سنوات عطيات التي لم تكن مع عبدالرحمن الأبنودي (3)

سنوات عطيات التي لم تكن مع عبدالرحمن الأبنودي (3)

30 أكتوبر 2018
+ الخط -
في هذه الحلقة:
- شعراوي جمعة يسأل خالد محيي الدين: الأبنودي مين؟ بتاع تحت السجر يا وهيبة - بعد اعتقال الأبنودي الصحف تكتب عن محمد حمزة شاعر المستقبل - لماذا رفض محمد حسنين هيكل استقبال زوجات المعتقلين؟ - ولماذا يعطي بهاء طاهر عواطفه بحساب؟ - عبد الرحمن الأبنودي في السجن والمباحث تبحث عنه خارجه - عبد الحليم حافظ يزور عطيات ويقول لها إن يحيى الطاهر هو سبب اعتقال الأبنودي - عبد الحليم لعطيات: البلد كلها مقسومة - عطيات تكتب لعبد الرحمن: أريد الانتحار ولا أملك الشجاعة التي تجعلني أنتحر.

...

عطيات الأبنودي 


أواصل اليوم عرض مختارات من كتاب (سنوات لم تكن معه: رسائل عطيات إلى زوجها المعتقل عبد الرحمن)، والذي نشرت فيه المخرجة الكبيرة عطيات الأبنودي - إحدى رائدات السينما التسجيلية في مصر - يومياتها خلال فترة اعتقال زوجها السابق الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي، وبعضاً من رسائلها إليه في المعتقل. الكتاب الذي أثار غضب عبد الرحمن الأبنودي قبل صدوره في عام 1999، لم تتم للأسف إعادة طبعه ولا الاحتفاء به كما يليق بأهميته، وبما يقدمه من شهادة بالغة الأهمية عن الحياة اليومية في مصر الستينات من وجهة نظر زوجة معتقل سياسي، وعن علاقات عدد مهم من الأدباء والمثقفين المنتمين إلى جيل الستينات الذي لعب ولا يزال دوراً كبيراً في الحياة العامة في مصر.

إليكم مجموعة تالية من المقتطفات التي اخترتها من كتاب الأستاذة عطيات الأبنودي، والتي لم أتدخل فيها سوى ببعض الجمل الاعتراضية التي تحتوي على معلومات عن بعض الشخصيات التي تذكرها الأستاذة عطيات عليها ألف رحمة ونور:

الخميس 1/12/1966 السابعة والنصف صباحاً: بدأ شهر ديسمبر.. هل حقيقة ستكون معي في هذا الشهر كما سمعنا.. سوف نرى. البارحة صباحاً خرجت.. كان هو اليوم الموعود للذهاب إلى مكتب رئيس الجمهورية، لنقابل على الأقل سكرتير السيد الرئيس. ذهبنا إلى مبنى الوزارة المركزية في مصر الجديدة. قالوا: "العنوان غلط يا هانم، سكرتير السيد الرئيس سامي شرف في منشية البكري وهو في نفس الوقت بيت السيد الرئيس"، كنت أنا وإيفلين وسمية زوجة كمال عطية. اتصلت بفريدة زوجة صلاح عيسى مرتين ولكنها لم تأت في الميعاد. - تتحدث بالطبع عن الزوجة السابقة للأستاذ صلاح عيسى الذي تزوج فيما بعد الكاتبة أمينة النقاش وعن الزوجة السابقة للشاعر سيد حجاب الذي تزوج مرتين بعد ذلك -.

كان كل منا نحن الثلاثة في يدها ورقة تحمل شكواها، في بيت الرئيس في منشية البكري وعلى البوابة، مكتب فقير وموظف بسيط، أخذ اسمينا ولم يسألنا عن اسم من نريد مقابلته، أشار لنا على مكتب آخر في الدور الأول من المبنى، دخلنا المكتب وتصورت أن هذا مكتب سامي شرف، سلم علينا الرجل من خلف المكتب وطلب منّا الجلوس، بعد قليل التقط سماعة التليفون وبدأ بقوله: "أنا عوني يا أفندم"، وسأل عن شخص لا أذكر اسمه، قال الذي على الطرف الآخر: "موجود في اجتماع"، قلت في نفسي: "يمكن فلان ده بدل سامي شرف ويمكن يغني عنه"، ولكن الأستاذ عوني التفت لنا وقال: كلهم عندهم اجتماع. اقترح علينا أن نذهب إلى مكتب وزير الداخلية، فقلت: "إحنا حنروح بعدين لوزير الداخلية، لكن دلوقت إحنا عايزين سيادة الرئيس، أو الأستاذ سكرتير الرئيس، من حق أي مواطن يبعت جواب للسيد الرئيس أو يطلب مقابلته، إحنا قرينا في الجرايد الكلام ده"، قال: "أنا تحت أمركم"، أخذ الورقات وكتب اسم كل منا على ورقة صغيرة وشبكها على طرف الرسائل. في طريقنا للخارج حاول أن يصافحنا، تجاهلت الموضوع ومشينا، قام من مكتبه وأوصلنا حتى آخر السلالم وهو يردد "مع السلامة يا أفندم".

