رجل المبادئ وملابسات مختلفة وقصص أخرى

رجل المبادئ وملابسات مختلفة وقصص أخرى

28 أكتوبر 2018
+ الخط -
رجل المبادئ 

هو من القلائل الذين يستحقون وصفهم بـ(رجل المبادئ)، وهو لقب لم أكن أستخدمه قبل ذلك إلا في معرض السخرية، ولعلك تجد سبب تقديري له غريباً، في ظل ما تسمعه من هجوم مستمر على مواقفه التي يراها الكثيرون مستفزة وبعضها كذلك بالفعل، لكنني أظنك ستقتنع بكونه رجل مبادئ بالفعل، لو تخيلت ما كان سيصنعه آخرون غيره في موقف كالذي سأحكيه لك. الحكاية أن صاحبنا كان مدعواً إلى عشاء رسمي فاخر على هامش احتفالية رسمية انعقدت في فندق كبير، حضرها عدد من الضيوف الأجانب وبعض المهمين في البلد، الذين كان من أهمهم عدد من لواءات جهات أمنية مختلفة. كان ليلتها ميتاً من الجوع، وينتظر حلول العشاء بفارغ الصبر، وحين قام بملء طبقه من البوفيه وعاد إلى طاولته لالتهامه، فوجئ برأس صرصار مكتمل الشوارب يطل عليه من داخل طبق الرز المعمر، وحين ظن أن ما رآه كان هلاوس أنتجها الجوع، ساعدته الملعقة على رؤية باقي الصرصار الذي ساعد الزبيب واللوز المحمص على تمويه جثمانه. 

لم يكن سيلومه أحد لو انتفض صارخاً ولعن سنسفيل الفندق والعاملين فيه عن ميتين أبيهم، لكنه أدرك أنه لو فعل لأطاح بأرزاق عشرة بيوت على الأقل، إن لم يكن أكثر، في أيام كانت السياحة فيها تعيش أوضاعاً مأساوية. تمنى أن يكون الصرصار الذي وجده مقطوعاً من شجرة، وألا يكون له أقارب وأصدقاء مدفونون في صواني أخرى بالبوفيه، ثم قال لنفسه إن كثيراً من الموجودين لا يستحقون أصلاً الانشغال بمصيرهم الصحي، وحين لامه ضميره على المبالغة في الطناش، قرر أن ينتهز أقرب فرصة تواتيه للانسحاب في هدوء والذهاب إلى المشرف على البوفيه، ليعطيه كلمتين في جنابه ويطلب منه التصرف سريعاً، ثم قال لنفسه ساخراً إن وجود الصرصار في صينية الرز بالخلطة، حولها بشكل ما من طبق شرقي إلى طبق صيني، وأن ذلك يتماشى مع سياسة الدولة الحالية في التقارب مع الصين، مواصلاً الحديث مع نفسه والتظاهر بالأكل، وتصنع الاهتمام بما يقوله رفاق المائدة من اللواءات، حتى تحين فرصة للتسحّب نحو المطبخ.  

ما زاده قدراً عندي، أنه لم يحكِ لي الحكاية متفاخراً خلال سنوات صداقتنا الوثيقة، فلم أعرفها إلا بالصدفة، حين كنا ذاهبين لحضور فرح بأفخم فنادق القاهرة، وحين أنهينا أداء الواجب الثقيل وخرجنا، انقضّ على صاحبنا رجل يرتدي قبعة الطاهي، وانهال عليه بالقبلات والأحضان، بل وحاول أن يقبل يديه، قائلاً إنه لن ينسى له أبداً أنه أنقذ حياته، وأنه مدين له هو وأسرته بكل ما وصل إليه، وأنه يدعو له في كل صلاة بالستر والصحة، هو وكل زملائه الذين تذكره بعضهم بالدعاء في الكعبة، وبدا أن لدى الطاهي استعدادا لأن يواصل الثناء والتعبير عن الامتنان، لولا أن صاحبنا استأذنه لكي ينصرف لأنه مرتبط بموعد، فلم يتركه الطاهي إلا بعد "حُضن مطارات". 

