العصفور الأبيض... صباح الخير (5)

العصفور الأبيض... صباح الخير (5)

29 أكتوبر 2018
+ الخط -
أصبحنا وأصبح الملك لله، فها هي الشمس قد أشرقت وراحت تنشر نورها على استحياء وقد حجب سحاب الشتاء كثيراً من نورها الذهبي، وحدث بينهما تداخل سحري يحملك على أن تراقب هذا الغزل العفيف بين السحاب والضوء، ومع كل هذا الجمال الذي أحرص على أن أرقبه كل صباح من نافذتي وأتمتع بهذا المنظر الخلاب الذى يقطعه كالعادة صوت أم علي وعمر وولديها وقد تصارعا فيما بينهما على من يفوز بسقيا الماء من يد أمه قبل الآخر، ومن فرط حرصهما اليومي على ذلك خلت أن الماء الذي يشربانه من يدها يختلف عن الماء الذي أشربه، حتى اختلست في هذا اليوم فرصة شجارهما وتصارعهما وطلبت منها أن تسقيني قبلهما ولما تناولته من يدها ووضعته على فمي إذا بأحد الولدين يسبق شفتي إليه ويمسك به مزمجراً وكأني استوليت على حق من حقوقه ويشرب وعينه لا تفارقني وكأنه يتحدى رغبتي في الشرب قبله وأخيه.

تركت أم علي مع ولديها في مسلسلهم اليومي ورحت أبحث عن عصفوري الأبيض في مكاننا المعتاد على النافذة البحرية، ولما لم أره وقفت أنظر إلى السماء في انتظار قدومه لأستمتع بصوته العذب، ولكن طال انتظاري وحان موعد ذهابي للعمل، وعندما هممت بالانصراف إذا بصوت يشبه صوت النائم وبالبحث عن مصدره إذا بي أرى العصفور الأبيض في سبات عميق خلف نافذتي من الداخل تغطيه ستارة سميكة من قماش يلف جسمه بأطرافها لفاً كالذي يبحث عن الدفء وبجواره عدد غير قليل من الطير.


قلت دهشاً وانا أنظر إليهم كيف تنامون إلى شروق الشمس، ثم كيف أصبحتم خلف النافذة من داخل الغرفة! قام العصفور الأبيض وهو يقاوم السقوط من النافذة من شدة التعب الذي يبدو على قسمات وجهه وعينه الحمراء التي توحي بأنه لم ينم ليلته هذه أبداً، وقام الطيور بين هاو على أرض الغرفة وبين قائم يتمايل ويهز جناحيه خشية السقوط، وقال العصفور الأبيض: لا تؤاخذنا فإننا جميعاً لم ننم طيلة الليل من شدة البرد وانتظرنا أم علي وعمر تفتح النافذة حتى دلفنا للداخل والتحفنا الستارة لننال قسطاً من الدفء فغلبنا النعاس فنمنا.

قلت: كم من فصول شتاء وبرد مرت على الغابة عبر السنين والقرون ولم نسمع أن طيراً قتلها البرد! قال العصفور الأبيض صدقت ولكننا ليس لنا أعشاش كأعشاشهم وليس بغابتنا أشجار كأشجار غابتهم ولا طعام يسد جوعنا كما لديهم إذ إن ما يلقيه لنا جيراننا من حبوب حسب اتفاقهم مع حاكمنا الصقر لا يكفينا وصغارنا، وقد مات كثير من صغارنا بسبب الجوع والمرض والمياه التي نشربها والتي كما تعرف يُصب فيها ناتج نظافة معدة وأمعاء الصقر حاكمنا وجنوده من الصقور.

قلت لهم: أكيد حاكمكم الصقر عندما يعلم بحالكم سَيُعَجِل بزراعة الأشجار في الغابة حتى تكبر وتبنوا فيها أعشاشكم وتؤويكم وصغاركم، وإذا نما الشجر نبت الحب وكثر الطعام وتغير حالكم إلى الأفضل.. أليس كذلك؟

قال أحدهم: أتتخذنا هزواً، وتسخر منا؟ كيف سيزرع الحاكم الصقر الشجر وقد أسكن مكانه جنوده فبنوا البيوت وتحصنوا فيها، وكيف سيكثر الحب والطعام وليس هناك أشجار، ثم كيف سيزرع الأشجار وقد جف النهر وانقطع منه الماء؟

قلت: إذاً فقد أفقتم أخيراً من سباتكم وعلمتم أن ما يقوله لكم الحاكم الصقر غير صحيح ومحض خيال لا يمكن تحقيقه.

قال العصفور الأبيض: وما دخل حاكمنا الصقر الذي لولا وجوده لمات أكثرنا خارج الغابة، ولخطفتنا الطيور الأخرى التي تعيش خارج غابتنا، أو كنا متنا من العطش والجوع والبرد، إن الصقر حاكمنا نعمة لا بد أن نحمدها ونشكرها.

قال باقي الطيور بأصوات متداخلة وأجساد ترجف من البرد وبطون لها صوت كالمرجل، وسيقان نحيلة واهنة: فعلاً الصقر حاكمنا نعمة لنا.

وبصوت مكتوم وحناجر مريضة من البرد قال جميع الطيور: فليحي الصقر حاكماً لنا، فليحي الصقر حاكماً لنا، فليحي الصقر حاكماً لنا.
59257FF4-4542-4A2B-849A-E42302D56A06
مجدي جودة

مستشار قانونى ومحام.. لى مؤلفين بدولة قطر أولهما المحاماة بين الماضى والحاضر، والثانى القضاء بين الشريعة والقانون.أحلم بوطن يسع الجميع لا إقصاء فيه لأحد ولا تمييز لأحد على حساب أحد.