بعد الإخصاب!

بعد الإخصاب!

04 أكتوبر 2018
+ الخط -
أعطاني البواب البريد الذي أرسلته لي إدارة الصحيفة، ثم قال بجدية أقلقتني لأنها غير معهودة منه: "في جماعة صعايدة، راجلين وست، عايزينك تحت في حاجة بيقولوا إنها مهمة، بس مش عايزين يقولوا لي عايزينك في إيه، مع إني قلت لهم إنك لسه نايم الساعة دي، بس أصروا إنهم مش هيمشوا إلا لما يشوفوك"، قبل أن يضيف في تخابث معهود: "على فكرة شكلك لو ما نزلتش هما اللي هيطلعوا لك، ودول بلدياتي فما تآخذنيش مش هاقدر أبمبك معاهم".

لم نكن قد وصلنا إلى الثانية عشرة ظهراً، ولم تكن الدماغ قد أفاقت بعد لشكل اليوم ولونه، لذلك طلبت منه أن ينزل ليطلب منهم انتظاري نصف ساعة أو نحو ذلك، حتى أفيق من نومي الذي قطعه بترزيعه على الباب، فوعدني أنه سيستغل موافقتي على لقائهم لكي يفهم منهم سبب زيارتهم المفاجئة ويعود لإبلاغي به، وهو ما لم أتوقع حدوثه من فاشل مثله، لذلك أخذت أسائل نفسي في الطريق إلى الحمام عن سبب تلك الزيارة، خاصة أنني لم أكتب منذ فترة شيئاً عن الصعيد، ثم تذكرت أن آخر ما كتبته عنه كان هجوماً قبل عام على حملة إعلانية اعتبرتها تشجع على نشر ثقافة التسول في الصعيد، وهو ما جلب لي بعض الرسائل الغاضبة التي اتهمتني بأنني لا أرحم ولا أرغب لرحمة ربنا في أن تنزل على الفقراء، وبما أن ما كتبته لم يحدث أي أثر في الواقع، حيث تضاعفت حملات الشحاتة التلفزيونية وتنوعت ولم تعد تفرق بين "بحري وقبلي"، فقد استبعدت أن يكون للزائرين علاقة بذلك الموضوع، وفكرت للحظات أنه ربما كان وراء الزيارة مقلب دبّره أحد أشد أصدقائي الصعايدة رزالة، لكنني تذكرت تعاهُدنا على هجران المقالب ثقيلة الوطأة، بعد أن أفضت في الماضي القريب إلى غم غير مرغوب.

ارتديت ملابسي وأعددت المكان لاستقبال الضيوف، ثم ذهبت إلى البلكونة لأطل منها على الشارع، فوجدت البواب واقفاً مع رجلين يرتدي أحدهما عمّة وجلباباً، بينما يرتدي الآخر بدلة كاملة، وعلى مقربة منهما جلست على الرصيف سيدة ترتدي عباءة سوداء، وتضع يدها على رأسها كأنها تشكو من الصداع، رفع البواب رأسه فوجدني أقف في البلكونة، نبههما إليّ، فأشار ذو البدلة لي بالتحية بحرارة ناضحة بالود المحرِج، أشرت إلى البواب أن يصعد بهم إلى الشقة، فأشار لي بعلامة الرفض، وتبعه الاثنان في ذلك مشيرين إليّ بأن أنزل لهما، فعاودت إشارتي بالصعود، ليهتف ذو البدلة: "والله العظيم ما ينفع.. إحنا قاعدين هنا في انتظارك"، لترفع المرأة وجهها نحو البلكونة، فيبدو لي أنها لا تعاني فقط من الصداع، بل من إرهاق وزهق، كنا نزيدهما بتبادل إشارات الدعوة إلى الصعود والنزول.

في ركن ظليل من الشارع، أقسم لي ذو البدلة بأيمانات المسلمين ورحمة الغاليين وعهد الله، أنه لم يكن يمكن أبداً أن يرتكب حماقة "الطَبّ على بيوت الناس دون موعد" لولا الشديد القوي، وأنه متعلم ويعرف الأصول لكن للضرورة أحكامها، وأنه يؤمن أن تيسير الله تعالى له بأن يصل إلى بيتي، بشّره أنني ربما كنت سبباً لحل مشكلته هو وهذه المسكينة، التي اتضح أنها زوجته وأم بناته، والتي لم يكن ليرضي ربنا ولا يرضيني طبعاً، أن تخبط مشوار العودة المرهق إلى سوهاج، دون أن يشوف لها صِرفة، مع أولاد الكلب النصابين الذين يملأون هذه المدينة الملعونة، ويظنون أنهم يمكن أن يفلتوا بنصبهم واحتيالهم على الشرفاء الغلابة الذين ليس لهم ظهر، ناسين أن من لا ظهر له فالصحافة الشريفة ظهره وسنده، أو هكذا كان يظن.