قال طاهر عبد الحكيم ـ مثقف يساري وصاحب عدد من الكتب والدراسات المهمة في الثقافة الشعبية ثم أصبح ناشراً في فترة لاحقة ـ أن أغنيتك "شباكين ع النيل عينيكي" ـ أغنية جميلة غناها محمد قنديل ـ نشرت ترجمتها في مجلة بلغارية، وأنه سيحضر لي المجلة في المرة القادمة، حكينا له زيارتنا لمكتب جمال عبد الناصر، قال: "كويس قوي بس مش من حقك إنك تقولي عن عبد الرحمن أنه ليس له علاقة بأي تنظيمات رشحتها الإشاعات في الآونة الأخيرة"، قلت: "لقد كتبت ما يخصني وما أعرفه"، قال طاهر: "تاريخيا غلط اللي انتي قلتيه، وخصوصاً أنتِ لا تريدين لعبد الرحمن إدانة تاريخية"، فرّت من عيني الدموع، تعبت وكانت بي رغبة قوية لأن أتقيأ، أوصلوني حتى البيت.

الجمعة 2/12 الحادية عشر مساءاً: أكتب لك لأني لا أستطيع إلا أن أتحدث معك كل مساء، هناك حوار يدور بداخلي طوال النهار، وعندما أعود إلى البيت لا أجدك، فلا بديل عندي غير الكتابة، أريدك عندما تعود تتحدث أنت فقط وأسمع أنا، فقد تتكلم عما حدث لك منذ لحظة مغادرتك البيت بعيونك الحزينة تودعني وتنطق بكلمة سلام، ثم تقرأ ما كتبت لك منذ لحظة انشطاري نصفين ورغبتي في أن أقول لك أي شيئ فلم أستطع إلا أن أعترض فقط على أن يحملوك كتبك في القفص الجريد، وتنزل بها السلالم.

جاء إبراهيم عبد العاطي، كل أسبوعين تقريباً يأتي لزيارتي، عاتبته: "المفروض أن الناس تشوف بعض أكتر"، فقال: "والله مشغول"، "في إيه يا إبراهيم؟"، قال "في الحاجات اللي باكتبها لعبد الرحمن"، ثم استطرد وببساطة شديدة: "أنا سمعت أن أوامر الاعتقال لم توقع من عبد الناصر إلا من يومين فقط"، أصابني الجنون: "معناه أن لا أمل في أن يفرج عنهم من شهر ديسمبر كما سمعنا"، وكنت لا أدري ماذا أفعل، لم ينصرف بسرعة هذه المرة، هو طيب وإنما ساذج، رغم كل ما قرأ من كتب فهو "مدب".

جاء فوزي وحمدي عبد الرسول، قالوا إن ربع مرتب محمد عن شهر نوفمبر لم يصرفوه إلا اليوم، كنت قد دعوتهم على العشاء معنا ثم الذهاب للمسرح، لم يتحمسوا للمسرح فذهبنا إلى فريدة زوجة صلاح عيسى لزيارتها. في الطريق قابلنا أحمد مجاهد، قال لي إنهم يحاولون هو وسعيد رخا أن يصنعوا شيئاً من خلال نقابة المحامين. حكيت له عما سمعته بخصوص توقيع عبد الناصر لأمر الاعتقال، قال: "لا بد أن نتحقق من هذا الكلام، لأن التوقيع من رئيس الجمهورية على أمر الاعتقال معناه أننا لا نستطيع أن نطعن في الاعتقال على إنه إجراء غير قانوني، كنا كمحامين سوف نعتمد على هذه الثغرة، أما الآن فالمباحث تداركوا الخطأ، كان غاضباً للغاية وهمهم قائلاً: "أنا عارف إنهم لا حيخرجوا في ديسمبر ولا غيره".

