، نحلق بعيوننا نحو النجوم، نحلم بالطيران خارج أسوار هذا السجن الكبير.
عندما أعود إلى تلك اللحظات أجد نفسي تائهة في البحث عن إجابات، كيف لنا، كيف لي، على الرغم من كل هذا الحب، على الرغم من كل تلك اللحظات الثمينة المشتركة مع الأرض وهوائها وبحرها وسمائها، كيف لي أن أقرر التخلي عنها؟

عندما تراودني هذه الأفكار أجد سلوى واحدة تخفف عني قسوة الواقع، أن انسحابي وفراري وخروجي من فلسطين لا يعني انقطاع العلاقة، لا يعني التخلي، لأن فلسطين تعيش بداخلي وليس العكس، فأينما ذهبت سوف تبقى هي هنا متربعة هانئة ساكنة.

لطالما تساءلت عن السر في قدرتها على إشعال الشغف في قلوبنا، شغف للحياة، للحب، للتضحية، للتمرد.. حتى شغف في الكره والغضب. ليس في قلوبنا فقط كفلسطينيين، بل في قلب كل إنسان حر يأبى الرضوخ لواقع الحال الذي ينحاز للأقوى. كيف لها أن تحفظ القلوب الحرة متقدة بهذا القدر الهائل من الطاقة؟

ولكن لماذا علينا دوماً أن نحمل دور الشهيد فقط من كل هذا الشغف؟ بينما جل ما تريده هي منا أن نحيا ونحب ونستمر من أجلها؟ إذا أصبحنا كلنا شهداء من أجلها فمن سيحمل شعلتها إلى العالم، من سينقل رسالتها المشبعة بالحياة والسلام والرغبة الجامحة للحرية. من غيرنا نحن، أبناء ترابها وأشجارها؟

تراودني أحياناً رغبة طفولية في استثارة ردود أفعال عفوية من بعض جلساء النقاشات السياسية من شتى الأطياف والخلفيات، أفعل ذلك لأني أتوقع معظم هذه الردود التي لا تنحاز عن عين المنطق، فإذا ما وردت حكاية الفلسطيني تكون الفكرة النمطية بأن هذا الإنسان كائن من غضب وثورة فقط، أحب تلك النظرة المتفاجئة عندما يرون أننا كائنات من حب وشغف، وأستذكر مقولة درويش "على هذه الأرض ما يستحق الحياة". أتفهم دهشتهم المنطقية، فكيف لإنسان ولد وترعرع في الظلام أن يحمل بداخله كل هذا النور؟ كيف لأرض شهدت كل أصناف العنف والظلم أن تكون موطناً للحب والسلام؟ يكون جوابي دوماً: لقد وُلدنا كما هذه الأرض لكي نتحدى المنطق.

كانت وما زالت نبوءتنا أن نصنع من الظلام شعراً وأدباً وفناً يروي للعالم حكاية انهزام الحرب أمام الحب، حكاية خضوع الكره تحت أقدامنا ونحن نمارس بعنفوان وارتقاء رقصة الدبكة بأيدٍ متشابكة وعيون تلتحم مع زرقة السماء.
BD819782-9C47-4D0F-9BFC-A9D49732765A
نجوى أبو خاطر

حاصلة على شهادة البكالوريوس في الدراسات الإنكليزية وأعمل حاليا في مجال الترجمة. بدأت حياتي المهنية كناشطة شبابية ومتطوعة في مؤسسات ثقافية واجتماعية ثم عملت في مجال حقوق المرأة مع استمراريتي في مجال التطوع خاصة فيما يتعلق بدور الشباب في المجتمع.