كان ذو البدلة الكاملة واللسان "البربند"، قد شعر بارتباكي فور قدومي نحوهما، فاختار طمأنتي بإخباري أنه عرف عنوان بيتي بالصدفة، بعد أن ذهب إلى الصحيفة الكبيرة التي كنت أكتب فيها عموداً يومياً لقي حظه من الانتشار، ولأنه كان من متابعي العمود وقرأ أكثر من قضية أثرتها فيه، وتلقيت عليها ردوداً من المسؤولين، فقد كنت أول من فكر فيه حين وقعت أزمته، ليتجه مباشرة إلى الصحيفة، التي فوجئ أن ليس لي مكتب فيها، وأنني أرسل مقالاتي من خارجها، وحين نشبت أمام مكتب الاستقبال مشادة بينه وبين زوجته وابن عمه تاجر الفاكهة المقيم في الزيتون منذ سنين، بسبب المشوار المرهق الذي طلع على فَشوش، وبسبب عدم استجابته لرأيهم في عدم عقلانية الفكرة، تدخل بلديات آخر لهم، هو المندوب الذي كانت الصحيفة ترسله إلي كل يومين أو ثلاثة بما يصلني من بريد، وحين عرف القصة أثارت تعاطفه، فانتظرهم حتى خرجوا، ثم اختلى بصاحبنا وقال له إنني أسكن بعد الصحيفة بثلاثة شوارع، وأنه ذاهب ليوصل لي البريد، وأنه سيصطحبه إلى منزلي حيث لن أتأخر عن أي مساعدة أستطيعها، وأنه سيوصي به البواب خيراً.

كانت تلك المرة الأولى التي أتعرض فيها لزيارة منزلية مفاجئة من قارئ لا أعرفه، ومع ذلك فقد جعلني حرجه الشديد والإرهاق البادي على زوجته، أكرر له أن الموضوع بسيط ولا يستحق كل هذه الاعتذارات، وأنه يجب أن يصعد مع ابن عمه والمدام لشرب الشاي والراحة قليلاً، بدلاً من أن نتكلم في الشارع، لكنه حسم الجدل بحلفان قاطع بالطلاق والعتاق، أن ذلك لن يحدث أبداً، فيكفيه ما يعانيه هو والجماعة من حرج، لإقلاقي بهذه الطريقة، ليعود في الوقت نفسه للتأكيد من جديد على أنه لم يأتِ لطلب فلوس أو مساعدات "لأنها مستورة والحمد لله"، ومع أن تلك الديباجة لا يستخدمها بإلحاح في العادة إلا طالبو السلف أو المساعدة، إلا أن أخانا السوهاجي بعد أن عرف نفسه بوصفه يعمل مديراً بمنطقة آثار في سوهاج، أخرج محفظته من جيب الجاكيت وفتحها ليريني أنها ممتلئة بالأوراق النقدية، في حركة لم يكن لها لازمة، لكنه شعر بالارتياح حين قام بها، في حين كنت أشعر بالقلق عما إذا كان وراء تلك الزيارة أمر له علاقة بالآثار، لأن ذلك أعاد إليّ ذكرى تجربة سابقة لم تكن لطيفة بالمرة.

لم يكن مناسباً أن يتواصل حديثنا في الشارع، ولأن القهوة التي تحت بيتي ليست سوى "خُنّ" بعَرض ثلاث بلاطات، به نَصبة صغيرة لإعداد المشروبات، ودِكّتان يجلس عليهما دائماً سائقو الجراج الحكومي المجاور، أخذنا بعضنا إلى الشارع المجاور لنجلس على قهوة به أوسع بكثير. على غير العادة لم تكن القهوة مزدحمة بالطلبة المزوّغين من المدارس المحيطة، والموظفين "الكاتتين" من مكاتب الوزارات القريبة، وهو ما جعل توتر زوجته وحرجها أخف. فور جلوسنا عاجلته بأيمان مغلظة أني سأدفع مشاريب القهوة، مضيفاً لتلطيف الأجواء أن والدتي أصلاً من سوهاج، ولن يرضيه غضبها حين تعرف أني اصطحبت ضيوفاً مروا ببيتي إلى القهوة، ثم تركتهم يدفعون المشاريب، لتكون مداخلة ابن عمه الأولى سؤالاً مباغتاً: "منين في سوهاج إن شاء الله؟"، ولأنني كنت قد نسيت اسم بلدة جدي، فقد استعنت بإجابة: "من سوهاج نفسها"، لأتبعها بسؤال: "تحب تشربوا إيه؟".