الجمعة 2/12 مرة أخرى عند منتصف الليل: "يا حبيبتي لا شك أنك تحسين كل ليلة أنفاسي.. وتمدين ذراعك الذي يشبه متر السلك حولي.. وتسمعين طوال الليل ضجيجي.. وتمارسين غيظك الداخلي من تكشيرتي التي تبدو وكأني لا أحمل لك سوى الكره".

قرأت هذه الكلمات التي كتبتها لي في خطابك لي من الاسكندرية في صيف هذا العام، أفديك بعمري، وسأظل أمدّ المترين السلك الذين أملكهما حولك، وستظل أنفاسك إحساسي الوحيد إلى أن تواريني التراب. أنا في هذه اللحظة أريد أن أموت قبلك لأنني لا أريد أن أحزن عليك أبدا. لماذا أفكر في الموت الآن في نفس اللحظة التي أشعر فيها بالتوحد معك؟ لماذا أفكر في الموت الآن؟

صباح الأحد 4/12: "محمد رشدي وبليغ حمدي يواصلان الطريق"، كان هذا إعلانا منشورا في مجلة الإذاعة والتلفزيون مصحوبا بصورة لرشدي وصورة لبليغ وصورة لمحمد حمزة مكتوب تحتها شاعر المستقبل، كان الإعلان على صفحة كاملة وكان الحديث عن أغاني العمال والفلاحين.

الإثنين 19/12: التاسعة والنصف صباحاً: السبت خرجت في الصباح مع سمية وإيفلين إلى مكتب محمد حسنين هيكل في جريدة الأهرام، لم نستطع مقابلته بالطبع، اكتفينا بترك شكاوانا، اشتريت كتاباً عن السينما بمبلغ 90 قرشا وعدت إلى البيت، ما زال البيت يضرب يقلب، ولم ينته العامل من تلميع الموزاييك، استمر الحال حتى السابعة مساءا. ذهبنا أنا وكمال وكرم لإيفلين، أكلنا بسكويت وشيكولاتة هدية السفارة السويسرية، وجاء عدلي رزق الله وصديقته ـ عدلي رزق الله فنان تشكيلي كبير ـ .

ترجمنا حتى الآن عشرة قصائد للشاعر الأسباني لوركا وقرأت قليلا في ديوان للشاعر الفرنسي جاك بريفيير، سوف أترجم منه الكثير، وجدت قصيدة شعر كتبها لوركا عن الفتاة التي تستحم تحت شجر البرتقال، وتذكرت أغنيتك "تحت السجر يا وهيبة.. يا ما كلنا برتقان". في طريقي إلى الإذاعة قابلت مأمون النجار مذيع ركن السودان في محطة الأتوبيس وأصر أن يدفع لي ثمن التذكرة، طلب مني عمر بطيشة ـ المذيع والشاعر الغنائي ورئيس الإذاعة المصرية فيما بعد ـ اسطوانة أغنية العنب وأغنية "الشابة حتة سكرة" اللتين تغنيهما شادية، سجلت مذكرات مدرسة في الأرياف وكلمت أنور بك قزمان حتى يهتم بك في طرة. حضرت مناقشة ساخنة بين الشاعرين عبد الوهاب محمد وفؤاد بدوي والمذيعة عواطف البدري حول نزار قباني وأم كلثوم وفيروز وقضايا الأغنية، لم أشأ أن أشارك في المناقشة، اكتفيت بأن أذكرهم أنك في المعتقل.