كان واضحاً على ملامح صديقي أنه تأثر للغاية بما سمعه من الرجل، وبدا مفاجَئاً به، وحين ركبنا السيارة، ضحك بشدة بعد أن قال لي إنه سيكون من المثير للاهتمام أن يدخل عربيد مثله الجنة بسبب صرصار، ثم حكى لي الحكاية.     

 .......

ملابسات مختلفة 

لم أنجح في منع نفسي من النظر إلى وجه الآسيوية الجميلة النائمة في الكرسي المواجه لي في القطار، على الفور تذكرت رواية (الجميلات النائمات) للأديب الياباني ياسوناري كاواباتا، ثم بعدها بقليل تذكرت كيف تأثر الأديب الكولومبي جابرييل جارسيا ماركيز برواية كاواباتا، وقرر بعد مرور عدد من السنين أن يعارضها على طريقته الخاصة بروايته (ذكرى غانياتي الحزانى)، وقلت لنفسي: من يدري ربما تصحو الجميلة النائمة قبل أن نصل إلى بوسطن بكثير؟ فتسألني عن الوقت، أو أين أصبحنا بالضبط، لأنتهز الفرصة وأفتح معها حديثاً عن حياتها، قد يقودني إلى معارضة روائية أو حتى قصصية لكل من كاواباتا وماركيز، لكن الفكرة ماتت على الفور، بعد أن تدفقت غازات كريهة من طرف الجميلة النائمة، التي كانت تعاني على ما يبدو من انتفاخ مبين، فلم أعد أفكر في شيء يخصها، سوى البحث عن كرسي متاح بعيداً عنها. 

......


سواحل 

قال لنا مشرف الرحلة المتحمس، إن من لم يجرب نزول البحر في الليل، لا يصح له أن يدعي أنه قد عام في البحر من قبل. ولأن أغلبنا لم يكن له أن نزل البحر إلا في النهار، فقد تطوع الأستاذ المعروف لدينا بخفة الظل والأفكار غير التقليدية للإفتاء بأن العوم في النهار أخطر من العوم بالليل، لأن حركة الأمواج تكون أهدأ بالليل، فيصبح البحر رائقاً وممتعاً أكثر، لم يعارضه أحد منا لأن البحر كان وقتها هادئاً بشكل لم أعهده من قبل في بحر مدينتي، كان الأستاذ قد حدثنا في الطريق عن الفرق بين بحرنا الأبيض المتوسط، وهذا البحر الذي أسموه الأحمر، نسبة إلى شعابه المرجانية الحمراء، التي يأتي السياح من آخر بلاد الدنيا لرؤيتها، والتي سنذهب في النهار التالي لزيارة أفضل الأماكن التي تتيح رؤيتها. 

لم أحتج إلى كثير من الوقت بعد نزول الماء، لأدرك أن هذا البحر الهادئ مخيف أكثر مما تصورت، كان المشرف قد نبّه علينا مراراً وتكراراً أن نظل متقاربين من بعضنا، بحيث يكفي أن يمد أحدنا يده ليمسك بزميله فوراً، وحين سأله أحدنا عن سبب تشديده على ذلك بينما البحر هادئ ورائق، قال بجدية إنه لا يخاف من البحر، بل من أسماك القرش التي تنشط أكثر في الليل، وقبل أن يندفع أغلبنا للخروج من البحر مذعورين، جلجلت ضحكته وأقسم أنه كان يمزح ليختبر شجاعتنا، لنهجم عليه محاولين إغراقه، ويسود ضحك صاخب سرعان ما انطفأ حين اكتشفنا اختفاء محمود، الذي لم نفهم سريعاً، برغم أننا لم نكن أطفالاً، معنى واضحاً لعبارة "سَحَبُه البحر"، تلك العبارة التي لم تقنع أهله بعدم جدوى مقاضاة المدرسة، ولم تمنع المدرسة من فصل المشرف، لكنها كانت كافية لكي لا ينزل أحدنا مجدداً وأبداً إلى البحر، أي بحر.  