لم ينتظر بلديّاتي نزول الشاي للدخول في الموضوع، ليفاجئني بأن شكواه التي خبط من أجلها المشوار، لا علاقة لها بكل ما تصورته من قضايا الفساد وإهدار المال العام والمظالم الجسام، وسائر ما تعودت أن يأتيني في رسائل البريد، إما مدعماً بالمستندات المغرية بالنشر، أو مجهلاً حافلاً بالمعلومات المحيرة من فرط ما بها من تفاصيل يستحيل التحقق منها، أو كيدياً حافلاً بما يستحيل نشره من الاتهامات والشتائم.

حين بدأ حديثه بصب اللعنات على دكتور شهير كان يمتلك مستشفى ناجحا في منطقة الدُقّي، تصورت أن الأمر له علاقة بتجارة الأعضاء، وعزوت إرهاق الزوجة إلى وقوع ما لا تحمد عقباه في جنبات المستشفى، لكنه فاجأني بأن الأمر له علاقة بقدرات مضمونة في تحديد نوع الجنين، تحدث عنها الدكتور الشهير في برنامج تلفزيوني طبي تذيعه كبرى القنوات الحكومية، ولأن صاحبنا كان قد أنجب من زوجته أربع بنات على التوالي، وكان راغباً بشدة في أن يرزقه الله بولد، طالما ظلت زوجته قادرة على الإنجاب والحمد لله ـ هكذا قال دون أن يلفت انتباهه وجود أي تناقض في حديثه ـ فقد قرر أن يتصل فوراً بالدكتور وهو على الهواء، ليداوم هو وزوجته وأختها ووالدتها ووالدته وأختاه على عمل نوبتشيات طيلة الأيام التالية، لمحاولة الاتصال بأرقام البرنامج، حتى ردت عليهم بعد عناء مُعدة البرنامج التي اكتشفوا أنها سوهاجية أيضاً، ولذلك منحتهم رقم عيادة الطبيب، ولكي يردوا لها الجميل بمساعدتها في مهمتها، دخلت أخت الزوجة على الهواء لتسأل الضيف طبيب الأمراض الجلدية عن أفضل طريقة لإزالة الهالات السوداء من تحت العين.

تمكن الزوج من الحديث مع الطبيب الشهير، بعد أن أقسم لسكرتيرة العيادة أنه يتصل من سوهاج، ولن يستطيع الحضور إلى القاهرة إلا بعد أن يسأل الدكتور كذا سؤال على التليفون، ليقرر بعدها الحضور من عدمه، وأسعده أن يكون الطبيب الأسيوطي ابن الحلال متجاوباً مع أسئلته، خصوصاً ما تعلق منها بتكلفة عملية الحقن المجهري التي قال له إنها ستكلف عشرة آلاف جنيه، وهو رقم كبير بمقاييس مستواه المادي، ومقاييس تلك الفترة التي لم يكن الجنيه فيها قد أدركه غرق التعويم، ليتخذ من تلك المنطقة في الحكاية مدخلاً للتأكيد على شرفه المهني، وأنه ليس له سوى مرتبه وحوافزه، وليس كبعض مفتشي الآثار الملعونين في كل كتاب، ولذلك فقد اضطر للاقتراض لإكمال المبلغ، رافضاً اقتراح زوجته الأصيلة ببيع بعض ذهبها، ليسافر مع زوجته في الموعد الذي حدده الطبيب والذي تصادف مع أوائل شهر رمضان، ليكون أول رمضان يقضيانه بعيداً عن البيت والعيال، كان الطبيب قد أفهمه أنهما سيحتاجان حوالي أسبوعين متواصلين للتردد على المستشفى الذي سيتم فيه الحقن المجهري، ولذلك لجأ إلى أهله وأهل زوجته لتدبر أمر بناته، ولولا أن ابن عمه الأصيل شاله طيلة تلك الفترة، لكان قد احتاس هو وزوجته في تدبير تكاليف الإقامة في هذه المدينة الملعونة التي "ما تآخذنيش تشفط الفلوس ولا أجدعها وأوسخها بلاعة".