السبت 24/12 التاسعة صباحاً: بعد أن تركت الكتابة أول أمس، جاء شوقي حجاب ومعه سيدة ظريفة وجميلة قدمها لي "فاطمة زوجة سيد خميس"، كنت سعيدة لأني أراها لأول مرة، ذهبنا جميعاً لزيارة إيفلين، سألت فاطمة خميس بيني وبينها إذا كانت في حاجة إلى أي شيئ، عليها ألا تتردد في طلبه مني، فأنا كأخت لها ولسيد خميس ـ مثقف يساري بارز وناقد مهم ساهم في تقديم عبد الرحمن الأبنودي وسيد حجاب ونشر أعمالهما الأولى وتم اعتقاله مع نفس المجموعة بسبب نشاطه السياسي ـ وعرضت عليها إذا رغبت أن تعيش معي في شقتي حتى يخرج سيد من المعتقل لأن مشوار بيتها في الهرم تعب عليها، وخاصة وهي حامل، وكلية البنات التي تدرس فيها في مصر الجديدة، وحكت لي فاطمة كيف تزوجت من سيد خميس، وإصرارها على أن تتزوجه رغم تهديدات أهلها بمقاطعتها لو تم هذا الزواج، وبالفعل ما زالوا يقاطعونها حتى الآن. قالت إنها تحب سيد خميس وتنتظره. كنت سعيدة بها. فتاة مصرية تقف هذا الموقف للدفاع عن زوجها المعتقل، أنا لا أعرف سيد خميس شخصياً، ورأيي فيه غير محدد، ولكن هناك أشياء لا أنساها له وأحترمه من أجلها، أشياء قلت لي أنت عليها، كان وهو المثقف يعمل في تجارة الفاكهة، وكان ينفق على أصدقائه كل مليم يتحصل عليه.

الأحد 25/12 في الصباح البدري: عبد الرحمن يا حبيبي، كل سنة وأنت طيب.. الكريسماس.. "المسيح فات ع القاهرة بشر بالسلام". في خروجي من البيت مع شوقي حجاب ـ الشاعر والكاتب المسرحي وشقيق سيد حجاب ـ قابلنا بهاء طاهر ـ الكاتب القصصي والإذاعي بالبرنامج الثاني ثم الروائي الكبير فيما بعد ـ سلّمت عليه بلا حماس، فأنا هذه الأيام متحفظة مع الناس الذين يعطون عواطفهم بحساب، بهاء طاهر يحاسب دائماً على عواطفه، تكلمت بالتليفون مع أنور بيه وسوف يذهب إليه شوقي في مكتبه بليمان طرة ومعه السجائر والشكولاتة لتصل إليكم اليوم بمناسبة الكريسماس وكل سنة وأنتم طيبين.

عندما عدت إلى البيت قالوا لي إن شخصا من مباحث محافظة القاهرة مرّ عليّ في الصباح وعمل دوشة في الشارع، وسأل عني كل من كان في طريقه، بدءاً من الست أم محمود بائعة اللبن والست أم صلاح بائعة الليمون وحتى جميع الجيران. جاء مرة أخرى في المساء، سألني إذا كنت قد أرسلت برقية للسيد المحافظ؟ قلت: نعم، قال: المحافظ بعت التلغراف لمدير الأمن ومكتب مدير الأمن، بعتني للاستعلام عن "زوج السيدة عطيات الأبنودي"، نظرت إلى الأوراق، مكتوب عليها "شكوى السيدة عطيات الأبنودي عن غياب زوجها عبد الرحمن الأبنودي"، ابتسمت، كأن حضرتك مفقود ومدير الأمن سوف يبحث عنك، ولم يتبق إلا أن يرسلوا بنشرة إلى كل أقسام الشرطة ـ التي هي في خدمة الشعب ـ مصحوبة بصورة لك مكتوب تحتها "فُقِد وجاري البحث عنه" أو "عيل تايه يا أولاد الحلال"، سألني الرجل: "هل اسم المفقود بالكامل عبد الرحمن محمود أحمد عبد الوهاب الأبنودي وهل عنوان السكن كما ورد في الأوراق"، قلت: نعم. كأن كل المطلوب من الرجل أن يتحقق للسيد مدير الأمن من اسم المفقود وعنوانه، ومع السلامة.

يناير 1967: "المنتحر ليس جباناً والدليل هو أنني أريد الانتحار ولا أملك الشجاعة التي تجعلني أنتحر، إحساس مُرّ باليوم أفرزه يومياً، تعودت طعمه فتلاشى الإحساس به تماماً ففقدت متعة العذاب.

الأحد أول يناير في التاسعة وخمسة وخمسين دقيقة صباحاً: هذه الكلمات وجدتها مكتوبة بخط يحيى الطاهر عبد الله في الأجندة التي أدون فيها هذه المذكرات. كان التاريخ المطبوع على الصفحة هو 28 سبتمبر عام 1964، لم أشأ أن أقطع الصفحة لأنها بخط يحيى، وكيف لي؟