..........

غيّة 

كان صخبهما غريباً على أجواء الحديقة المنعزلة، التي قضيت فيها أكثر من ساعة دون أن أسمع صوتاً، إلا لسيارة تعبر الطريق القريب، أو ثمرة تسقط من أعلى الشجرة التي لم أكن أعرف نوعها، ولذلك لم أعرف كُنه ثمارها التي تواصل التساقط على الأرض. 

كان الصخب صادراً عمن اتضح حين اقتربا أنهما عجوزان، في حين ظل الشاب الذي يسير بينهما صامتاً، وحين اقترب الثلاثة أكثر، بدا أن ما كان يحمله الشاب على كتفه، ليس عصا خشبية طويلة كما ظننت، بل صنارتي صيد صغيرتين، وبدا أيضاً أن صخب العجوزين لم يكن غناءً، بل مجرد غمغمات غير مفهومة تعلو أحياناً أكثر من اللزوم، ثم تنخفض قليلاً مع نظرات الشاب المعترضة التي ترافقها ابتسامة حازمة. 

حين وصل الثلاثة إلى الكرسي الذي أجلس عليه، توقف العجوزان عن إصدار أي أصوات، وصوّبا رأسيهما نحو الأرض في حركة متجانسة يبدو أنهما قد تدربا عليها من قبل، في حين هز الشاب رأسه محيياً ومبتسماً، وبعد أن تجاوزا الكرسي عادا ثانية للغمغمات الفوضوية، التي كانت أحياناً تعود لاكتساب شكل الغناء، كان لطف الشاب قد منعني من إطالة النظر في وجهيهما، لكن النظر إلى وجهيهما كان كافياً لإدراك أنهما شقيقان، توأم ربما، ولذلك ربما اعتادا أن يلبسا نفس الملابس، ويسرحا شعرهما بنفس الطريقة التي لا يمكن أن تراها إلا وتخيلت خلفها أماً تحملت الكثير، وأباً أنفق الكثير. 

تزايد صخبهما حين وصلا إلى طرف الرصيف الذي يجب أن يعبرا بعده الشارع، ولم يهدآ إلا حين قام الشاب بمنح كل منهما صنارة، لم يكن حجم الصنارتين متناسباً مع ضخامتهما، ولا مع ما أعرفه عن عمق واتساع البحيرة التي كان بيننا وبينها عشرة دقائق من المشي على الأقل. سألت نفسي عما إذا كان مأموناً أن يذهب بهما الشاب بمفرده إلى البحيرة التي تحذر لافتات عدة من النزول فيها لامتلائها بالبكتريا، وكيف يمكن أن يضمن أن أحدهما لن يرمي بنفسه في البحيرة في حركة مفاجئة. 

لكن أفكاري المتطفلة على خطط الجمع الصغير توقفت حين فوجئت بالعجوزين وقد جلسا على الرصيف متباعدين عن بعضهما بعض الشيء، وجلس الشاب في المنطقة الفاصلة بينهما وأخرج كتاباً من جيبه وبدأ في قراءته، في حين أخذ كل منهما يرمي صنارته في عرض الطريق، وينتظر قليلاً قبل أن يجذب الصنارة بحماس، ويصدر غمغات ما، يبدو من بعضها أنه يغيظ أخاه أو يستحثه لكي يجذب هو الآخر صنارته، ثم يعودان لرمي الصنارتين ثانية، دون أن يكترثا بعبور السيارات القليلة، أو يوجها لها أي عتاب، لأنها تعرقل صيدهما، ليظلا في ذلك الطقس العجيب نحو ساعة، لم أقرأ فيها حرفاً من كتابي، الذي لم يكن ليمنحني بهجة وشجناً، كالذي منحني إياه الصيادان العجوزان الجذلان ورفيقهما الصبور. 

دلالات

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.