بعد يومين من أول كشف قام به الطبيب، اتضح أن مبلغ العشرة آلاف جنيه كان مجرد جر رجل، وأنه لا يتضمن تكاليف التحاليل والحقن والأدوية والمقويات وسائر "الحبشتكانات" التي كتبها الطبيب في عدة أوراق سماها خطة العلاج، ليضطر هو وابن عمه إلى زيارة قريب ثري في المطرية، لم يكن قد لجأ إليه من قبل، وحين كفاه الله ذل السؤال بأن أنزل على قريبه لطف الدنيا وذوقها، فقابلهم أحلى مقابلة، ومنحهم ما يطلبونه دون عَنَت، أحس أن الله تعالى يعلن له رضاه عن سعيه، وأنه لن يرده هو وزوجته إلى سوهاج إلا "مجبوري الخاطر".

حين كنت أفكر في الطريقة التي أقنع نفسي فيها بألا جدوى من التأكيد لأخينا أنه رجل تافه، يرى في خلفة البنات نقصاً ما، لن يكمله إلا قدوم ولي عهد يرث مملكته، قرأ هو على وجهي مللاً ما أو انفصالاً عنه، فقرر اختصار حكيه لتفاصيل مرحلة العلاج وما صاحبه من "فحص ومحص وتحاليل وشخاليل"، قال لي إنهم حين اتصلوا بالمستشفى في الموعد الذي حدده لهم الطبيب، لمعرفة نوع الجنين بعد الإخصاب، طلبت منهم المساعدة الحضور إلى المستشفى، وهناك قالت لهم ـ بعد أن طلبت الحلاوة ـ إن الجنين "بنت إن شاء الله"، فسقطت زوجته مغمى عليها، واندفع شاخطاً في المساعدة، وسائلاً عن الطبيب الذي وعده بولد، مذكراً بالمبلغ الذي دفعه، وبأنه لم يجئ كل هذا المشوار من أجل بنت لديه أربع مثلها في البيت، مستدركاً ـ حين رأى في عينيّ ضيقاً لم أتمكن من مداراته ـ أنه يحب بناته ويموت فيهن، لكنه يعني ولا مؤاخذة لم يكفر، حين قرر أن يسلك سبيل الطب والعلاج، بدلاً من اللجوء إلى السحر والشعوذة.

كنت على وشك أن أسأله بانفعال لا يخلو من القرف، عن سر حرصه المحموم على إنجاب الولد، لكنني أجلت السؤال حين انفجرت زوجته في البكاء بصوت عال، ليتكهرب جو القهوة، حتى أن القهوجي من ارتباكه أطفأ التلفزيون الذي كان يعرض مباراة معادة في الدوري العقيم، ليسود القهوة صمت مطبق، تشاغلت عنه بمحاولة تأمل ابن العم الذي أمال رأسه إلى الخلف ورفعه نحو سقف القهوة، وظل على ذلك الحال حتى سكتت الزوجة، حين مد زوجها يده ليطبطب على كتفها للحظات، ثم يحولها نحو كوب الشاي، ليأخذ منه شفطة، ويطرق برأسه إلى الأرض المكسوة بنشارة الخشب.

لبثنا في الصمت للحظات، قبل أن يقطعه مكملاً حكايته ومحاولاً السيطرة على غضبه: "لما سألت الدكتور ابن الحرام ليه قلت لنا إنك متأكد من نتيجة الإخصاب، ليه أدّيتنا أمل وكذبت علينا، ده أنا كنت ناوي إني يوم ما أعمل جمعية تبقى لفلوس جهاز البنت الكبيرة، أصلها خلاص هتتخرج السنة الجاية من كلية العلوم، يقوم الله يحرقه، يقول لي معلهش تعال نجرب تاني، وهاعمل لكم خصم نص المبلغ، وأول ما توفروا الخمسة آلاف جنيه أنا تحت أمركم، والله ما دريت بنفسي، قمت حادفه بكوباية المية وللأسف ما جتش فيه، زي ما يكون كان مستنيها، وسبحان من بعدني عن زمارة رقبته، ولولا إني خفت على الغلبانة دي من البهدلة ما كنت سبت مكتبه، عشان كده قلت آجي لك توصل صوتنا للمسؤولين، ليه يخلوا حد زي ده ينصب على الناس، وإزاي سايبينه يطلع في التلفزيون يصطاد الناس كده بالساهل، وإزاي يسمحوا له يعلن عن النصب ده في الجرايد، وشوف كم واحد زي حالاتي وأصعب من حالاتي، اتنصب عليه وعمل البدع عشان يجري ورا أمل كداب، طبعاً أنا لو رحت أعمل له محضر هيقولوا لي القانون لا يحمي المغفلين، والعلم ما يضمنش النتايج والكلام الفارغ اللي الكلب ده قعد يقولهولنا، فما قدامناش غير الناس الشرفاء اللي زيك، انتو أملنا بعد ربنا".