احتفلت برأس السنة مع جيراني هدى وبنتها سوسن، أما ليلى فخرجت للسهر مع خطيبها، اشترينا زجاجة نبيذ عمر الخيام وكيلو لحمة وعملناها حفلة رسمية، شِوَك وسكاكين وأطباق وفوَط سفرة، وشربنا النبيذ في صحة الغائبين، وفي صحة هدى التي كادت أن تموت اليوم في الحمام. القصة أنها أشعلت وابور الجاز في الحمام، ووضعت صفيحة المياه عليه وتركتها حوالي أربع ساعات ودخلت تستحم، بخار المياه والجاز كادا أن يخنقاها، وقعت على البلاط وحملتها سوسن عارية خارج الحمام وكانت حكاية. في التلفزيون أذاعوا حفلة رأس السنة وكان محمد رشدي يغني وتصايح الناس يطلبون أغنية عدوية، وغنى رشدي عدوية كما لم يغنها في حياته والله يا عبد الرحمن. غنى المواويل الأولى التي لم يكن يغنيها عادة قبل البدء في الأغنية، كأنه كان يصالحك. أنهي الكتابة هنا لكي أنزل فورا لألحق بموعد خالد محيي الدين.

نفس اليوم الساعة الرابعة وخمسون دقيقة بعد الظهر: كل ما اشوف صورتك على المرآة أضحك وأبتسم لهذه الابتسامة الغريبة التي في الصورة. ليس ممكناً لمن تملك أصل هذه الصورة أن تحزن في يوم من الأيام. قلت في نفسي: عندما تتشاجر معي سأكتفي بأن أنظر إلى الصورة. أذكر عندما تقابلنا لأول مرة، لم يكن في مقدورنا أن نفعل شيئاً إلا أن نتزوج.. ولو لم يكن هناك سلاسل أقوى من الزواج تربطنا سويا في مجتمعنا لفعلنا ما هو أكثر، أحبك وأذوب في ابتسامتك.

خرجت صباح الأمس، بداية لمّعت الحذاء في محل في طريقي إلى مقابلة خالد محيي الدين. رفعت السعيد مدير مكتب خالد، أنت تعرف رفعت، كان يسكن في شقتنا قبل أن يتركها لنا لنسكن فيها، قابلنا بشكل رائع وجلس على الكرسي المقابل ولم يلزم مكتبه، قال إن الناس الذين أفرج عنهم كانوا في قائمة مقدمة من مكتب الأستاذ خالد، وسألني لماذا لم أتصل بهم منذ بداية اعتقالك بدلا من البرقيات الساخنة الصعبة التي أرسلتها، ذكر لي إن جمال حامد ضابط المباحث الذي قبض عليك، حاول الحصول منه على هذه البرقيات المرسلة مني ومن إيفلين لمحاولة مضاهاة نصوصها، لأنه يعتقد أن التنظيم هو الذي يوجه الزوجات لكتابة هذه البرقيات، ولكن رفعت رفض، كما قال لي وقال لي إن المباحث تعرف طريق يحيى الطاهر وهو متأكد من هذا بدون نقاش، وأنه أبلغ الأستاذ خالد بذلك، سألته لماذا؟ قال المباحث رأيها إن طول ما يحيى هارب سوف يكون هناك دائما شخص ما مسئول عن هربه، وبالتالي يكون هذا الشخص مسئول التنظيم الوهمي الذي لا يعرف جهاز المباحث إثباته حتى الآن، وطلب مني عند مقابلة الأستاذ خالد أن أؤكد له أن الأبنودي ليس له علاقة بأية تنظيمات سياسية حتى يستطيع أن يتكلم مع وزير الداخلية ويضمنك عنده، وبالتالي يفرج عنك، يعني الخروج من المعتقل بالضمان الشخصي، وقال إن شعراوي جمعة طلب من الأستاذ خالد أن يبحث له عمن ليس له علاقة بالتنظيمات لكي يكون لهم أولوية الخروج من المعتقل.

