الحاج زكوان وابنة شيخ الجامع!

الحاج زكوان وابنة شيخ الجامع!

24 أكتوبر 2018
+ الخط -
من الظرافة بمكان أن تصادق من هم أكبر منك سناً وترافقهم وتفيد من تجربتهم الحياتية، حيث تستقي من خلالها العبر والدروس بالمجان وذلك وفق مبدأ: "أكبر منك بيوم أعلم منك بسنة"..

وهذا ما حصل معي شخصياً يا طويل العمر، حين كنت في ريعان الصبى حيث جمعتني الصدفة بالحجّار البارع الحاج زكوان ذاك العجوز المتفوّه صاحب الكاريزما الملفتة؛ قصير القامة مربوع البدن مكفهرّ القسمات ذو وجه متغضّن تظنه للوهلة الأولى قد قُدّ من حجر..

ووفق مُعلّقة شاعرنا الكبير أمرؤ القيس، تستطيع أن تقول عنه: "كجلمود صخر حطّه السيل من عل" حيث طبعته هذه المهنة بميسمها، فحفر الزمان تلك الخريطة من الخطوط العجيبة على وجهه.. ولكل خط قصة وحكاية، فالحياة عركته بحلوها ومرّها وذلك منذ نعومة أظفاره ولم ينل من التعليم إلا قليله..


وحين سألته عن السبب قال: هربت من الكتاب بعد أول يوم من حضوري إليه، فالخوجة ابنة إمام الجامع كانت صارمة كسيف بتّار وصوتها كجاروشة عبدالله أبو الضبع، فحين تزعق بنا كان قلبي يرتجف وأقول: الله يسامحك يا ستي على هذه الورطة، فأنت السبب بإقناع والدي لإرسالي إلى هنا وابتلائي بهذه المصيبة.

ثم تابع الحاج زكوان حديثه بعدما أعاد إشعال لفافة التبغ التي لا تغادر فاه قائلاً: فتحت خوجتنا القرآن الكريم وبعد البسملة والنحنحة بدأت بقراءة "سورة الناس"، وحين وصلت إلى الآية الرابعة عَلّت من نبرة صوتها: "من شر الوسواس الخناس"، ثم أعادت قراءتها من جديد وهي تنظر إليّ من أعلى نظارتها الطبية السميكة، فارتعدت أوصالي وخفق قلبي من شدة الخوف حين ذكرت كلمة الخناس دون أن أعرف معنى هذه الكلمة أو سبب خوفي من سماعها..

فقلت لها: يا معلمتي لماذا لم تبدئي بفاتحة الكتاب، فجدتي فطوم كلما بدأت صلاتها تبدأ بها؟ ففنجرت الخوجة عينيها وحدقت بي.. وليتني لم أعش تلك اللحظة السوداء التي نزلت على رأسي كصاعقة، حيث أزبدت خوجتنا وأرعدت وقالت: "والله كويس.. بدك تعلمنا كمان شغلنا؟ تعال محلي وصير خوجة"..

قلت العفو منك يا خوجتنا أنا لا أقصد الإساءة إليك بل.. فزعقت من جديد بوجهي رافعة خيزرانتها الصفراء كقسماتها قائلة: اخرس ولا تعيدها مرة أخرى وإلا أنزلتك إلى جب الفار!

ثم تابع الحاج زكوان قائلاً: ومن يومها كان فراق البين بيني وبين الكتّاب، إذ رأيت الفئران في منامي، ولأكثر من مرة أفيق مذعوراً صارخاً ومشيراً بإصبعي صوب الوسادة، حتى ظنّت أمي أن مسّاً أصابني. وحين شرحت لها في اليوم التالي حكايتي أقنعت والدي بدورها فأعفاني من الذهاب لابنة شيخ الجامع، وأخذ هو يعلمني الأبجدية حين يفرغ من عمله.
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
B3B9992A-7FF9-4929-A335-A7E6C89340AB
مصطفى الدروبي
مصطفى الدروبي