كان قد لاحظ دون شك أن قسمات وجهي اختلفت، وأنني لم أعد حتى أهز رأسي تأميناً على كلامه، كما كنت أفعل في البداية، فأخذ يكرر مديحاً في حقي، يمزجه بحديث عن بعض مقالات كتبتها، ليثبت أنه قارئ متابع لي بالفعل، وأن اختياره لي لم يكن من فراغ، وحين أنزل ابن عمه رأسه من تحديقته الطويلة في السقف، ووجّه نظره إلي، شعرت أن أي تدخل بالسؤال أو النقد أو الوعظ أو اللوم، سيحولني إلى هدف أكثر سهولة من الطبيب، فتريثت مفكراً فيما يجب أن أبدأ بقوله.

كان أكثر ما استفزني في كلامه حديثه عن ابنته التي ستتخرج في السنة القادمة، فقد كنت أظن أن بناته أصغر من سن دخول الجامعة، سألته عن الكلية التي ستتخرج منها ابنته، وحين قال لي أنها ستتخرج بتفوق من كلية العلوم، وأنها يحتمل أن يتم تعيينها معيدة في الكلية، فلم أجد ما أعلق به سوى غمغمات، ظنها دعاءً لها وتهنئة له، مع أنها خرجت من ضميري شتيمة له وإشفاقاً عليها، ليعاجلني بقوله: "ابن عمي بيقولي مش لازم نسيب حقنا من الدكتور الكلب، وانت عارف بقى الأذى ليه طريقه وناسه، والمدام بتقول ندعي عليه ونشتكي لربنا، بس أنا ما ليش في الأذى ولا الدعا وحده هيريحني، وشايف إن فضيحته قدام الناس هي أسلم حل، وإننا في الآخر غلطنا لما صدقناه عشان طلع في التلفزيون، وكان لازم نسأل عليه كتير قبل ما نروح له".

كان بداخلي كلام كثير لعلك تتخيله، ولعلك تشاركني الرأي أن توقيته لم يكن مناسباً فضلاً عن انعدام جدواه، مع رجل يرى أن غلطته الأبرز، كانت عدم السؤال عن الدكتور قبل أن يترك له تحقيق حلمه في الولد، لذلك استجمعت كل ما أملك من مهارات اجتماعية، رأفة بزوجته وخوفاً من يد ابن عمه الطرشة، ووعدته بأنني سأسعى مع الزميل المتخصص في تغطية وزارة الصحة، ليقدم شكوى رسمية في الطبيب، لمنعه من الظهور في وسائل الإعلام الحكومية وتشكيل لجنة للتحقيق معه ومع أمثاله.

ولكي أريح ضميري المحتقن، أضفت قائلاً إنني سأوصي رئيس التحرير بتكليف الزملاء في قسم التحقيقات لعمل تحقيق صحفي موسع عن تعلق الناس بأوهام تحديد نوع الجنين وتحوله إلى تجارة ونصب لا ينبغي أن ينخدع بها الناس بسهولة، ثم أخذت رقم هاتفه ليتصل به الزملاء، وقلت إنني لا بد أن أنصرف سريعاً لإحضار بناتي من المدرسة، وحين قال كلمة مجاملة، رددت عليها أنه بالتأكيد يعرف أن أحلى خلفة في الدنيا هي خلفة البنات، ثم سلمت عليه وعلى ابن عمه، ونظرت إلى زوجته المرهقة وقلت لها عبارة كنت قد فكرت فيها كثيراً: "ربنا يصبرك ويعينك ويستجيب لدعواتك"، ومضيت متصوراً أنها ستفهم مقصدي، الذي أجدت تشفيره في ثنايا كلامي.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.