قابلت الأستاذ خالد، طلب مني الجلوس وكان يتحدث في التليفون: "يا سيدي اسم الندوة الاستعمار والاستعمار الجديد، تفتكر نخلي مين يتكلم في الندوة؟ بتوع فيتنام؟ ولما يرقع لنا خطبة ساعة والناس تطفش، نعمل إيه؟ إذا كان يتكلم عشر دقائق معلهش، إحنا دايما نقول لهم كده وما فيش فايدة، بتاع كوبا يتكلم؟ طيب ونخلي حد من بتوع العرب الكويسين، آه وواحد من الشباب من عندنا، الندوة يوم التلات اللي جاي.. طيب.. مع السلامة"، التفت لي: "أنا تحت أمرك"، قلت له: "أنا مش مرات الأبنودي بس ولكن أنا صديقته وباعرف كل حاجة عنه"، سألني: "هو الأبنودي تفكيره إيه بالضبط؟ يعني هوه مش صيني زي ما بيقولوا؟ طيب تفتكري قبضوا عليه ليه؟"، كان يضحك طول الوقت وهو يلقي عليّ كل هذه الأسئلة ولا يسمح لي بالإجابة، ثم التفت لرفعت السعيد وسأله: "إيه رأيك يا رفعت في مدام عطيات؟"، رد رفعت وقال: "دي شديدة وجدعة والأبنودي شاعر أولا والسياسة شيئ على الماشي كده في حياته"، وجّه خالد كلامه لي: "أقول لك إيه الحكاية، فيه واحد اسمه صلاح عيسى كتب شوية مقالات في جريدة الحرية بها ميول معينة، راقبوا صلاح وشافوا الناس اللي بيتصل بيهم وبيزورهم فمن ضمنهم الأبنودي.. تقولي إيه؟"، التزمت الصمت للحظات ثم قلت: "أيوه الأبنودي يعرف صلاح وصديقه وكان صلاح بيزورنا في البيت، فيها إيه، ونعمل إيه دلوقت؟"، قال خالد: "حاضر أنا حاتكلم مع شعراوي جمعة"، قلت له شكرا يا أفندم وتصافحنا وخرجت مع رفعت السعيد إلى مكتبه.

في مكتب رفعت قابلت الأستاذ ميشيل كامل ـ مفكر ومناضل يساري بارز ـ قدّمني رفعت السعيد له، وفسّر ميشيل كامل سبب القبض عليك، قال: "أعتقد أن القبض على الأبنودي بسبب رفضه لكتابة أغنية احتفالات يوليو لعبد الناصر"، قلت له: "هذا غير صحيح، عبد الرحمن كان له شروط لكتابة الأغنية، وعبد الحليم نفسه لما زارني قال إنه متفهم موقف عبد الرحمن ومستعد يشهد بكده عند أي حد"، كتبت مذكرة لوزير الداخلية أملاها عليّ رفعت السعيد، سوف يحملها خالد محيي الدين مصحوبة بمذكرة منه بخصوصك أنت وسيد حجاب وجلال السيد وغالب هلسا ومحمد العزبي، وقال إن الدكتور رؤوف نظمي تكلم معه في ذلك وسوف يطلب الإفراج عنكم على ضمانته.

أنا لا أفهم على الإطلاق موضوع "على ضمانتي" هذا، عبد الحليم حافظ قال نفس الجملة، نفسي أقترح عليهم، إذا الضمان لم يحدث تأثيره السحري، من الممكن أن يفرجوا عنك بكفالة، ومن المؤكد أن هناك من سوف يبيعون ملابسهم حتى يحصلوا على مبلغ الكفالة، الجيران وأمي وأمك وكامل البيطار كمان ـ إذاعي شهير وصديق لعبد الحليم وللأبنودي ـ حتى لا يغضب مني، ولا أريد أن أقول من ومن ومن سوف يساهم في هذه الكفالة، لأنه من الواضح أني بالفعل خائفة وأنا أكتب لك هذا الكلام ولا أريد أن أذكر أسماء بعينها. كلمت عبد الحليم حافظ بالتليفون، كان نائماً، وبعد ساعة ونصف كان قد خرج، ردّ علي السفرجي في كل مرة وفي كل مرة يسأل عنك ويبعث لك السلام.

الإثنين 9/1: سمعت أصوات عالية وخبط شديد على الباب، "مين؟"، عبد الحليم حافظ للمرة الثانية ومصطحباً معه منير عامر وأخو عبد الحليم الأصغر، نزل منير وأخو عبد الحليم وتركوني معه نتحدث أكثر من ساعة، قال عبد الحليم إنه تكلم مع المسئول عن اعتقالكم، لم يذكر من هو، وابدى عبد الحليم للمسئول استعداده لضمانتك، رد المسئول بأن الموضوع ليس محتاجاً لضمان، وإن هناك مجموعة سوف يُفرج عنها بمناسبة العيد والباقي سوف يبقون في المعتقل حتى تنتهي التحريات. سأله: لحد إمتى؟ قال المسئول الكبير لا أدري ولا أستطيع أن أذكر لك أسماء الذين سوف يفرج عنهم على العيد، واستطرد عبد الحليم قائلا: "هروب يحيى الطاهر وعلاقته بعبد الرحمن هي السبب في دخول الأبنودي المعتقل"، قلت له بحدة: "إذا كان السبب في اعتقال عبد الرحمن هو علاقته بيحيى، فمن السبب في دخول الآخرين للمعتقل؟ ثم إن يحيى هو أيضا مطلوب القبض عليه من أول يوم"، بدا عليه أنه لم يفكر في السؤال بهذا الشكل، وقلت له السبب حسب فهمي للأمور هو "لعبة الثلاث ورقات الفوقية، كل جهاز أمن في البلد عاوز يثبت إنه بيحمي النظام، وكل حكايات الإعتقال والإفراج ورق بيتلعب من الأجهزة"، قال: "بس الحكومة مع الدول الإشتراكية ومع الإتحاد السوفيتي"، قلت له: " عشان كده مجموعة عبد الرحمن متهمة بعمل تنظيم صيني، وهكذا تضمن الحكومة عدم احتجاج الدول الاشتراكية على أساس إنهم ضد الثورة الثقافية في الصين وهكذا تستمر الألعاب ونحن الضحية"، كان مندهشاً، وقال: "ما كل البلد مقسومة، حتى في الفن، مش فيه شلة عبد الحليم والخط التقدمي في الفن، وشلة أم كلثوم وعبد الوهاب الخط الثاني، وفيه ناس في الحكومة عاملين لأم كلثوم محطة إذاعة مخصوص"، سألته إذا كان بليغ يريد مقابلتي من أجل أغنية يغنيها هو ـ عبد الحليم ـ أو شخص آخر، قال عبد الحليم: "أنا ما قابلتش بليغ حمدي من يوم حفلة رأس السنة، ولكن ممكن إني أجيبه يزورك ونشوف الحكاية". احتسينا الشاي. عموماً كانت سمية ونجيب ما زالا موجودين، فالتفت عبد الحليم لهما فجأة وقال: "أنا باحس إن عطيات دي مش مرات عبد الرحمن أنا باحس إنها أخته". قالها عبد الحليم يا عبد الرحمن، أنا أختك، يعني لا يمكن أن يفرقنا إلا الله.

دق الباب، فتحت، جاء رسول بليغ مرة أخرى، تفضل، وأمام عبد الحليم قال: "الأستاذ بليغ حمدي عاوز نص أغنية العقد الكهرمان وأغنية عابر سبيل"، دهش عبد الحليم، قلت للرسول: "مين حيغنيهم؟"، قال: "الأستاذ بليغ كان في صوت الفن مع محمد رشدي واتفقوا مع الأستاذ مجدي العمروسي إن رشدي يغني عابر سبيل"، طبعا عبد الحليم عمل من هذا الموضوع حكاية، كتبت لبليغ ورقة قلت فيها: "نص أغنية عابر سبيل عند محمد رشدي ونص العقد الكهرمان ليس عندي إنما عبد الرحمن يحفظه عن ظهر قلب، وأرجوك ألا يتم الاتفاق على شيء إلا بموافقة الأبنودي شخصيا".

كل سكان البيت علموا بوجود عبد الحليم فتوافدوا للسلام، حتى سامية الصغيرة بنت الست روحية طلبت منه أن يسمعها أغنية جبّار، وضحكنا جميعاً، نزل حوالي السادسة والنصف مساءاً، كان الشارع مزدحماً بالذين يريدون مصافحة عبد الحليم، بعد خروجه بدأت أفكر: لماذا جاء عبد الحليم لزيارتي بدون موعد؟

الثلاثاء 17/1 التاسعة صباحاً: عندي زكام وزوري تعبان جداً من يومين، قررت أن أكف عن التدخين ونجحت منذ يومين.

أول أمس الأحد كنت أعتقد أن بروفة المسرحية في الحادية عشرة صباحاً، ذهبت إلى المسرح، أبلغوني أنها في الثانية بعد الظهر، دائماً هناك ما أفعله، أمسكت بالتليفون وكلمت رفعت السعيد، قال لي: "أنا كنت بنفسي حاجيلك النهارده"، وأقسم بالله العظيم، قلت: "آجي لك أنا"، ركبت التاكسي وعلى مبنى الاتحاد الاشتراكي حيث مكتبه، أبلغني أن الأستاذ خالد تكلم مع شعراوي جمعة بالفعل وكان الحوار كالآتي:

خالد: إيه موضوع الأبنودي؟
شعراوي: الأبنودي مين؟
خالد: على حسب وداد قلبي!
شعراوي: لا وانت الصادق، تحت السجر يا وهيبة
خالد: انت عارف إنه شاعر كل الناس عارفاه وكل الناس عارفة إنه ممسوك فما فيش داعي، وأنا عارف إنه مالوش دعوة بالسياسة.
شعراوي: أنا عارف إن ما لوش دعوة بحاجة، وحيخرج عن قريب إن شاء الله.
قال لي رفعت إن ضابط المباحث جمال حامد من قسم مكافحة الشيوعية والذي ألقى القبض عليك، كان في زيارة لمكتب الأستاذ خالد، وعنّفه الأستاذ بحدة وقال له: إنت مش قلت لي إن فيه تنظيم عامله الأولاد دول؟"، رد عليه جمال حامد وقال له: "يا افندم احنا فاكرين كده، الحكاية طلعت فِنّس"، قال له رفعت: "مش تبطل تعمل شرلوك هولمز على الناس"، يقصد موضوع تفتيش بيت أمي والاستيلاء على كل كتاباتك في الشنطة إياها، ضحك سيادة الضابط وقال له: "ده أنا غلبان وما أعرفش حاجة"، وكان واضحا إنه يعرف كل حاجة كما قال رفعت. بعد نهاية الحكايات قلت لرفعت: "مطلوب مني إيه دلوقت؟"، قال: "استني بس أسبوع أو عشرة أيام، وبعد كده تقابلي الأستاذ خالد تاني، ونشوف حنعمل إيه"، ثم طلب مني إبلاغ الدكتور رؤوف نظمي أن يتوجه إلى مكتب وزير الصحة لكتابة طلب إعادته إلى العمل أو يمر عليه ليأخذ من الأستاذ خالد كارت توصية لوزير الصحة بهذا الشأن.

الإثنين 30 يناير الثامنة والنصف صباحاً: كانت أياما عصيبة، قررت أن أخرج من الحالة، واضح أنني يائسة، لا شيئ أمامي غير الانتظار غير المجدي.

ذهبنا أنا وشوقي حجاب وزين العابدين فؤاد لمشاهدة مسرحية برتولد بريشت (الإنسان الطيب) التي كتب لها الأغاني صلاح جاهين، وشاهدت السيرك القومي مع طاهر والمغربي وصديقته، بالأمس خرجت مع كمال والمغربي نتجول في الشوارع، وقابلنا سعيد رخا وذهبنا لشرب الشاي في حديقة نقابة المحامي، عدت إلى البيت، البرد والظلمة يملآن المكان حيث أنا وحدي تماماً، جاء سعيد أخي بالأمس وله مشكلة مع أمي. هناك إشاعة عن احتمال اعتقالي أنا أيضاً، وأيّد طاهر الاحتمال، المباحث رأيها إني عاملة دوشة. لا يهم، لقد قررت أن أخوض المعركة ولن أتوانى عن هذه الدوشة. عصمت تقوم بشغلها المباحثي، قالت لي لكي ترى رد فعلي إنها رأت يحيى الطاهر لأول مرة عند أميرة البارودي، لم أعلق، لست مسئولة عن أخطائه، ولست مسئولة عن حل مشكلات اختياره، عليه أن يحل مشكلته التي اختلقها لنفسهز

لو تعرف ماذا بي لبكيت من أجلي، هذه الأجندة التي أكتب فيها قاربت على الانتهاء، سوف أخفيها تماماً، أنا لا أستبعد عليهم أن يزوروني في الفجر ليعتقلوني. واحشني جداً وخائفة قدر سنوات عمري الـ 27. خائفة.. أنا متأكدة ومحددة انت فين مني ومكانك في داخلي بالضبط، وأعرف شعوري جيداً من نناحيتك، ولكنني خائفة وأرغب في تواجد الناس من حولي دائماً، ليس لدي أمل كبير، العشرة رجال الذين قبضوا عليهم من كفر الشيخ قلبوا موازيني، كل شيئ يضجرني في الخارج، ولكن كل شيء يهون، بالقطع ستعود وسنعيش، وسوف نبدأ الحياة من جديد.

انتهت أوراق الأجندة وأنت لم تأت بعد، سأستأنف الكتابة مرة أخرى في أجندة جديدة: "يا ما شواني الانتظار".

...

نختم المختارات غداً بإذن الله.
605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.